محاسبة القضاة الإداريين: الهرمية والإنتقائية على أنقاض المساءلة والاستقلال


2020-06-23    |   

محاسبة القضاة الإداريين: الهرمية والإنتقائية على أنقاض المساءلة والاستقلال

يشكّل تفعيل آليات المحاسبة داخل القضاء ضرورة لضمان استقلاله. وهذا الأمر ينتج عن اعتبارات عدة: أنّ مبادئ الديمقراطية تفرض تعزيز محاسبة المسؤولين العامّين بقدر ما تزيد مسؤوليّاتهم. كما أنّ طبيعة الوظيفة القضائية تفترض توفّر ثقة عامة بحياديّة القائمين بها. ومن هنا، ثمّة خلل متكرّر في خطاب إصلاح القضاء ناتج عن فصل إشكاليات مساءلة القضاء عن إشكاليات استقلالهم أو العكس. فمن شأن الاستقلالية في غياب المحاسبة أن تؤدّي إلى ارتياب عام بالقضاء، وتالياً إلى تجريده من ضمانة الحماية الشعبية. ومن شأن المحاسبة في غياب ضمانات الاستقلالية أن تؤدّي إلى تحويلها إلى وسيلة جديدة لتخويف القضاة والمسّ باستقلالهم. وهذا ما قد يحصل من خلال المبالغة في تفعيلها في وجه من يعصى السلطة السياسية وحجبها عمّن ينسجم معها. وانطلاقاً من ذلك، نجد في أدبيّات القضاء العديد من الوثائق التي تهدف إلى المواءمة بين ضرورات المحاسبة وضمانات الاستقلالية، كأن تُحاط محاسبة القضاة بضمانات أساسية منعاً للتعسّف، أبرزها ضمان شروط المحاكمة العادلة لهؤلاء.

وإذ تبقى طريق المحاسبة العادية للقضاة الإداريين مشوبة بعيوب عدّة تؤثّر سلباً في حقوق القضاة والمتقاضين على حدّ سواء، يُسجّل علاوة على ذلك من حين إلى آخر ميل أكبر لدى السلطة السياسية أو حتى الهيئة القضائية المعنية بالتوجّه نحو آليات محاسبة أمكن تسميتها آليات بديلة أو موازية. ورغم اختلاف أشكال هذه الآليات العادية أو البديلة، فإنها تشترك في خلوّها من ضمانات المحاكمة العادلة، مما يمهّد لتعزيز الانتقائية في المحاسبة وتالياً ممارسات الهرمية ووضع اليد على القضاء.

الطريق العادية للمحاسبة

القاضي تحت رحمة الهرميّة والمتقاضي تحت رحمة السريّة

يظهر النظر إلى شروط المحاسبة العادية عيوباً عدّة، من شأنها التأثير سلباً في حقّ القاضي بمحاكمة عادلة ولكن أيضاً في حقّ المتقاضي في تعويض ضرره الناجم عن الأخطاء المسلكية للقضاة الناظرين في قضيته. وبالمحصّلة، لا يُلاحق أو يُبرّأ قاضٍ إلا بإرادة من أعلى الهرم في مجلس شورى الدولة ووزارة العدل. وتُظْهِر الحالات القليلة التي تمّ فيها تأديب قضاة المجلس أنه هدف إلى الحفاظ على الإنتظام العام الداخلي للمجلس ومعاقبة أي خروج أو تمرّد عنه أكثر مما هدف إلى معاقبة السلوكيات المنافية لحقوق المتقاضين. وهذا الأمر إنما ينجم عن تراكم أمور ثلاثة:

رئيس المجلس يتحكّم في التحقيق والمحاكمة

أوّل ما نلحظه في هذا السياق، أن ثمة ازدواجية وضبابية تشريعية في نظام تأديب قضاة مجلس شورى الدولة أدّت عملياً إلى تمكين رئيسه من جمع سلطة التحقيق (بواسطة قاضٍ يكلفه) في أخطائهم المسلكية وسلطة التأديب (من خلال ترؤّس المجلس التأديبي لقضاة المجلس). وبذلك، تمّ عملياً تعزيز السلطة الهرمية داخل المجلس ومعه نسف شروط المحاكمة العادلة. وقد نتج ذلك عن تطبيق نظام مجلس شورى الدولة الصادر في 1975، مع إهمال شبه كامل للتعديلات التي أدخلها قانون تنظيم القضاء العدلي في 1983 والتي أناطت سلطة التحقيق مع جميع القضاة بهيئة التفتيش القضائي (وهي هيئة مستقلّة عن مجلس شورى الدولة ومكوّنة من قضاة) بما يفصلها عن سلطة التأديب.

وعليه، يثور سؤال حول النظام الواجب اتباعه. هل يبقى نظام 1975 وحده النّاظم لملاحقة القضاة الإداريين طالما أنّ لتطبيق النص الخاص أولوية على النص العام، أم على العكس من ذلك، يعدّ أنه ملغى ضمناً بفعل وضع نظام أكثر ضماناً للمحاكمة العادلة في 1983 أم أنّ كلا النظامين يبقى ساري المفعول وقابلاً للتطبيق؟ وفيما لزمت هيئة التفتيش القضائي الصمت التام عملاً بالأصول التي تحكم عملها عند تقدّم مواطنين بشكاوى ضد قضاة إداريين أمامها، فإن رئيس المجلس ومكتبه يُبديان حرصاً على تطبيق نظام 1975 دون غيره، بما يبقي القضايا المسلكية للقضاة الإداريين محصورة داخل المجلس ولا تخرج عنه.

حقوق المتقاضين تحجبها السرّية التامة

أمر آخر يتهدّد نظام المحاسبة هو الضبابية حيال حقوق المتقاضين في ملاحقة الأخطاء المسلكيّة لقضاة المجلس. وتعود هذه الضبابية أيضاً إلى ازدواجية نظام الملاحقة: ففيما يكون لوزير العدل وحده حق مباشرة التحقيق بشأن أي أمر يبدو له أنه يستدعي الملاحقة التأديبية وفق نظام 1975، مكّن نظام 1983 أيّ متضرر من المطالبة بالتحقيق في شؤون القضاة المسلكية من خلال تقديم شكوى مباشرة أمام هيئة التفتيش القضائية. وهذه الإزدواجية تعود لتفرض مجدداً أسئلة حول النظام القابل للتطبيق، وتحديداً فيما إذا أدّى نظام 1983 إلى فتح طريق هيئة التفتيش القضائي أمام كلّ متضرر. وهنا أيضاً، تبقى الإجابات غير واضحة بفعل السرية التامة التي تحيط بسير الشكاوى والتحقيقات وصولاً إلى التأديب، فلا يجوز نشر أو إعلان أية معاملة من معاملات الملاحقة التأديبية ما عدا القرار النهائي إذا تضمّن عقوبة الصّرف أو العزل، أي إذا لم يعد القاضي قاضياً. وما يفاقم من هذا الأمر هو التطبيق الصارم لهذه السرّية، حيث تنتفي المعلومات ليس فقط حول أسماء القضاة موضوع الملاحقة أو التأديب أو الادعاءات الموجّهة ضدهم وتفاصيل التحقيق معهم، بل أيضاً حول عدد هذه الملاحقات ومآلاتها. ومن شأن هذه الأمور مجتمعة أن تزيد من شكوك المتقاضين وتضعف ثقتهم في آليات المحاسبة.

الإخلال بشروط المحاكمة العادلة

فضلاً عمّا تقدّم، يخلّ نظام التأديب المعتمّد في مساريه بشروط المحاكمة العادلة التي تشكّل جزءاً لا يتجزّأ من ضمانات استقلالية القضاء. فماذا يبقى من هذه الاستقلالية في حال أمكن ملاحقة القاضي ومعاقبته بعقوبات قد تصل إلى عزله من دون أن يكون لديه ضمانات المحاكمة العادلة؟ ومن أبرز مواقع الخلل بهذه الشروط، الآتية:

  • أنّ لوزير العدل توقيف قاضٍ محال على المجلس الـتأديبي عن العمل من دون أيّ ضوابط لجهة طبيعة الخطأ التأديبي أو مدة التوقيف أو تعليله مما يشكّل مسّاً باستقلالية القضاء. ومن شأن هذا الأمر أن يولي السلطة التنفيذية سلطة فائقة في التأثير على القضاة المعنيين بالملاحقة،
  • أنّ الملاحقة تحصل بموجب المادة 22 من نظام المجلس التي تشمل “كل إخلال بواجبات الوظيفة وكلّ عمل يمسّ الشّرف أو الكرامة أو الأدب”. وهو نصٌّ مبهمٌ يتكوّن من عبارات مطّاطة، على نحو ينتهك مبدأ أنّ لا عقوبة تأديبية من دون نص. وما يزيد من الإبهام هو مبدأ سرّية القرارات التأديبية، في القضاء الإداري كما في القضاء العدلي، الأمر الذي يحول دون ضبط مفهوم الخطأ التأديبي اجتهاداً. ويلحظ هنا غياب أيّ تصنيف للمخالفات أو أيّ ربط بينها وبين العقوبات وفق خطورتها،
  • أنّ المجلس التأديبي يتألّف حاليّاً من أعضاء حكميين كلّهم معيّنون بموجب مرسوم حكومي وهم على التوالي رئيس مجلس شورى الدولة رئيساً، ومفوض الحكومة نائباً للرئيس، والرئيسان الأعلى درجة من رؤساء الغرف،
  • أنّ قرار المجلس التأديبي لا يقبل أيّ طريق من طرق المراجعة بما فيها التمييز. ويكون نافذاً بحدّ ذاته بمجرّد إبلاغه إلى صاحب العلاقة. ومن شأن هذا الأمر أن يعزّز السلطة الهرمية في التأديب من خلال تجريد القاضي المعني من أيّة إمكانية للجوء إلى مرجع مستقلّ عنها.

وقد نما إلى “المفكرة” بأن قرارين تأديبيين فقط صدرا إبّان العقد الماضي (كلاهما في ظل ترؤّس شكري صادر لمجلس شورى الدولة) وأنّ هذين القرارين صدرا في (سنتي 2013 و2015) وقضيا بإنزال رتبة القاضيتين موضوع التأديب من مستشار إلى مستشار معاون. وفيما اتّصل القرار الأول بتغيّب إحدى القاضيتين المتمادي عن عملها، فإن القرار الثاني (وهو الأخطر) اتّصل بتقرير قدّمته الأخرى لوزير العدل بناء على طلبه، وشرحت فيه من وجهة نظرها المغالطات المرتكبة من مجلس شورى الدولة في قضية Imperial Jet والتي ترتّب بموجبها مبالغ طائلة على الدولة اللبنانية بلغت 184 مليون دولار أميركي. وهذه الحالة الأخيرة إنما تظهر بوضوح أنّ الدافع إلى التأديب لم يكن المسّ بحقوق أيّ من المتقاضين، إنما صون هيبة المجلس ومقاماته ومنع انتقادهم من قبل أيّ من قضاته وبكلمة أخرى الحفاظ على النظام العام الداخلي للمجلس.

المحاسبة البديلة

إلى جانب طرق المحاسبة العادية والتي بقيت محدودة جدّاً، تطوّرت أشكال أخرى من المحاسبة. وفي غالبية هذه الحالات، يزيد هامش السياسي في التدخّل فيها في مقابل إضعاف ضمانات القاضي المعني بها أو قدرته على الدّفاع عن نفسه. وبمعزل عن بعض النجاحات المسجّلة هنا وهنالك، فإنّ من شأن هذه الطريق أن تؤدي إلى تكريس ممارسات خطيرة من شأنها تثبيت ضعف القضاء وتعميقه.

التحقيقات البديلة

فيما يبقى دور هيئة التفتيش القضائي غير محسوم بفعل ازدواجية نظام الملاحقة وأيضاً بفعل ضعفها الهيكلي، عمد عدد من وزراء العدل إلى إنشاء آليات بديلة قوامها تلقّي شكاوى من المواطنين والتحقيق فيها. وتبرّر الوزارة ذلك عموماً بأن صلاحية تقديم الشكاوى إلى مجلس شورى الدولة أو هيئة التفتيش تخوّلها إجراء تحقيق أولي للتأكّد إذا كانت الدعوى جدية أو غير جدية. وما يعزز دور الوزارة في هذا السياق هو كونها الأقرب إلى المواطنين، وبالأخص إلى محازبي الفريق السياسي الذي ينتمي إليه الوزير أو محازبي شركاء هذا الفريق في الحكم. ويُضاف إلى ذلك موقع الوزير الإعلامي (الإعلاني). وقد بلغ هذا الجانب أقصاه مع وزير العدل الأسبق سليم جريصاتي الذي عمد إلى الترويج لدور وزارة العدل إعلامياً في مراقبة عمل القضاة، من منطلق أنّ وزير العدل هو وزير “الأداء القضائي” أو المرفق العام[1]. لا بل ذهب في إحدى القضايا إلى حد توجيه القاضي على مرأى ومسمع من وسائل الإعلام كافة، بحجّة أنّها من “الملفّات الساخنة” hot files[2]. وقد بدا من خلال ذلك وكأنه يدعو أي مواطن يستشعر إشكالاً في عمل القضاء أن يحمل شكواه إلى الوزارة، مع ما يستتبع ذلك طبعاً من تشريع لممارسة التدخّل في القضاء خدمة لمتقاضين في أحيان قليلة وللقوى السياسية والحزبية غالباً.

الدفع إلى الإستقالة

يؤدّي هذا الإجراء عمليّاً إلى وضع حدّ لخدمات القاضي، إنما من دون محاسبته تأديبياً ولا جزائياً عند الاقتضاء. كما يجيز هذا الإجراء للقاضي المعني تقاضي كامل تعويض نهاية خدمته مهما كانت جسامة العمل المقترف منه. وكان عبّر عدد من الشهود لـ”المفكرة” عن أن الدفع إلى الإستقالة يبقى الحل الأنسب في ظل ضعف المؤسسات الضامنة لتفعيل المحاسبة العادية. ويرى البعض أنّ للإستقالة فائدة ثانية وهي أنّها تجنّب القضاء محاكمات من شأنها أن تضعف الثقة فيه وتحول دون الربط بين المخالفة المرتكبة من القاضي والقضاء طالما أن الشخص المرتكب لم يعد بفعل استقالته قاضياً. من هذه الزاوية، تشكل الإستقالة ليس فقط ستراً للقاضي إنّما للقضاء برمّته.

وقد شهدنا في الفترة الأخيرة استقالة أحد قضاة مجلس شورى الدولة، وسط صخب إعلامي حول أسبابها. وفيما عزتها بعض وسائل الإعلام إلى شبهة رشوة، فإن القاضي المذكور أصدر بياناً[3] أوضح فيه أنّه آثر الإستقالة حين تمّت مساءلته بشأن ملفات معيّنة. وهذا التصريح إنما يؤكّد بشكل قاطع أنّ الإستقالة حصلت عوضاً عن المحاسبة وإجهاضاً لها.

واعتراضاً على هذه الممارسة، وجهت “المفكرة” بتاريخ 13/7/2018، إخباراً للنيابة العامة التمييزية داعيةً إياها إلى وضع يدها على ملف القاضي المستقيل، على أساس أنّ إصلاح الضرر الناجم عن ارتشاء قاضٍ لا يحصل من خلال دفعه إلى الإستقالة وحسب، بل يقتضي مباشرة ملاحقة جزائية ضدّه وضدّ الراشي[4]. وقد علّلت مطلبها بالأسباب التفصيلية الآتية:

أولاً، أنّ الإكتفاء باستقالة القاضي المشتبه بارتكابه رشوة من دون محاسبته لا يشكّل إجابة متناسبة مع خطورة الفعل المشتبه بارتكابه. فعدم التحقيق يُبقي الشبهة قائمة، مما يضرّ بالقاضي البريء كما يضرّ بالمجتمع في حال ثبوت الإرتشاء. ففيما أنّ من شأن محاسبة قاضٍ مرتشٍ أن تؤدّي مبدئياً إلى عزله وحرمانه من تعويضاته كاملة، وإنزال عقوبات حرمان من الحرية وعقوبات مالية بحقّه ومصادرة الرشى، تُمكّنه الإستقالة الحاصلة كبديل عن المحاسبة على العكس من ذلك تماماً من الإحتفاظ بما قبضه من رشى، علاوة على قبض أموال عامة إضافية تتمثل في تعويضات نهاية خدمته والتي تأتي بمثابة حبّة مسك تضاف إلى هذه الرشى. فكأنما تتمّ طمأنة القضاة الذين قد تسوّل لهم أنفسهم الإرتشاء أن بإمكانهم أن يحصّلوا ما شاؤوا من رشى قد تعادل أضعاف أضعاف سنوات من أجورهم، فإذا افتُضح أمرهم (وهو أمر نادر حصوله)، بإمكانهم حفظ كل ما جنوه من رشاوى ودرء أيّة محاسبة أو مس بالكرامة بالإستقالة. هذا فضلاً عن أنّ من شأن تمييع الحقائق أن يمنع الكشف عن احتمال تورط قضاة آخرين في الرشوة المشتبه بها، وخصوصاً أنّ قرارات مجلس شورى الدولة تتخذ ضمن هيئات مكوّنة من ثلاثة قضاة وأنّ نجاح القاضي المرتشي في تحقيق مآربه لا يكون عموماً ممكناً إلّا في حال استمالة أحد القاضيين الآخرين على الأقل،

ثانياً، أنّ الإكتفاء باستقالة القاضي المشتبه بارتشائه من دون تحقيق أو محاسبة، يؤدّي أيضاً إلى إبقاء الجهة الراشية (والتي غالباً ما تكون جهة نافذة) بمنأى عن أيّة محاسبة. وخطورة هذه الممارسة هي أنها تبقي ممارسات التأثير والتدخّل في القضاء، بما فيها الرشوة، قائمة من دون أيّ رادع. ومن شأن ذلك أن يؤدّي، ليس فقط إلى تشجيع الجهات النافذة والقادرة على المضي في هذا الاتجاه، إنّما أيضاً إلى إبقاء القاضي، الطرف الأضعف في المعادلة. وتحصل الأمور هنا تماماً كما يحصل في العلاقة بين عاملة الجنس والزبون، حيث تكون الأولى وحدها معرّضة للملاحقة وبإمكان الثاني أن يستغلها ويبتزّها كما يشاء من دون مجال لمحاسبته. بمعنى أنه يكفي النافذ أن يرشي القاضي مرة واحدة، ليكون بمستطاعه تسييره في كل مرة، تحت طائلة فضح أمره. فلا يكون هنالك أي مجال لصحوة الضمير أو للتوبة.

ثالثاً، أن الإحجام عن التحقيق في شبهة الإرتشاء يحول أيضاً دون ضمان حقوق المتضررين من الرشوة بالتعويض أو بتصويب مسار قضاياهم. ففي حال حجب الحقائق، كيف يكون للمتقاضي الذي تكبّد خسائر بفعل تواطؤ القاضي مع الجهة الراشية أن يسترجع حقوقه المهدورة أو أن يستحصل على تعويض تبعاً لضياعها؟

وقد بقي الإخبار الذي وجّهته “المفكّرة” من دون أيّة متابعة من النيابة العامة، بعدما نشأ جدل بينها وبين رئاسة مجلس شورى الدولة ووزارة العدل حول حصانات القضاة الإداريين إزاء الملاحقات الجزائية. ففيما طالبت النيابة العامة بتزويدها بملف التحقيق لاتخاذ الخطوات الضرورية، جاءها جواب بالرفض على خلفية أنّ للمجلس صلاحية مطلقة بملاحقة قضاته أو عدمها[5].

العزل والنقل

من وسائل المحاسبة البديلة الأخرى، استخدام مجلس الوزراء سلطته في إجراء تعيينات في بعض مراكز مجلس شورى الدولة (أهمّها تعيين رئيس مجلس شورى الدولة) لعزل أشخاص عن هذه المراكز أو دفعهم إلى الاستقالة تجنّباً للعزل بما يشكّل عقوبة مقنّعة بحقهم من دون تمكينهم من الدفاع عن أنفسهم.

الشاهد الأبرز على استخدام هذه الأداة، هو القرار الذي اتخذه مجلس الوزراء بتاريخ 3 آب 2017، بعزل القاضي شكري صادر عن رئاسة مجلس شورى الدولة[6]، مما دفع صادر إلى تقديم استقالته قبل إصدار مرسوم عزله ونشره للإحتفاظ بالإمتيازات التي يمنحها إنهاء عمله وهو لا يزال في هذا المنصب. وقد نقل عن وزير العدل آنذاك سليم جريصاتي بأن صادر ارتكب مخالفات جسيمة في عمله ولكنه رفض تحديد هذه المخالفات رغم مطالبته بذلك من عدد من الوزراء بحجة أنّه ليس عليه أن يفعل ذلك (الأخبار 4 آب 2017). وقد اختلف خطاب جريصاتي داخل مجلس الوزراء في الغرف المغلقة عن خطابه في العلن بعد انتزاع قرار مجلس الوزراء بعزل صادر. وهذا ما نستشفّه من تصريحه للـ”إم تي في” بتاريخ 5 آب 2017 حيث جاء: “لا أنا ولا الحكومة استقصدنا استهداف القاضي شكري صادر. ما حصل هو بهدف تغيير المنهج داخل القضاء”. ونفهم من هذا البيان أنّ الوزير عزا عزل صادر إلى رغبة العهد في تغيير النهج القضائي. وقد جاء هذا التصريح رداً على اتهام أحد الوزراء آنذاك (يوسف فنيانوس) الحكومة بأنها عزلت صادر انتقاماً منه. فـ”من لا يمشي مع هذا العهد بطيّروه”.

وبالنظر إلى هذه التصريحات المتناقضة، نكون أمام حالة من اثنتين:

إما أنّ صادر هو ضحية رغبة السلطة السياسية بوضع اليد على رئاسة المجلس بما تتيحه من تعزيز لنفوذها، وفي هذه الحالة تكون هذه السلطة قد أطاحت باستقلال القضاء تحت غطاء الإصلاح ومكافحة الفساد،

وإما أنّ ثمة شبهة جديّة على ارتكاب صادر أخطاء جسيمة. وفي هذه الحالة، تكون السلطة السياسية تستّرت على مخالفات يقتضي محاسبتها إنصافاً لحقوق المتضررين منها (والتي قد تكون الجهة المتضررة هي الدولة) وإعمالاً لمبدأ المساءلة واستنسبت إنزال عقوبة مقنّعة لمخالفات تم تجهيلها من دون تمكين القاضي المعني بها من الدفاع عن نفسه.

في كلتا الحالتين، تكون الحكومة أساءت استخدام صلاحيتها على حساب العدالة وحقوق المتقاضين كافة.

ومن تدابير المحاسبة الأخرى التي تلجأ إليها السلطة التنفيذية بالتنسيق مع مكتب المجلس أو تجاوزاً له، القرارات المتخذة في سياق تأليف الغرف في مجلس شورى الدولة وتوزيع الأعمال عليها، كأنْ يتمّ نقل القاضي من غرفة إلى أخرى في سياق إنزال عقوبة مقنّعه به. ولعلّ أسوأ ما في هذه المحاسبة، هو أنّها تبقى انتقائية ومبنيّة على معطيات غير موضوعية وتتم من دون تمكين القضاة من الدفاع عن أنفسهم.

  • نشر هذا المقال في العدد | 65 | حزيران 2020، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

القضاء الإداري: من يحمي الدولة ومن يدافع عنها؟


[1]  نزار صاغية، ماذا تعلّمنا قضية الحاجة خديجة؟ (1) الخطاب الشعبوي يشرّع أبواب التدخل في القضاء. المفكرة القانونية، 8 أيار 2017.

[2]  رانيا حمزة، مصطلح جديد للتدخل في قضية الريف: hot file  بقرار من وزير العدل. المفكرة القانونية، 17 أيار 2017.

[5]  إبراهيم الأمين ورضوان مرتضى، جريدة الأخبار، 16 تموز 2018. وأيضاً أعلن النائب العام التمييزي سمير حمود أنّه المرجع الوحيد المختصّ لملاحقة القضاة جزائياً بصورة تلقائية بمن فيهم قضاة مجلس شورى الدولة، وذلك سنداً لأحكام مواد قانون أصول المحاكمات الجزائية لا سيّما المادة 345 وما يليها والمادة 428 منه التي ألغت صراحة المادة 29 من نظام مجلس شورى الدوله (الوكالة الوطنية، 23 تموز 2018 ).

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، مجلة لبنان ، لبنان



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني