مجلس ديوان المحاسبة ليس سيّد نفسه

،
2025-02-11    |   

مجلس ديوان المحاسبة ليس سيّد نفسه
رسم رائد شرف

لكلّ جسم قضائي في لبنان هيئة مهمّتها السهر على استقلاليته وحسن سيره. بالنسبة إلى ديوان المحاسبة، تتمثّل هذه الهيئة في مجلس ديوان المحاسبة (نشير إليه بـ”المجلس” في المقالة)، وهو يوازي مجلس القضاء الأعلى بالنسبة إلى القضاء العدلي، ومكتب مجلس شورى الدولة بالنسبة إلى القضاء الإداري. تكمن الفكرة الأساسية التي تبرّر تنظيمًا مماثلًا في وجوب إنشاء هيئة عامة مستقلّة عن السلطة التنفيذية، تتولّى بدرجة أو بأخرى تعيين القضاة وإدارة مساراتهم المهنية، كضمانة أساسية من ضمانات استقلال القضاء. ولكن بالطبع، يبقى ضمان استقلال القضاء مسألة صعبة ودقيقة جدًّا، غالبًا ما تتطلّب شعورًا عاليًا بالاستقلالية، وجهوزية دائمة، قد تصل إلى حدّ مواجهة قوى نافذة تجهد بشكل منتظم لكسب مواقع داخل القضاء، أو على الأقلّ لكسب قضايا معيّنة. فما القواعد المُعتمَدة لتمكين المكتب من القيام بهذه المهمّة الجسيمة؟ وأكثر تحديدًا، ما القواعد المُعتمَدة لتحصين استقلالية أعضاء المجلس أنفسهم، وما مدى ملاءمتها ونجاعتها؟

قبل المضيّ في معالجة هذه التساؤلات، نسارع إلى القول بأنّ من شأن التدقيق في تفاصيل آليّات تعيين أعضاء المجلس ومواصفاتهم أن يولّد لدى أيّ مراقب موضوعي مخاوف مشروعة من أن يؤدّي المجلس أدوارًا معاكسة للأدوار المرجُوَّة منه. فبدلًا من أن يشكّل ضمانة للقضاة في مواجهة النظام السياسي، يُخشى أن يتحوّل، على خلاف ذلك تمامًا، إلى حارس لمصالح النظام السياسي داخل القضاء، إلى ذراعٍ له، ذراعٍ أخطر ما فيها أنّها تشرّع التدخّلات السياسية وتغطّيها. وما يزيد من قابليّة الأمر للنقد إعطاءُ الغلبة للسلطة التنفيذية في تكوين هذا المجلس. 

مجلس من كبار القضاة تزكّيهم السلطة التنفيذية

يتألّف مجلس الديوان من خمسة أعضاء، هم على التوالي: رئيس الديوان، والمُدّعي العام لدى الديوان، بالإضافة إلى القضاة الثلاثة الأعلى رتبة. ويحدَّد القضاة الأعلى رتبة وفق معيارَين: الأوّل معيار مُستمَدّ من المركز الذي يشغلونه وهو رئاسة غرفة، والثاني معيار مُستمَدّ من الدرجة المرتبطة بدورها بالأقدمية (درجة عن كلّ سنتَي خدمة) بهدف المفاضلة بين رؤساء الغرف. وعليه، الرؤساء الثلاثة الأعلى رتبة في المجلس الحالي هم رؤساء الغرف الأعلى درجة، وعلى التوالي جمال محمود وعبد الرِّضى ناصر وإنعام البستاني.

وتتأتّى عن ذلك نتائج عدّة: 

الأولى، تعزيز التنظيم الهرمي داخل ديوان المحاسبة، بحيث لا يُعطى القضاة من الفئات الشابَّة أو المُتوسِّطة إمكانيّة تمثيلهم في المجلس. ويتحصّل ذلك من حصر العضوية برئاسات الغرف واستبعاد مستشاريها بالكامل. كما يتحصّل من الدرجات الواجب حيازتها لتولّي المناصب المذكورة، بحيث يجدر أن يكون رئيس الديوان والنائب العام حائزَين الدرجة 12 وما فوق (ما يعني أن تكون لهما أقدميّة 22 سنة على الأقلّ) وأن يكون رئيس الغرفة حائزًا الدرجة الثامنة على الأقلّ (أي أن يكون له أقدمية 14 سنة على الأقلّ)؛

الثانية، منح السلطة التنفيذية سلطةً واسعة للتحكُّم في اختيار أعضاء المجلس. يتحصّل ذلك من كون السلطة التنفيذية صاحبة القرار في تعيين رئيس الديوان والنائب العام لديه ورؤساء الغرف بمراسيم تُتَّخَذ في مجلس الوزراء، من دون أيّ ضابط. وما يزيد من هامش السلطة التنفيذية في تعيين أعضاء المجلس، هو الخيار الواسع المُعطى لها باختيار هؤلاء، ليس فقط من بين القضاة الماليين، بل أيضًا من بين فئات أخرى، من أبرزها القضاة العدليون والإداريون. بمعنى أنّنا قد نشهد تعيين قاضٍ عدلي أو إداري رئيسًا للديوان، أو مُدّعيًا عامًّا فيه، أو رئيسًا لإحدى غرفه بقرار من السلطة التنفيذية، وفي أيّ حين (وهو ما أسمَيْناه هبوط بالباراشوت). وخير دليل على ذلك هو أنّ المجلس مُكوَّن حاليًّا من أشخاص هم في غالبيّتهم من القضاء العدلي، وهم على التوالي رئيس الديوان محمّد بدران، والمُدّعي العام لدى الديوان فوزي خميس، ورئيسة الغرفة الأولى جمال محمود. وفيما قيّد قانون تنظيم الديوان في تعديلاته الحاصلة في العام 2012 هامش السلطة في تعيين رؤساء الغرف من خارج القضاء المالي، باشتراط أن لا يتجاوز 20% فقط منهم، فإنّ السلطة التنفيذية خالفت هذا الشرط في العام 2019، حين عيّنت رئيسَي غرفتَين من أصل ثمانية، أي ما يقارب 25% من الرؤساء، من القضاء العدلي، من دون أن يلقى هذا الأمر أيّ اعتراض. ومن البَيِّن أنّ منح السلطة التنفيذية هذه السلطة الواسعة يتعارض مع المعايير الدولية التي تفرض أن يكون غالبيّة أعضاء هيئات مُماثِلة مُنتخَبين من القضاة أنفسهم؛

الثالثة، تعزيز النزعة الفئوية النقابية داخل القضاء، ومعها نزعة الانعزال السائدة تقليديًّا لدى القضاة، وتاليًا أن ينعكس سلبًا على تنظيم القضاء وأعمال التقييم والمحاسبة. ومُؤدّى هذا الأمر بداية إقصاء سائر مُوظَّفي الديوان، وبخاصّةٍ المُراقِبون ومُدقِّقو الحسابات، عن المشاركة في اتّخاذ القرارات التي تتعلّق بمسارهم المهني وتنظيم عملهم. كما يتعارض هذا الواقع مع المعايير الدولية التي تفترض وجود “تشكيلة متعدّدة تعدُّدًا حقيقيًّا (…) بحيـث يُمثّـل فيهـا المشرِّعون والمحامون والأكاديميون وسواهم من الأطراف المعنيّة بطريقة متوازنة”. كما تعتمد أغلب الدساتير الأوروبِّية الحديثة تركيبة مُختلَطة لمجالس القضاء الأعلى، على خلفيّة أنّ القضاء شأنٌ عامّ، وأنّ استقلالية القضاء ليست امتيازًا أو حقًّا للقضاة، بل هي قبل كلّ شيء ضمانة للمُتقاضين كافّة. وهذا ما أشارت إليه لجنة البندقية في رأيَيها الصادرَين بشأن اقتراحَي قانون القضاء العدلي والقضاء الإداري في تاريخَي 17 حزيران 2022 و17 آذار 2024. وهذا أيضًا ما تكرَّس في دستور المغرب في العام 2011، ودستور تونس الصادر في العام 2014 (والذي تمّ التراجع عنه تبعًا لاستحواذ الرئيس قيس سعيد على السلطة)؛

الرابعة، أنّ ارتباط عضوية هؤلاء بمناصبهم وعُلُوّ رتبهم يجعلها غير مُقيَّدة بمدّة محدودة، بحيث تبقى قائمة بالنسبة إلى رئيس الديوان والمُدّعي العام لديه ما داما يشغلان المركزَين المذكورَين، وبالنسبة إلى سائر الأعضاء ما لم يفقدوا رتبتهم بطريقة أو بأخرى (وهو أمر قد يحصل في حال تعرُّضهم لملاحقة تأديبية) أو لم يُعيَّن قضاة آخرون أعلى درجة منهم كرؤساء غرف من قبل السلطة التنفيذية؛ 

الخامسة، أنّه بالرغم من أنّ النصّ القانوني خلا من أيّة إشارة إلى الانتماء الطائفي لأعضاء مجلس الديوان، فإنّ الأعراف أدّت إلى فرض توزيعهم الطائفي، بدءًا من رئيس الديوان الذي دَرَجَ تعيينه من الطائفة الشيعية منذ العام 1990، أي ما بعد الحرب الأهلية، والنائب العام لدى الديوان والذي دَرَجَ تعيينه من الطائفة الكاثوليكية. ويلحظ أنّه كان للسلطة التنفيذية اليد الطولى في تحديد طوائف الرؤساء الأعلى رتبة، من خلال تحديد هويّة رؤساء الغرف ونقل قاضيَين عدليَين (منهما قاضية بدرجة عالية)، من الطائفة السنِّية، من ملاك القضاء العدلي إلى ملاك ديوان المحاسبة في سياق تعيينهما رئيسَي غرفتَين فيه في أيلول 2019. وعليه، بات المجلس مُكوَّنًا وفق المعادلة الآتية: (شيعي وسنّي وكاثوليكي وماروني، بالإضافة إلى رئيس الديوان من الطائفة الشيعية). ومن شأن الاعتبارات الطائفية المذكورة أن تعزّز تدخُّل السياسيين في اختيار الأشخاص على رأس ديوان المحاسبة وغرفه، بعدما تحوّل تطييف المراكز إلى مرادف للمحاصصة بين زعماء الطوائف. وهذا ما تجلّى بوضوح كلِّي في فترة الصراع السياسي الدائر، حيث بقيت رئاسات الغرف شاغرة في السنوات المُمتدَّة من العام 2007 إلى 2019؛

السادسة، لا يتضمّن القانون الحالي أيّ ضمانة للحفاظ على التمثيل الجندري. لكن يُسجَّل، في المقابل، تمثيل هامّ للنساء داخل المجلس، حيث يضمّ المجلس الحالي للديوان امرأتَين هما جمال محمود (رئيسة الغرفة الأولى) وإنعام البستاني (رئيسة الغرفة الثالثة). 

تحكُّم رئيس المجلس في دعوته أو في عدمها

إذ يخلو قانون تنظيم ديوان المحاسبة من أيّ إشارة إلى وجوب وضع نظام داخلي لعمل مجلسه على نَحوٍ يعزّز الشفافية الداخلية، فإنّه لا يحدّد أيضًا كيفيّة دعوته إلى الانعقاد. ومُؤدّى ذلك هو تخويل رئيس الديوان وحده دعوة المجلس إلى الانعقاد أو عدمها، مع ما يستتبع ذلك من تحكُّم في أدائه. وما يفاقم من ذلك هو غياب أيّ شفافية في هذا المضمار، حيث إنّه لا ينشر جدول أعمال المجلس ولا مُقرَّراته. وقد علمت المفكّرة أنّ المجلس قد تعطّل انعقاده فعليًّا منذ العام 2020 بفعل الخلافات الناشئة بين رئيس المجلس محمّد بدران ورئيسة الغرفة الأولى لدى الديوان جمال محمود، فلا يُدعى إليه إلّا للنظر في مسائل طارئة، مثل قبول طلب استقالة أحد قضاته، خالد عكّاري (2024).  

صلاحيات مُضخَّمة لرئاسة المجلس  

لا يفصِّل النصّ الناظم لديوان المحاسبة صلاحيات مجلس الديوان، بل يكتفي بتعريفها بصورة غير مباشرة من خلال الإحالة إلى صلاحيات مجلس القضاء الأعلى، كما وردت في قانون تنظيم القضاء العدلي. توحي هذه الإحالة بأنّ المُشرِّع إنّما أراد أن يمنح هذا المجلس، كما مجلس القضاء الأعلى، المرجعية الأساسية في إدارة الديوان والمسارات المهنية لأعضائه، وبخاصّة القضاة منهم. وفي الواقع، نجد مادّة مُشابِهة في نظام مجلس شورى الدولة، بما يتّصل بصلاحيات مكتب هذا المجلس (مادّة 18 فقرة 8)، وإن أضافت المادّة المذكورة إلى ذلك أنّ هذا المكتب “يسهر … على حسن سير القضاء الإداري وعلى هيبته واستقلاله وحسن سير العمل ويتّخذ القرارات اللازمة بهذا الشأن”. كما يوحي هذا النهج التشريعي عن إرادة بإحاطة القضاة الماليين، كما الإداريين، بضمانات الاستقلالية نفسها الممنوحة للقضاة العدليين، وباستفادة مُجمَل الهيئات القضائية من أيّ تعزيز لمكانة القضاء العدلي وضمانات استقلاليّته، طالما أنّ إنشاء مجالس القضاء على اختلافها يستمدّ مُبرِّر وجوده من دورها في تحصين هذه الضمانات. 

إلّا أنّ التدقيق في سائر الموادّ سرعان ما يبيّن أنّ المُشرِّع جرّد، خلافًا لظاهر هذه المادّة، مجلس الديوان من العديد من هذه الصلاحيات. ولم يتمّ ذلك عن طريق التوسُّع في تشريك السلطة التنفيذية في القرارات المتّصلة بإدارة الديوان، إنّما عن طريق تضخيم صلاحيات رئيس الديوان التي بإمكانه أن يمارسها منفردًا، في موازاة إخضاع نفاذ العديد من قرارات المجلس له على نَحوٍ يعطيه حقّ الفيتو عليها. ولئن يُذكِّر الاختلال في توزيع الصلاحيات الحاصل بين مجلس الديوان ورئيسِه بالاختلال الحاصل في توزيع الصلاحيات، والذي وثّقناه سابقًا بين مكتب مجلس شورى الدولة ورئيسه، فإنّه يبدو أكبر في حالة الديوان، بحيث منحه القانون الصلاحيات التي أناطها نظام شورى الدولة بوزير العدل، بالإضافة إلى الصلاحيات التي أناطها برئيس مجلس شورى الدولة. وهذا ما نستشفّه من إناطة القانون برئيس الديوان صلاحية اتّخاذ القرار بتوزيع الأعمال، وتشكيل الغرف، ووضع نظام داخلي للمُوظَّفين، وإن وجب الحصول على موافقة مُسبَقة من مجلس الديوان. وبدلًا من أن يحصر مشروع القانون المُحال من الحكومة إلى مجلس النوّاب في العام 2012 صلاحيات رئيس الديوان، فإنّه وسّعها لتشمل إمكانيّة انتداب قضاة لرئاسة الغرف في حال غياب رئيس غرفة لأيّ سبب، وفق الآليّة نفسها. 

فكأنّما المشرّع اختار توسيع صلاحيات رئيس الديوان لعدم ملاءمة تحميل رئاسة الوزراء (وهو يمثّل رأس السلطة التنفيذية) مهامّ أو صلاحيات كالتي حُمِّلَت لوزير العدل بما يتّصل بالقضاء العدلي أو الإداري. ومن شأن ذلك أن يزيد من إمكانية التدخُّل في عمل الديوان، وتغليب الهرمية والشخصنة على التنظيم الجماعي في إدارته، بحيث يصبح كافيًا ضمان ولاء شخص واحد للتحكُّم في هذه الإدارة.

وما فاقم من الاختلال في توزيع الصلاحيات بين المجلس ورئيسه هو تحكُّم هذا الأخير في دعوة المجلس ووضع جدول أعماله كما سبق بيانه، وما يتيحه له ذلك من توسيع مجال تدخُّله وصلاحياته، وبخاصّة عند وجود أيّ ثغرة أو ضبابية في النصوص. يكفي لهذه لغاية أن يبادر رئيس الديوان إلى اتّخاذ قرار منفرد في هذا الخصوص، في موازاة الإعراض عن وضعه على جدول أعمال المجلس، وهو توجُّه يتحوّل عند تكرارِه إلى ممارسة، من دون أن تكون لأعضاء المجلس طرق ملائمة للدفاع عن صلاحياتهم. وما يسهّل ذلك هو تأكيد القانون أنّ الرئيس يتولّى الإدارة الداخلية للديوان، وهي عبارة مطّاطة يصعب تعريفها. وليس أدلّ على ذلك من اعتماد رئيس الديوان توجُّهًا في توزيع المُراقِبين ومُدقِّقي الحسابات على غرف الديوان، في ظلّ لزوم القانون الصمت في هذه المسألة. وبدلًا من التوقُّف عند خطورة هذه الممارسة، كرّسها مشروع قانون العام 2012 (المادّة 27 من مشروع القانون)، لتشكّل دليلًا إضافيًّا على تحكُّم النظام الرئاسي في ديوان المحاسبة. ومن الأمثلة الأخرى على ذلك، والتي جرى بشأنها، مؤخَّرًا، نقاش داخلي في الديوان، مسألة قبول الهبات والتوقيع على العقود المتّصلة بها، بعدما وقّعها رئيس الديوان منفردًا.

نشر هذا المقال في الورقة البحثية: “ديوان المحاسبة المتعثرة”

لقراءة وتحميل الورقة البحثية بصيغة PDF

لقراءة المقال باللغة الانكليزية

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكم إدارية ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني