محاسبة القضاة، خطوات مُلفتة من دون غد


2013-06-19    |   

محاسبة القضاة، خطوات مُلفتة من دون غد

في 3 حزيران 2013، أعلن مكتب وزير العدل عن احالة قاضيين الى المجلس التأديبي مع وقف أحدهما عن العمل بقرار من أوزير العدل المستقيل شكيب قرطباوي بناء على اقتراح هيئة التفتيش القضائي. وقد بدأت فصول هذه القضية حين نشرت احدى الصحف اليومية (جريدة الأخبار) مقالا للصحفي محمد نزال حول قضية فساد متصلة بالترويج للمخدرات وذلك تحت عنوان: "قضاة وضباط يحمون شبكة مخدرات: ابن «النافذ» يفلت من العقاب" (الخميس 30/6/2013). وقد أبرزت الصحيفة الموضوع على غلافها الخارجي تحت عنوان عريض: "ضباط الكيف وقضاته". وتضمن المقال اتهامات خطيرة حول تورط ضباط وقضاة ذكرهم بالاسم، على نحو أدى الى تأخير إجراءات المداهمة فضلا عن صدور قرارات إخلاء سبيل لعدد من كبار المشتبه بهم في الاتجار بالمخدرات، أحدهم ابن رجل متمول ونافذ. وبالطبع، وصفت الصحيفة نفسها إحالة القاضيين على أنه انجاز لوزير العدل الذي وفى بوعده بإعلان نتائج التحقيقات خلال أيام من نشر المقال/ الفضيحة، بعدما ذكرت أن هذا الإنجاز انما يحصل في فترة تصريف أعمال تبعا لاستقالة الحكومة اللبنانية. وبالطبع، الفضيحة القضائية لم تعد أمرا جديدا، الجديد يكمن في إرساء أسس جديدة للتعامل مع الفضائح المذكورة المثارة إعلاميا، وفق نهج عبر عنه في محطات عدة وزير العدل شكيب قرطباوي الذي تسلم مهامه في منتصف 2011. وبالفعل، فقد نجح قرطباوي في العامين المنصرمين في فرض أسلوب جديد في مجال المحاسبة داخل الجسم القضائي، تمثل في أمرين اثنين:
الأول، أن تداول الإعلام مع الأخطاء أو المخالفات القضائية لم يعد امرا محرما أو مكروها في المطلق، بل على العكس من ذلك، دأبت وزارة العدل على التعامل مع الاتهامات الاعلامية على أنها اخبار يستوجب التحقيق والمحاسبة في حال ثبوت صحتها، وتاليا على أنها عنصر مساعد لها وللتفتيش القضائي في هذا المجال. وعليه، وبعدما كان أي اتهام اعلامي ضد القضاء يرتد اتهاما ضد صاحبه لأنه تجرأ على المس بهيبة القضاء، بمعزل عن خطورة الأفعال المعزوة للقضاة أو مدى صحتها، عادت الأمور لتصبح أكثر اتساقا مع مستلزمات النظام الديمقراطي في مجالات حرية التعبير في شؤون القضاء ومعها المساءلة والمحاسبة. وكان وزير العدل قد اتخذ موقفا مماثلا غداة نشر الصحفي نفسه مقالا في قضية أخرى (قضية غسان رباح) كانت أكثر خطورة في ضوء المناصب التي كان يشغلها رباح آنذاك (عضو مجلس قضاء أعلى ورئيس غرفة في محكمة التمييز)، وقد انتهت التحقيقات فيها الى فصل القاضي عن الخدمة بحكم أبرمته الهيئة العليا للتأديب، بعد سلسلة من المواقف الحازمة شارك فيها القضاء والمجتمع المدني.
وللوقوف على أهمية هذا التوجه الجديد، يهم مقارنة ما حدث في هاتين القضيتين مع المواقف السابقة إزاء الانتقادات الإعلامية. وفي هذا المجال، نذكر بشكل خاص بثلاثة مستندات أساسية:
الأول، هو مشروع القانون الذي كان وضعه وزير العدل آنذاك بهيج طبارة في 1998 تحت عنوان المس بهيبة القضاء، والذي أعلن أن هيبة القضاء قيمة بذاتها مماثلة من حيث أهميتها بهيبة الجيش، ولا تحتمل المس بها مهما كانت طبيعة الأخطاء المرتكبة من قبل القضاة الذين لا يحاسبون إعلاميا انما فقط من حلال المؤسسات القضائية. وقد تم التراجع عنه بعد تغير الحكم آنذاك،
والمستندان الآخران هما البيانان الصادران تباعا عن مجلس القضاء الأعلى وعن الجمعية العمومية للقضاة في 14 و17 تموز 2008، تبعا لحلقة تلفزيونية لبرنامج «الفساد» تناولت عددا من القضاة ولتصريحات النائب نبيل نقولا واللذين تميزا بنفس عقابي واضح. فمن جهة أولى، كُلّفت النيابة العامة التمييزية اتخاذ الإجراءات والملاحقات الفورية بحق كل من تناول ويتناول القضاء كسلطة أو القاضي بشخصه في ملفات ودعاوى فصل أو ينظر فيها، مهما علا شأنه ومهما تكون وظيفته أو الحصانة التي يتمتع بها (وضمنا مهما بلغت خطورة الفعل المنسوب الى القضاء أو الى القاضي بشخصه). ومن جهة ثانية، سعى المجلس إلى تفنيد الحصانات التي يستفيد منها النواب والمحامون والإعلاميون بدرجة أو بأخرى، شارحاً مبرراتها على نحو يوجب تجاوزها في حالات التعرض للقضاء. لا بل بلغ النفس العقابي أوجه حين طالب البيانان وزير العدل بتعديل قانون المطبوعات، ولا سيما ما يتصل بحظر التوقيف الاحتياطي في جرائم المطبوعات! وقد بدا القضاة بذلك وكأنهم يحبذون اتخاذ إجراءات رادعة فورية دون انتظار انتهاء المحاكمة، وأنهم تالياً على أتم الاستعداد للتضحية دون تردد بما يعد أحد أهم مكاسب الحريات العامة في لبنان على مذبح هيبة القضاء التي «قرروا ألا يفرطوا بها». ولم تكتفِ الجمعية العمومية للقضاة بهذا القدر بل أعلنت، من باب إظهار الجدية والتصميم، إضراباً ليوم واحد بهدف التحذير من اتخاذ إجراءات جذرية أكثر حدة في حال عدم التجاوب مع مطالبهم. واللافت في بيان مجلس القضاء الأعلى هو تبرير الملاحقات في هذا المجال بموجب التحفظ الذي يخضع له القاضي. فكيف يكون الإعلام حرا في توجيه التهم إليه، فيما هو عاجز عن الرد، وتاليا عن ممارسة الدفاع عن النفس؟ واللافت أكثر أن المجلس لم يجد حرجا في التوسع في تأويل هذا الموجب، وخلافا للتوجهات القانونية والفقهية الدولية والوطنية في هذا الإطار، على نحو يشمل منع القاضي من الرد على الاتهامات الموجهة إليه، أيا كانت ومهما بلغت خطورتها، وذلك دعماً لمشروعية مطلبه. وقد بدا في ذلك وكأنه يؤثر التخلي عن حرية القضاة في التعبير على اقتبال النقاش العام بشأن أعمال القضاء. ومن هذه الزاوية، بدا البيان أشبه بدعوة احتفالية إلى تعميم التحفظ والصمت عملاً بشعار «لنتحفّظ جميعاً» وتالياً إلى بناء نظام قانوني جديد مبدأه التسليم بقمع حرية القاضي في التعبير دون مناقشة ومنتهاه التسليم بقمع الحرية ككل! وبالفعل، تم اعداد مشروع قانون من وحي مشروع قانون 1998 للتشدد في معاقبة المس بهيبة القضاء وكاد يسلك طريقه للتشريع لولا قرار وزير العدل ابراهيم نجار باسترداده لما فيه من مس بحرية التعبير. ومجرد استعادة هذا الخطاب يظهر عمق التطور الحاصل على هذا الصعيد في زمن وزير العدل قرطباوي وتحديدا في سنتي 2012 و2013،
أما القاعدة الثانية التي تم ارساؤها، فمفادها تفعيل آليات تأديب القضاء. وأبرز دليل على ذلك هو أن المجلس التأديبي قد أصدر في 2012 وحدها أي في سنة واحدة ثلاثة قرارات بالصرف من الخدمة بحق ثلاثة قضاة، أبرمت الهيئة العليا للتأديب اثنين منهما فيما فسخت الثالث في 2013. كما تم تفعيل آلية وقف قضاة عن العمل، فقد صرح وزير العدل أنه حتى الآن قد أوقف عن العمل خمسة قضاة، يضاف إليهم قاض سادس تبعا للفضيحة الأخلاقية الأخيرة. وللمقارنة فقط، نسجل أنه طوال العقد الأخير (2000-2010) لم يصدر المجلس التأديبي الا قرارا واحدا بصرف قاض واحد من الخدمة. وبالطبع، يبقى مجلس تأديب القضاة المعين في 2012 (وهو مؤلف من سهير حركة وسهيل عبود وأيمن عويدات) من (نائب) رئيس مجلس القضاء الأعلى بدفع من وزير العدل شريكا له في هذا الإنجاز، لانخراط أعضائه في المحاسبة وان بقيت الأحكام الصادرة معتدلة نسبيا كما بينا في مكان آخر. وفي هذا المجال، تجدر الإشارة الى أمر ثان بات جزءا أساسيا من تفعيل آلية التأديب وقوامه رفض الممارسة السابقة التي كانت تقوم في حال الفضائح الكبرى التي لا يمكن سترها على اغلاق ملفات القضاة المتورطين بها في حال استقالتهم من القضاء، وقد تجلى ذلك في رفض وزير العدل الاستقالة المقدمة من غسان رباح، مصرا على وجوب محاكمته تأديبيا. كما نسجل في السياق نفسه التطور الحاصل على صعيد الشفافية من خلال البيانات التوضيحية التي أصدرتها وزارة العدل لتبيان ما آلت اليه التحقيقات في قضايا فساد قضائي والتي تؤدي أحيانا الى الإعلان ولو ضمنا عن أسماء القضاة الذين تتم احالتهم الى التأديب كما نستشف من البيان الصادر في 3 حزيران 2013. وأهمية تفعيل آلية التأديب لا تكمن فقط في استعادة لغة المحاسبة داخل الجسم القضائي، انما أيضا في تراجع مطالب التطهير والتي غالبا ما كانت تقدم على أنها الطريق الأوحد للتخلص من القضاة المتورطين بالفساد. والواقع أن هذه المطالب/الوعود بقيت لسنوات طويلة محض شعارات ديماغوجية في خطابات وزراء العدل المتعاقبين، وفحواها تطبيق المادة 95 من قانون القضاء العدلي التي تؤدي الى عزل القاضي لعدم أهليته بقرار يصدر بغالبية ثمانية أعضاء (من أصل عشرة) في مجلس القضاء الأعلى بقرار غير قابل للطعن ومن دون تمكينه من ممارسة حق الدفاع عن النفس، أي وفق آليات تؤدي عمليا الى نسف حق التقاضي في أساسه. وعليه، ومع تفعيل آلية التأديب، تلاشى الحديث عن التطهير، وما فيه من أبعاد مناقضة تماما لفكرة الاصلاح.
كما نسجل على صعيد تفعيل التأديب، انفتاح نسبي في اعلان أسماء القضاة المحالين الى المجلس التأديبي أو الصادرة بحقهم أحكام تأديبية ولو لم تكن مبرمة ولو ضمنا. وما يؤكد ذلك هو اعلان وزير العدل الصادر في 3/6/2013 بإحالة قاضيين الى المجلس التأديبي تبعا للمقال المنشور في جريدة الأخبار كان حدد اسمي هذين القاضيين.
بالمقابل، تسجل الأمور الآتية:
أن هذا الإنجاز هو بالدرجة الأولى إنجاز لوزير العدل، الذي أبدى في مناسبات عدة حرصه على ملاحقة قضايا الفساد. بالمقابل، وفيما عدا عدد قليل من القضاة المعنيين مباشرة كقضاة المجلس الـتأديبي أو الذين أعلنوا بطريقة أو بأخرى تأييدهم للمحاسبة كالقضاة الذين بادروا الى تنظيم عريضة للمطالبة في التحقيق في الاتهامات التي تم سوقها ضد القاضي غسان رباح (ستة فقط)، بقي الجسم القضائي على صمته وحذره إزاء تفعيل مساءلة أعضائه. وبالطبع، هذا الواقع مقلق بعض الشيء اذ أنه يبقي أعمال المحاسبة متصلة بشخص الوزير وبإرادته، من دون أن تترافق بأي اصلاح بنيوي داخل الجسم القضائي، على نحو يضمن استمراريتها. فيبقى القضاء متلقيا للإصلاح ومفعولا به من دون أن يكون شريكا فاعلا فيه. وليس أدل على ذلك، هو القرار الذي أصدرته الهيئة العليا للتأديب التي يرأسها رئيس مجلس القضاء الأعلى جان فهد في منتصف حزيران 2013 بفسخ القرار الآيل الى صرف قاض من الخدمة على خلفية الفساد والاكتفاء بتخفيض أربع درجات، والذي صدر بعد أيام من بيان الوزير بإحالة قاضيين الى المجلس التأديبي، على نحو يؤدي عمليا الى احباط الوزير في مساعيه وتجريدها من مؤشراتها الايجابية،     
أن هذا الإنجاز يبقى محصورا في مجال المحاسبة في موازاة تهميش كامل لضمانات الاستقلالية. ويخشى إزاء ذلك أن يبرز أمام الرأي العام مشهد القاضي السيئ الفاسد (ومن خلفه القضاء) الذي يلاحقه وزير العدل المصلح (ومن خلفه الطبقة السياسية)، فيما يغيب تماما مشهد القاضي المستقل. وما يعزز هذه المخاوف هو أن محاسبة القضاة المتهمين بالفساد لم تترافق مع أي اجراء لملاحقة الأشخاص المتورطين في افسادهم أو في رشوتهم أو في التدخل في أعمالهم، وهم على الأرجح من أصحاب النفوذ والثروات الكبرى. وكأنما يترك لهم المجال مفتوحا لتكرار محاولاتهم وأساليبهم من دون أي رادع. وخطورة هذا التلكؤ انما تكمن في أمور ثلاثة كما سبق بيانه في مكان آخر: أولا، استمرار ثقافة التدخل في أعمال القضاء مع ابقاء النصوص التي تجرم هذا التدخل نائمة؛ ثانيا، ابقاء القاضي وحيدا أمام الضغوط والتأثيرات التي تمارس عليه فلا يقدر على جبهها الا بما لديه من مناعة أو قدرات خاصة؛ ثالثا، وهذا هو الأمر الأخطر، ابقاء القاضي اللاعب الأضعف في المعادلة، وكأنه المسؤول الوحيد عن عمليات الرشوة والارتشاء، مما قد يجعله رهنا لإرادة من نجح في توريطه بقبول الرشوة أو المطالبة، ويزيد بالتالي من مخاطر استمراره في العمل القضائي، بعدما باتت الحرية والتوبة أمرين مستحيلين.
ختاما، تجدر الإشارة الى أن مجلس القضاء الأعلى كان في موازاة كل ذلك، يتابع بشغف تجليات القضاة وصورهم على صفحات التواصل الاجتماعي، طالبا منهم في تعميم سري (21-5-2013) نزع صورهم عنها صونا لوقار القضاء وحفاظا لهيبته، وأيضا، وبالمناسبة نفسها (لماذا لا؟) الامتناع عن الادلاء بأي رأي في الشأن القضائي أو الشأن العام عملا بموجب التحفظ. وكأنه بذلك يقول "ما دخل القضاة في اصلاح القضاء؟"  في قطيعة كاملة لتطور الأحداث في الدول المحيطة حيث بات القضاء من خلال نواديه وجمعياته ونقاباته جزءا أساسيا من المشهد العام.

انشر المقال

متوفر من خلال:

استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات ، حريات عامة والوصول الى المعلومات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني