صاغت شخصيات تونسية عامة طيلة الشهر الثاني من سنة 2016 بمناسبة مشاركتها في لقاءات اعلامية أو من خلال كتابات بالإعلام المكتوب وبشبكات التواصل الاجتماعي خطابا يجاهر بمساندة " من يشتبه في ممارستهم التعذيب عند استنطاق الارهابيين"، ويتهم في المقابل القضاء التونسي بالتخاذل في الحرب على الارهاب .
في أسلوب يذكر بحملات الدعاية والإشهار، افتتح الحملة الإعلامية الوزير الأكثر شعبية في تونس حسب مراكز سبر الآراء السيد ناجي جلول. عند افتتاحه غير المعلن طبعا للحملة، ربط الوزير في تصريح إعلامي بين الأمن والتصدي للإرهاب، لينتهي لوصف من يتهمون أمنيين بممارسة التعذيب بقلة الحياء، ويعلن رفضه مواصلة الحوار معهم ولينسحب إثر ذلك من البرنامج التلفزي.
هذا الموقف تطوّر لاحقا بعدما اكتسح الساحة الاعلامية مثقفون وفنانون وإعلاميون جاهروا بمباركتهم لاستعمال الأمن لأساليب البحث العنيف كلما تعلق الأمر بقضية إرهابية. برّر هؤلاء مواقفهم بالحاجة لإجبار الإرهابيين على الإعتراف بمخططاتهم. اقترن الإحتفاء بالمقاربة الأمنية في مواجهة الارهاب بحملة تشكيك في "نزاهة القضاء" الذي يتعهد بالقضايا الإرهابية والهياكل القضائية التي تساندهم.
انخرط في حملة التشكيك في القضاء بالإضافة إلى بعض الوجوه الإعلامية، عدد من المغنيين والممثلين، ودعم جانبهم القاضي أحمد صواب ليؤشر الأمر على أهمية الصراع. انخرط القاضي أحمد صواب الذي يعد من القضاة البارزين في المشهد الإعلامي في خطاب انتقاد القضاء فأدلى بعدد من التصاريح الصحفية التي خصصها لانتقاد الهياكل القضائية وأداء القضاء في القضايا الإرهابية وقضايا الفساد وتوجه مباشرة نحو قاضي التحقيق بالمكتب عدد 13. ومن المعلوم أن الإهتمام بقاضي التحقيق 13 يعود لقضية التعذيب التي كشفت عنها الأبحاث التي أجراها بمناسبة تعهده بالقضية الارهابية التي تعلقت بالاعتداء على المتحف الوطني بباردو. بدا بالتالي خروج شخصيات عامة ذات ثقل شعبي جانب لمباركة الأبحاث العنيفة فيما تعلق بالإرهابيين في بعض أبعاده خطاباً سياسياً موجها للقضاء ومفاده أن البحث في التعذيب مسألة يعارضها الرأي العام ويستحق من يباشرها أن يتهم بالمشاركة في الإرهاب.
لم يتوجه الخطاب للدفاع عمن قد يتهمون بالتعذيب، واختار في المقابل أن يكون جهة اتهام لمن اثاروا مسألة التعذيب. وسوّق هذا الخطاب لفكرة حرب تدور رحاها بين أمن يواجه الإرهابيين وقضاء يتخاذل في القيام بدوره. واختير قاضي التحقيق بالمكتب عدد 13 بالمحكمة الابتدائية بتونس الذي كشفت أبحاثه عن وقائع التعذيب ليكون رمزاً للقضاء المتخاذل. تحول الباحث في التعذيب لمتهم يطلب منه أن يدافع عن نفسه في مواجهة تهمة تبييض الإرهاب فيما بدا من "يعذّب" بطلا وطنيا اضطره دفاعه عن الوطن لأن يبذل مجهودا إضافيا. ولكن مجهوده هذا قوبل بجحود من القضاء الذي أفرج عن الارهابيين ولم يكتف بذلك بل توجه نحو البحث في التعذيب.
يتبين لنا إذا أنّ الخطاب حول القضاء في علاقته بالإرهاب هو خطاب سياسي هدفه صناعة رأي عام يساند الأمني الذي قد يتهم بالتعذيب. يصعب إيجاد مبررات نظرية لاختيار السياسي المحترف ومن خلفه المثقف والحقوقي المجاهرة بموقف يغطي على التعذيب،بما يحتم البحث عن مبررات موضوعية تبرر هذا الموقف.
لا يبدو البحث عن هذا المبرر الموضوعي مستعصيا. فثمة مؤشرات عدة تدل على أهمية دور "السياسي" في ملف التعذيب الذي أثاره قاضي التحقيق بالمكتب 13، ومنها ما تداوله الاعلام حول تعمد السلطة السياسية معاقبة مسؤولين أمنيين تصدوا للتعذيب مقابل مكافأتها لغيرهم ممن تورط فيه. ومن هذه الزاوية، تبدو الحملة وكأن هدفها منع فضيحة سياسية كبرى قد يؤول إليها الأمر لو عمل القضاء بشكل مستقل وبعيدا عن الضغوطات التي يتعرض لها في قضية التعذيب.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.