مجزرة عرمون: 10 شهداء من عائلات نازحة بينهم أطفال علقوا في الأحلام


2024-11-19    |   

مجزرة عرمون: 10 شهداء من عائلات نازحة بينهم أطفال علقوا في الأحلام
الشهداء الحاجّ محمد مكّي وزوجته رأفة وابنتهما إلهام وأحفادهما الأطفال علي قدوح وإيليا قصير ومحمد مكّي

كان من المفترض أن يكون نهار الأربعاء 13 تشرين الثاني الجاري نهارَ فرحٍ بالنسبة للشابّة دانا مكّي رغم قسوة الحرب، إذ كانت على موعد للقاء أفراد من عائلتها للمرّة الأولى منذ توسّع العدوان في 23 أيلول الماضي، بعدما فرّقتهم مرارة النزوح فمكث كلّ واحد في منزل ومنطقة. 

نامت دانا في تلك الليلة على أمل لقاء جدّها وجدّتها وعمّاتها. لكن بدلًا من ذلك استفاقت على خبر استشهاد ستة من أفراد عائلتها في غارة إسرائيلية على عرمون “استشهدوا هنّي ونايمين، كنت طالعة شوفهم، صاروا فجأة أشلاء معبّايين بكياس”، تقول دانا في لقاء مع “المفكرة”.

استشهد أفراد من عائلة دانا في مجزرة ارتكبها العدو الإسرائيلي عند الرّابعة من فجر الأربعاء، حين استهدف من دون إنذار، مبنى مؤلّفًا من ثلاث طبقاتٍ تقطنه عائلات عدة تربطها علاقات قربى وثيقة. سقط في المجزرة عشرة شهداء، اثنان منهم لم ينتشل جثمانيهما بعد، إضافة إلى أكثر من عشرة جرحى بعضهم  في حالةٍ حرجة. وهؤلاء جميعهم نزحوا من مناطق يستهدفها العدو في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، ولجأوا إلى ذلك المبنى هربًا من القصف في مناطقهم، فقضوا وهم نيام.

المبنى المستهدف في الغارة

كان المبنى يضمّ أربع عائلات متفرّعة من عائلة جدّ دانا، الحاج محمد مكي (85 عامًا) الذي ما زال في عداد المفقودين فيما استشهدت زوجته الحاجّة رأفة مكي 80 عامًا (أم حسين) وابنتهما إلهام (45 عامًا) وهم من بلدة فرون قضاء بنت جبيل.

العائلة الثانية هي عائلة ابنته ردينة مكّي وزوجها حيدر قدوح من بلدة زوطر الغربية، اللذين استشهد ابنهما علي قدوح (15 عامًا) فيما أصيبت شقيقته يارا بجروحٍ طفيفةٍ. 

العائلة الثالثة هي عائلة ابنة الحاج محمد الثانية، زينب مكّي وزوجها علي قصير، اللذين استشهدت ابنتهما الطفلة إيليا قصير (7 أعوام)، فيما أصيبت ابنتهما الثانية ألما وابنهما موسى برضوض وكسور وهما الآن في المستشفى في حالة مستقرّة.

العائلة الرابعة هي عائلة الابن أحمد محمد مكي وزوجته رندة مكي، وقد أصيب الأب وابنه حسين بجروحٍ بليغة وهما لا يزالان في المستشفى، ولا يزال ابنهما محمد (11 عامًا) في عداد المفقودين، فيما نجا ولدهم الثالث علي الذي كان يبيت عند أحد أقربائه خارج المنزل.

إلى المبنى أيضًا نزحت عائلة يحيى حمادة من بلدة دير سريان الذي نجا وابنه هادي فيما استشهدت زوجته هناء أبوزيد وابنها رشيد (25 عامًا) ومعه خطيبته زينب يعقوب وشقيقتها مريم من بلدة مقنة في بعلبك الهرمل، فيما لا  يزال ابنه الثاني محمود في العناية الفائقة.

عائلة مكّي: تاريخ من الوطنية حتى الشهادة

قد تكون هذه من المرّات القليلة التي يبتعد فيها الحاج محمد مكّي (أبو حسين)، وزوجته رأفة عن قريتهما الجنوبية فرون الصغيرة الجميلة الهادئة التي تطلّ على وادي الحجير الفسيح، والتي عكست جمال حقولها وبساتينها محبّة وبساطة عند أهلها. وطيلة عام، قبل توسّع العدوان الإسرائيلي على لبنان في 23 أيلول الماضي، رفض أبو حسين مثله مثل معظم أهالي القرية النزوح، إلّا أنّه اضطرّ إلى مغادرتها تحت زخم الضربات في ذلك النهار، تاركًا شتلات الزعتر والقصعين، ومواسم الأشجار المثمرة. غادر على أمل العودة سريعًا للقاء أصدقائه، إلّا أنّ العدو الذي يقتل المنازل والقرى والأبرياء، يقتل أيضًا أمنية كبار السن بأن يموتوا وهم في أسرّتهم الدافئة ومنازلهم وقراهم.

“نحن تلات صحاب مجايلة مع بعض، كنّا كلّ يوم الصبح نلتقي عالساعة ستّة كلّ واحد حامل عكّازته منمشي بالضيعة منعمل رياضة”، تدمع عينا  أبو علي (85 عامًا) وهو يخبرنا عن صديق عمره أبو حسين، يبكي حزنًا على كارثة حلّت بالمنزل المحبّ والمتواضع بحسب وصفه، “كنا صغار نضل مع بعض نروح عالبيدر مع بعض، وننزل على الحجير نرعى البقرات، شو بدي إحكي، فقدت رفيق عمري بلحظة”.

في الساعات الأولى التي تلت الغارة كانت دانا مكي ترثي كل لحظة شهيدًا من عائلتها على “فيسبوك”، تعدّ ونعدّ معها الشهداء الذين قضوا في المجزرة ونحاول حفظ أسمائهم. “نمت بالليل على أساس إطلع الصبح لعندهم، فقت لقيتهم رايحين، بدل ما زورهم بـ بيتهم كنت عم دوّر على جثثهم بالمستشفيات”، تقول لـ “المفكرة”. 

تضيف أنّ عناصر الدفاع المدني عثروا على جثّة جدتها وهي ممسكة بهويّة جدّها، فظنّوا بداية أنّ جثّتها تعود للجد ليتبيّن لاحقًا أنّها جثّتها هي، “كنّا كلّ الوقت عم ندوّر على ستّي، هلّق صرنا عم ندوّر على جدّي، ما بعرف ليه ستّي كانت ماسكة بهوية جدّي لحظة استشهادها”.

وتعود بنا دانا إلى منزلها ومنزل جدّها في القرية، تلتقط أنفاسها وهي تخبرنا عن صور علقت في ذهنها،  “أنا وعيت على حنان ستّي وجدّي وعمتي إلهام، من أنا وصغيرة بروح مع جدي عالبرّية منحوّش قصعين، كان جدي بس يبيعهن يعطيني أجرتي، بروح معه على قطف الدخان، إذا ما رحت بنطرهم ليرجعوا بشكّ معهم الدخان”.

تبكي دانا عمّتها إلهام التي كانت رفيقتها وكاتمة أسرارها، إلهام المعروفة في قريتها بالحنونة والصامتة، لها فكرها الخاص المختلف على بنات جيلها، هي الثائرة بصمت، تشارك في جميع التحرّكات والتظاهرات الوطنية، كيف لا وهي التي تربّت في منزل لطالما كان داعمًا للمقاومة الوطنية.

يتحدّث صديق العائلة علي رمضان في اتصالٍ مع “المفكرة” عن دور عائلة مكّي في دعم مجموعات وشباب المقاومة الوطنية، “بيت مكّي معروفين تاريخيًا بوطنيّتهم وبحبّهم للقضية، بيتهم كان حاضن للجميع”. وكان المنزل المطلّ على وادي الحجير، منطلقًا لمجموعات المقاومين، ومأوى للعائدين، بحسب رمضان الذي يصف البيت بـ “السعيد الفقير” وأبو حسين بالرجل “الوطني بالفطرة”، إذ لا يحتاج الشعور بالوطنية والانتماء إلى كثير من الإيديولوجيا على حد قوله. أما زوجته أم حسين فكانت مقاومة بصمتها، هي التي تتستّر على المقاومين وتأويهم وتحضّر لهم لفافات الطعام زوّادة لمهامهم.

وهذه أيضًا ليست هي المرّة الأولى التي يدفع فيه هذا البيت شهداء في سبيل الوطن، فقبل حوالي 53 عامًا، استشهدت والدة أم حسين، سكنة مزنرية، مع خمسة من أبنائها وأحفادها جرّاء قصف العدو الاسرائيلي لمنزلهم في بلدة الغندورية، ولا تزال أجيال وكبار السن في تلك المنطقة تتذكّر فظاعة المجزرة.

أطفال علقوا في الأحلام

“حملتها الفراشات إلى مدارج الضوء، دمعة حارقة بطعم ماء البحر”، هي الطفلة الشهيدة إيليا قصير كما رثاها الفنان مارسيل خليفة الذي نشر صورتها مع المقطع الموسيقي الأخير من أغنية “تصبحون على وطن”.  

وإيليا تظهر أيضًا في فيديو شاركته دانا، ابنة خالها، وهي تدور حول أزهار مصطبة منزلها، لا تفارق الضحكة محيّاها، تريد أن تصبح رائدة فضاء تقول: “بدّي صير رائدة فضاء حتى إطلع عالسّما عدّ النجوم والكواكب”. تقول دانا إنّ إيليا كانت تملأ البيت فرحًا وحبورًا، وكانت تعتبرها أختها الصغيرة، “كنت روح إشتري لها غراض وثياب، كانت كثير تحبّ السماء والنجوم والكواكب”. 

في تلك الليلة نام صغار البيت هانئين، أخبرهم الكبار أنّهم باتوا بعيدين عن القرية وعن مرمى نيران العدو، ناموا ولم يستفيقوا، علقوا في الأحلام. 

تحتار دانا من تبكي ومن ترثي، تستذكر ابن عمتها الثانية علي قدوح (14 عامًا) والذي كانت أحلامه وطموحاته بلا حدود، تصفه بالشاب القوي الذي كان يريد أن يحمي الجميع “كان يضلّ يقلّنا ما تخافوا نحن أقوياء”، تبكي دانا استشهاده وهو نائم هو الذي كان يكره النوم لشدّة حماسته على خوض مغامرات الحياة، “خلّص السنة الرابع متوسط، كان عم يفكّر شو يتخصّص، شاب نشيط ومندفع”.

وتتذكّر دانا أيضًا ابن عمّها، محمد مكي (11 عامًا) الحفيد المدلّل الذي سمّي على اسم جدّه ولا يزال معه في عداد المفقودين.

“عائلتي شهداء فداء للوطن”، كتب علي مكّي والد دانا على صفحته على فيسبوك، لم يتمكّن علي من العودة إلى فرون لدَفَن شهداء عائلته، فدفنوا وديعة في مدينة صور.

إيليا تخبرنا عن أحلامها التي قتلتها إسرائيل

مبنى واحد جمعهم حتى الممات

عند مدخل العمارة المستهدفة بعض من القاطنين وأهالي الشهداء المنكوبين، منهم من جاء يتفقّد سيارته التي تضرّرت، منهم من يحاول سحب بعض الحاجيّات التي ما زالت صالحة، منهم من يبحث عن غرض يخصّ شهداءهم ليبقى ذكرى مدى الدهر، يلملمون ما تيسّر ليبدأ رحلة نزوح جديدة اضطرّهم العدوان الإسرائيلي لخوض ذلّها ومرارتها من جديد.

على حافة قريبة، يجلس حسن عاشور النازح من بلدة شقرا الجنوبية، الذي التجأ إلى المبنى مع زوجته وأولاده الثلاث ووالدته التسعينية وشقيقته وأولادها الثلاثة. نجوا كلّهم باستثناء شقيقته التي أصيبت إصابة بالغة في رأسها وهي لا تزال في العناية الفائقة. 

لا يعلم عاشور ماذا يفعل وأين يذهب: “ما صدّقنا لقينا مطرح يأوينا، هلّق رجعنا عم ندوّر، ما منعرف وين بدنا نروح”. يضيف أنّه وبدل الاهتمام بشقيقته الموجودة في العناية الفائقة، عليه تركها للبحث عن مكان يأويه وأفراد عائلته الباقيين الذين توزّعوا على منازل أصدقائه وأبناء قريته، فيما  ينام هو في السيارة، أمّا “الدولة” فغائبة عن تقديم أي مساعدة لهم. يروى عاشور أنّ تلك الليلة كانت أشبه بيوم القيامة، فبينما هم نيام استهدف صاروخ طبقات البناية مخترقًا غرف النوم، كان عليه حمل والدته التسعينية على ظهره، والنزول بها الدرجات المهشّمة.

يقول عاشور إنّ جميع سكان المبنى من النازحين وإنّه على الرغم من الفترة القصيرة التي أمضاها في المبنى، إلّا أنّ علاقة متينة تشكّلت بين السكان. ويؤكّد أنّ جميع من استشهدوا مدنيّون “كلّهم أولاد عيَل ومحترمين وبحالهم”. 

يخبرنا عن الشهيد رشيد حمادة الشاب الذي لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره والذي كان يخطط لعرسه، وعن والدته هناء أبو زيد وعن قلوبهم الطيبة والمحبّة. في أحد الفيديوهات المنتشرة على مواقع التواصل، يظهر رشيد مع خطيبته زينب بلباسها الأبيض التي يسلّمها والدها لعريسها، ويضيف أنّ العدو لا يريد لدورة الحياة أن تكتمل، فقطع رحلة العريسين في بدايتها ومنعهما من تمضية العمر معًا. 

الشهيد رشيد حمادة وخطيبته زينب يعقوب
انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، لبنان ، مقالات ، جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية ، العدوان الإسرائيلي 2024



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني