محاكمات الصحفيين في تونس: قوة ردة الفعل ضدها تحول مفهوم الردع الجزائي الى خانة الازمة


2013-09-17    |   

محاكمات الصحفيين في تونس: قوة ردة الفعل ضدها تحول مفهوم الردع الجزائي الى خانة الازمة

تولى قاضي التحقيق بالمكتب العاشر بالمحكمة الابتدائية بتونس صبيحة يوم 13 سبتمبر 2013 اصدار بطاقة ايداع في حق الصحفي التونسي زياد الهاني على خلفية شكاية تقدم بها وكيل الجمهورية لدى نفس المحكمة ضده، على خلفية شتمه.وفي ذات اليوم، انتصبت دائرة الاتهام لدى محكمة الاستئناف بتونس لتقرر الافراج عن الصحفي الموقوف. ويؤشر تعارض القرارين القضائيين وشبه تزامنهما عن حالة الارباك التي رافقت الابحاث.

صدرت بطاقة الايداع بالسجن في حق عضو المكتب التنفيذي السابق بنقابة الصحفيين بعد جلسة استنطاق أولى اثار خلالها الدفاع مسألة وجوب انتظار مآل مطلب استجلاب القضية من المحكمة الابتدائية بتونس الى غيرها من المحاكم والتي سبق وتقدم بها وكيل الجمهورية الذي اعتبر ان صفته كشاك تتعارض مع مسؤوليته كممثل ادعاء عام. وبعد ان استجاب قاضي التحقيق للطلب قرر اصدار بطاقة الايداع بعد ان قدر ان التهمة توجب الايقاف التحفظي. واعقبت القرار موجة ضخمة من الاحتجاجات امام مكتب قاضي التحقيق حاول خلالها المحتجون منع تنفيذ البطاقة القضائية.
وقبل ان ينفض جمع المحتجين من امام مكتب قاضي التحقيق، كان ملف القضية بناء على مطلب استئناف قدم ضد قرار الايقاف ينتظر بمحكمة الاستئناف حيث انتصبت دائرة الاتهام لتقرر الافراج عن المتهم مقابل كفالة مالية. كان الايقاف في تقدير الدفاع متسرعا وكان الافراج باعتبار جريان العمل أكثر سرعة. فذات القضاء الذي قدر خطورة التهمة واعتبر الايقاف ضروريا في مواجهتها عاد سريعا ليقرر الافراج بما ذكر بسوابق قضائية تعلقت بقضايا لامست مراكز النفوذ في الشارع وبما يدفع للسؤال عن كيفية حصول سرعة احالة ملف القضية من مكتب التحقيق الى محكمة الاستئناف اين تنتصب دائرة الاتهام.

اختار وكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بتونس ان ينظم لجملة السياسيين والشخصيات العامة التي رفعت شكايات جزائية بصحفيين على خلفية ما نالهم من ضرر جراء التعرض لهم من قبل هؤلاء. والتفت النيابة العمومية في قرار فتحها للبحث الجزائي عن مرسوم الصحافة الذي ينص في الفصلين 56 و57 منه على الخطية المالية كعقوبة لجرائم الثلب التي تقترف باستعمال وسائل الصحافة واختار الادعاء ان يلتجئ لقواعد القانون الجزائي العام الذي ينص على عقوبات سجنية في تصور يبرز مقاومة سلبية من القضاء للتوجه التشريعي الذي برز بعد الثورة والذي يمنع سجن الصحفيين في قضايا الثلب. وكان في ايقاف الصحفي زياد الهاني على خلفية شتمه لوكيل الجمهورية بالتالي رسالة تتضمن تعبيرا عن الضجر الحاصل من تواتر استغلال الاعلاميين للمنابر التلفزية والمواقع الاعلامية لتوجيه تهم لأشخاص يحتلون مناصب عامة وضد ما تعتبره هذه الشخصيات محاولات لتحقيرها تحت غطاء شعار حرية التعبير. وحاول بالتالي قرار الايقاف ان يصنع الصدمة التي تعيد الاعتبار للمتضررين من افعال عدت تجاوزات اعلامية. وبدا قرار الايقاف في القضية التي أثارها وكيل الجمهورية دون غيرها من القضايا المماثلة بمثابة رسالة توجهها المؤسسة القضائية مفادها أن النيل من أحد رموزها يعد تجاوزا خطيرا يوجب ردا رادعا. كانت رسائل الايقاف تصعيدية في نسقها وتنذر بتطور في التعاطي مع الاعلاميين غير ان المساندة الواسعة التي حظي بها الصحفي المتهم من قبل الاوساط الحقوقية وجمعية القضاة التونسيين جعلت قرار الافراج يأتي بسرعة أكبر من المتوقع ومنعت سرعة الافراج بالتالي الايقاف من تحقيق أهدافه التي تتجاوز نطاق ملف القضية، منهية بذلك تصورا حاول أن يجعل من القضاء الجزائي قيدا على حرية الاعلام وأداة توظف لإعادة انتاج الرقيب الذاتي لدى الاعلاميين بشكل يمنعهم من نقد الشخصيات العامة ومن التعرض لأخطاء السياسيين تحت طائلة الخوف من التتبعات والسجن الذي تنذر به.

وهكذا، تحولت القرارات السريعة يوم صدور أول حركة قضائية أشرفت عليها هيئة قضائية مستقلة الى مناسبة لمحاكمة القضاء من قبل القضاة الذين ساءهم تضارب المواقف ومن قبل الحقوقيين الذين ساءهم اصرار المؤسسة القضائية على اهمال مقتضيات مرسوم الصحافة الذي يمنع تطبيق العقوبات السالبة للحرية على الصحفيين. اذ ومع حلول مساء يوم 13 سبتمبر، تبين ان فكرة الردع الجزائي التي طالما كانت الاختيار الامثل في مواجهة الاعلاميين سواء من اجل تجاوزاتهم أو سعيا لإخراسهم انتهت الى الافلاس ليبقى السؤال حول السبيل الى اصلاح المؤسسات بشكل يمنع من استغلال الصحفيين لسلطتهم الفعلية للاعتداء على الاشخاص دون اعتبار لحقوقهم بدعوى حرية الصحافة وحق الاعلام في الحرية وبشكل يمنع بالتوازي مع ذلك من استغلال المؤسسات الرسمية لسلطاتها القانونية لإرهاب كل من يستهدفها بدعوى الحفاظ على هيبة المؤسسات.

وقد يكون في الازمة الراهنة على سلبياتها دعوة الى الخروج عن منطق البطل الذي يخرس خصمه ويذله او ذاك الذي يفك قيوده رغما عن قوة سجانه الى فضاء يقوم على المؤسسات وتحميل المسؤوليات. ويكون ذلك في إطار اخلاقيات تدين كل تجاوز وتكشف كل خلل وقضاء يحترم مبدأ الحرية ويكفل لكل من تعرض لتجاوز من قبل اعلامي او مؤسسة اعلامية الحق في رد اعتباره والتعويض العادل عن ضرره عبر التقاضي المدني دون حاجة لسجن ولا لسجان في مواجهة قلم ولسان. وقد تكون صدمة المحاكمة مناسبة للتفطن لان كل تغيير حقيقي يكون في منطلقه تغييرا ثقافيا وهو الامر الذي ظل غائبا عن الذهنية العامة.

الصورة منقولة عن موقع www.mosaiquefm.net

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكمة عادلة وتعذيب ، مقالات ، تونس ، حريات عامة والوصول الى المعلومات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني