لم يمر البيان الأخير لوزارة العدل حول وسائل التواصل الاجتماعي من دون تباين واسع في الآراء، حقوقيا واجتماعيا، حول استعادة محاور نقاشات سابقة مُتعلّقة بالحقوق والحريات في الفضاء العام، وخاصة منها حرية التعبير. إلا أن هذا البيان لم يَلبث أن وجد تنفيذا وتنزيلا بالغ السرعة على أرض الواقع، عبر إيقاف عدد من المؤثرات والمؤثرين مباشرة إثر إذن وزيرة العدل للنيابة العمومية باتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة للتصدي للمحتويات المعلوماتية التي تتعارض مع “الآداب العامة” و”تمس من القيم الأخلاقية”، و فتح أبحاث جزائية في الغرض. وقد أذنت النيابة العموميّة في المحكمة الابتدائية في تونس لأعوان الفرقة المركزية للحرس الوطني بالعوينة يوم 28 أكتوبر 2024 بإحالة خمسة من صنّاع المحتوى على تيكتوك وانستغرام بحالة تقديم ثم إصدار بطاقات إيداع بالسجن في حقهم، وإحالتهم على أنظار المجلس الجناحي لمحاكمتهم من أجل تهم تتعلق بـ”التجاهر بالفحش ومضايقة الغير عبر شبكات التواصل الاجتماعي وغيرها من التهم ذات الصبغة الأخلاقية”. وقد أصدرت آخر الأسبوع الفارط الدائرة الجناحية التاسعة في المحكمة الابتدائية في تونس حكما بالسجن لمدة أربع سنوات ونصف ضد صانعة محتوى.
أعقبتْ تلك الإيقافات نقاشات على وسائل التواصل الاجتماعي حول الجدوى منها، بين مؤيد ومتحمّس لها (حتى بين بعض صناع المحتوى أنفسهم) ومُعارض لتبعاتها بسبب إمكانية التأويل القانوني الفضفاض لمفهوم “الأخلاق الحميدة”، أو لعدم تطبيقه على صناع محتوى آخرين يُروجون لمستوى أكثر هبوطا من الناحية الأخلاقية من صناع المحتوى الموقوفين، حسب رأيهم. كما عارض الكثيرون هذه الإيقافات لأسباب إنسانية، خصوصا وأن إحدى الموقوفات كانت حاملا، وهو ما خلق نوعا من التعاطف معها.
عقلنة الحرية لا تعني الزجر
لم يكُن المُحتوَى الموصوم بالإسفاف أو “الهبوط الأخلاقي” -مثلما يرى البعض- مقتصرا على وسائط التواصل الاجتماعي، بل كانت بداياته على المستوى الإعلامي وخصوصا لدى بعض القنوات الخاصة، التي كثيرا ما اتُهمت بالترويج لثقافة التفاهة كسبيل للنفع المادي والحصول على حصّة من الإشهارات التجارية والترفيع في نسب المشاهدة قبل أن تمتد إلى عدد من المنصات الرقمية. مع ذلك لم يقع التحرك لمواجهة مثل هذا المحتوى على مدى سنوات، قبل أن يتم اللجوء بشكل مُفاجئ إلى مجموعة من الحلول القصوى دون اتباع سياسة التدرج في العقوبات أو مبدأ التناسب. في وقت كان من الأجدى فيه منطقيا تطوير المنظومة التشريعية في هذا المجال بغاية التعديل العقلاني للمحتوى المنشور في وسائل التواصل الاجتماعي مع ضمان الحقوق الفضلى للقُصر والفئات الهشة.
ويذكر في هذا السياق أن عديد التشريعات عالميا قد حرِصَت على تحييد بعض الآثار الناتجة عن الاستخدام السلبيّ للإنترنت على بعض الفئات. ويُمكن أن نذكر هنا القانون الفدرالي الأمريكي الخاص لحماية خصوصية الأطفال على الأنترنت (COPPA) الذي يسعى لحماية الأطفال الذين تقلّ أعمارهم عن 13 سنة عند الاتصال بالإنترنت وذلك من خلال منع الحصول على البيانات الشخصية للطفل من دون معرفة أحد الوالدين بها والموافقة عليها. كما يَفرض على المنصات الإلكترونية توضيحا لسياسات الخصوصية الخاصة بها والمسؤوليات المحمولة على الموقع لحماية خصوصية الأطفال وسلامتهم في الميدان الرقمي وحظر تقديم أية معلومات شخصية إضافية من قبل الطفل للمشاركة في إحدى الألعاب أو الدخول في مسابقات إلكترونية. واتجهت بعض التشريعات إلى تحميل المسؤولية القانونية لمنصات التواصل بخصوص المحتوى الذي يُمكن أن يمس بـ”الجانب الأخلاقي” بدرجات متفاوتة، ويمكن العودة هنا مثلا إلى قانون NetzDG الألماني الصادر في سنة 2017 الذي يُشدّد على إلزام المنصّات بوضع نظام خاصّ للإبلاغ عن المحتوى غير المشروع بطريقة يَسهل التعامل معها من قبل المستخدمين، وإلزامهم بعد ورود البلاغات بالتحقق من مشروعية أي محتوى قبل اتخاذ أي إجراء في شأنه.
علاوة على ذلك أثبَتت السياسة الزجرية أوجه القصور في معالجة هذه الإشكاليات، حيث أصبح التوجه العالمي في الأمن المعلوماتي اليوم يقوم على سياسة تشاركية متعددة الأطراف، تنخرط فيها الحكومة والمجتمع المدني والإطار الأكاديمي والمختصون في الشأن المعلوماتي وتوصيات المنظمات الدولية، وذلك لضمان أكبر قدر من النجاعة في التوفيق بين معادلة ضمان حرية التعبير والتصدي للمحتوى غير المشروع أو الضار.
هل وراء المنع مقاصد سياسية؟
من الملاحظ أن جزءا مهما من مضمون الإعلام السياسي المهيمن الذي يطمح إلى مخاطبة شرائح واسعة من الناس، يحظى بالانتشار اليوم في وسائل التواصل الاجتماعي وخصوصا منصة التيكتوك. وتُحبذ عديد التيارات الشعبوية هذه الوسيلة بالذات مُقابل الإعلام التقليدي الذي يُعتبر -حسب رؤيتها- من بين الوسائط المُساهمة في تزييف الوعي. بل يُمكن اعتبار الدعاية السياسية ضمن التيكتوك مثلا ك”صناعة محتوى” مٌوجهة ومنظمة، وتستهدف التأثير في التوجهات الاجتماعية العامة بشكل مباشر. وبالتالي يُمكن قراءة البيان الأخير لوزارة العدل وما يستتبعهُ من إجراءات في إطار سياسي، كرافعَة لتعزيز حضور هذه البروباغندا السياسية في الوسائط الاجتماعية من خلال محاولة الاستفادة من تقليص “المحتوى غير الأخلاقي” أو”التافه” وتعويضه إن اقتضى الأمر، لأنه يعتبر بشكل من الأشكال منافسا لها بحكم الانتشار الواسع الذي حظي به.
علاوة على ذلك، تُمثل هذه الإجراءات أداة مثالية للترويج لدور أبوي للدولة، بوصفها رافعَة لواء حماية القيم الأخلاقية والاجتماعية، أي أن هذه الإجراءات تصبّ في خانة البحث عن شرعية أخلاقية وقيمية جديدة للدولة في نظر شرائح واسعة من الفئات المحافظة اجتماعيا، بعد أن تم ضمان استمرارية ما للشرعية السياسية عبر الانتخابات الرئاسية مؤخرا. وهو ما سيُفرز في النهاية مجالا جديدا للهيمنة السياسيّة والتحكّم في الفضاء العام تحت رداء الحفاظ على “الأخلاق الحميدة”، وفي انسجام أيضا مع خطاب السلطة في مهاجمة منظمات المجتمع المدني، التي اتهمتها دائما بضرب القيم الأخلاقية للمجتمع والترويج لأفكار مستوردة كمسوغ إضافي لمهاجمتها والتضييق عليها. كما يُمكن قراءة هذه الإجراءات سياسيا كمناورة لخلق نقاش جديد في الفضاء العام حول محاور أخلاقية قد تفرز قدرا من التباين في الآراء وتحوّل وجهة الاهتمام العام عن المشاغل الاقتصادية مع اقتراب النقاش حول مشروع قانون المالية، الذي من المنتظر أن يحتوي إجراءات اقتصادية مندرجة ضمن سياسة التقشف والتقليص في حجم الخدمات الاجتماعية والعمومية للدولة.
التوجه السريع نحو الردع
لا يمكن النظر إلى هذه الإجراءات بمنأى عن سياسة التضييق على المجال العام عموما، وإن اتّخذت شكلا “قيميا” هذه المرة. وقد تمّ الاستناد في هذه الإجراءات إلى عدد من الجرائم الواردة في مجلة الاتصالات على غرار الإساءة للغير عبر الشبكات العمومية للاتصالات، ومُضايقة الغير بوجه مخلّ للحياء. كما توجد بعض النصوص القانونية الأخرى التي يُمكن تأويلها بتوسع في هذا الجانب مثل الفصل 226 من المجلة الجزائية الذي ينص على عقوبة سجنية بستة أشهر “للتجاهر عمدا بفحش” والفصل 226 مكرر الذي ينُص على أنه “يُعاقب بالسجن مدة ستة أشهر وبخطية مالية قدرها ألف دينار كل من يعتدي علنا على الأخلاق الحميدة أو الآداب العامة بالإشارة أو القول أو يعمد علنا إلى مضايقة الغير بوجه يخل بالحياء. ويستوجب نفس العقوبات المذكورة بالفقرة المتقدمة كل من يلفت النظر علنا إلى وجود فرصة لارتكاب فجور وذلك بكتابات وتسجيلات أو إرساليات سمعية أو بصرية أو إلكترونية أو ضوئية”.
هذا اللجوء إلى التسريع بإصدار بطاقات إيداع بالسجن يتعارض بشكل كبير مع فلسفة السياسة الجزائية المعاصرة التي تتجه نحو الحد من التجريم والعقاب، والتخفيف من الوصف الجنائي لبعض الأفعال أو سن عقوبات بديلة عن العقوبات السالبة للحرية في الجنح أساسا. علاوة على أن التضخم التشريعي وكثرة النصوص التي من الممكن العودة إليها في التكييف القانوني لهذه الأفعال (خصوصا إذا ما تم الالتجاء إلى تأويلها بشكل تعسفي) يؤدي إلى ضرب مبدأ عدم جواز الاعتذار بجهل القانون، وهو ما يمس كذلك بمبدأ السلامة القانونية تبعا لذلك. كما أن هناك عديد الوسائل أو الإجراءات التي كان من الممكن اتخاذها بشكل متدرج ونسبي، ومن بينها التنبيه أو فرض عقوبات مالية عوض الانجرار بشكل مباشر إلى العقوبات السجنية. وهو ما يعكس استسهالاً واضحا في المرور إلى الخيار السجني دون مراعاة الآثار السلبية لذلك.
عموما، تخلق مثل هذه الخطوات حافزا جديدا للصّنصرة الذاتية ومناخًا جديدا من التخويف داخل وسائل التواصل الاجتماعي بعد المرسوم 54 الذي أبان عن خطورة كبيرة في انتهاك حركة حريات النشر والتعبير والصحافة. فالموازنة بين القيم الاجتماعية وحرية التعبير تقوم على نموذج ثقافي وتربوي متكامل لا يخضع لـ”نزوات” سياسية وقضائية مفاجئة، تحكمها مقاربات عشوائية واعتباطية، بهدف البحث عن مُنجز يتوارى خلف المعايير القيمية ليُخفي النقاش حول الأزمات الاجتماعية والاقتصادية الحالية. كما أن الحرص المُفاجئ على مواجهة “محتوى الرداءة والتفاهة” ضمن وسائل التواصل الاجتماعي بعد فترة طويلة من التسامح النسبي تجاهه يطرح عديد التساؤلات عن المنهجية الحقيقية التي تقف وراء الخطوات الحالية. فبعد عمليات “التدجين” السياسية المكثفة لعدد من المؤسسات الإعلامية الإذاعية والتلفزية، من الواضح أن الوقت قد حلَّ للسيطرة التامة على وسائل التواصل الاجتماعي التي بقيت رغم عديد التضييقات، ورغما أيضا عن سلبياتها التي لا يُمكن إنكارها، منبرا ومتنفسا لدى شرائح واسعة للتعبير عن الرأي.