أعلن مساء يوم 19-09-2024 عن قرار مكتب مجلس النواب التونسي البقاء “في حالة انعقاد إلى الاسبوع المقبل للتفاعل مع المستجدّات على الساحة الوطنية”. وبعد يوم فقط من ذلك، نشر في الصفحة الرسمية للمجلس النيابي على صفحة التواصل الاجتماعي فايسبوك خبر مفاده أن المكتب المذكور اجتمع “للتداول في مقترح قانون أساسي يتعلّق بتنقيح بعض أحكام القانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 المؤرخ في 26 ماي 2014 المتعلّق بالانتخابات والاستفتاء، مقدّم من قبل مجموعة من النواب”، وأنه “قرّر إحالته إلى لجنة التشريع العام، مع طلب استعجال النظر”. وقد اتضح في حينه أن الأمر يتعلق بمقترح قانون ينقح الفصول الخاصة بنزاع نتائج الانتخابات الرئاسية وبمنازعات الرقابة المالية على الحملات الانتخابية في اتجاه يرفع يد القضاء الإداري عن الأول والمالي عن الثاني ويفرض محكمة الاستئناف بتونس بديلا عنهما.
ولتبرير مبادرتهم، استند النواب مقدموه لما سمّوه “اختلافات وصراعات في القرارات المتخذة والمواقف المعلنة من طرف كل من الهيئة العليا المستقلة للانتخابات والمحكمة الإدارية، ينذر ببوادر لأزمات محتملة ولخطر داهم يهدد المسار الانتخابي وينذر بإرباكه وإدخال البلاد في متاهات من شأنها أن تبعدنا عن انشغالات عامة الشعب وانتظاراته” ولما قالوا أنه “تمّت ملاحظته من تصريحات خرقت مبدأ التزام القضاة بالحياد وتمسكهم بواجب التحفظ لاسيما في مثل هذه الحالات فضلا عن كونها تصريحات خطيرة توحي بإمكانية اتخاذ قرارات مسبقة في المستقبل في اتجاه معين قبل التعهد أصلا بأي قضية في الغرض” ليقترحوا سحب نظر النزاعات الانتخابية للانتخابات الرئاسية من القضاء الإداري وإسناد نظرها لمحكمة الاستئناف بتونس في الطور الابتدائي ولمحكمة التعقيب في الطور الاستئنافي. وبذلك، يكون النواب من خلال إقصائهم المحكمة الإدارية قد تماهوا مع رفض هيئة الانتخابات تنفيذ أحكامها، وبخاصة أنهم لم يجدوا حرجا في إدانة تمسك المحكمة الإدارية بقراراتها وبضرورة تنفيذها. كما تغافلوا بذلك عن كون القاضي الإداري يعدّ بحكم تخصّصه في القانون العام والنزاعات الإدارية القاضي الطبيعي فيما تعلق بنزاع الانتخابات. وكان واضحا أن ما همهم كان توجيه مآل النزاعات في نتائج الانتخابات الرئاسية 2024 من خلال إسناد نظرها لمحكمة يمكن ان تحقق لهم ما يريدون منها.
ولم تكتفِ المبادرة بإقصاء المحكمة الإدارية، بل أقصت في الآن نفسه محكمة المحاسبات بحجة “ضمان وحدة الإطار القضائي الذي يتعهد بالنظر والبت في النزاعات الانتخابية” بما “يؤدي إلى تفادي سلبيات التوزيع الحالي على ثلاثة نظم قضائية مختلفة، تبين من خلال الواقع الذي نعيشه أنه توزيع يفتقر إلى الجدوى والنجاعة المطلوبتين”. وعليه، اقترحوا هنا أيضا سحب صلاحية الرقابة على تمويل الانتخابات عموما ومنها الرئاسية من محكمة المحاسبات ليسندوها أيضا لمحكمة الاستئناف بتونس، متجاهلين تماما حاجة التعهد بنظر المصاريف المبذولة من المترشحين في الحملات الانتخابية لتكوين وخبرة محاسبية ورقابية وإمكانيات لوجيستية هامة تتوفر في القضاة الماليين ومحكمة المحاسبات دون غيرهم من القضاة والمحاكم وكانت مبرر إسناد المشرع فيما سبق هذا الاختصاص للقضاء المالي.
التحسب من إبطال الانتخابات
أول ما نلحظه هو توقيت الاقتراح. فعدا عن أنه يأتي بصورة مستعجلة في خضم الحملة الانتخابية، فإنه يأتي ردّا على انتصار المحكمة الإدارية للاستحقاق الانتخابي والديمقراطية من خلال إبطال قرارات الهيئة الاتخابات باستبعاد 3 مرشحين، والأهم التحذيرات التي أبدتها مرة و تكرارا من عواقب المضي في الانتخابات من دون تنفيذ قراراتها بوجوب تمكين هؤلاء من خوضها، وهي عواقب قد تصل إلى إبطال الانتخابات برمتها. من هذه الزاوية، يتبدى الاقتراح بمثابة ردّ على تحذيرات المحكمة من خلال إقصائها وإلغاء دورها بالكامل، بما يشكل إقصاء للقاضي الطبيعي المختص في النظر في صحة الانتخابات قبل أيام من إجراءها.
الاستثمار في هشاشة القضاء العدلي
لم يهتم أصحاب المبادرة بما يحتاجه نظر النزاعات الانتخابية من موارد بشرية ومادية علاوة على الفنية واختاروا تغيير قواعدها في اتجاهات لا يمكن عزلها عن الغاية المعلنة للتنقيح من أصحابه والتي تتمثل في تجنب نتائج معينة للنزاع الانتخابي المنتظر، وعمليا تعزيز هامش السلطة التنفيذية في التدخل في أي طعن انتخابي.
وهذا ما نستشفه من تجريد القضاءين الإداري والمالي من أي صلاحية للنظر في هذه النزاعات في اتجاه حصرها في القضاء العدلي. ففيما يمتاز القضاءان المالي والإداري بالاستقلالية الهيكلية عن وزارة الاشراف أي رئاسة الحكومة ولا تتدخل السلطة التنفيذية في إدارة المسار المهني للقضاءين المذكورين خارج إطار اصدار الحركة القضائية التي يعدها ويقترحها مجلساهما أو تعيين أصحاب المناصب القضائية السامية من رئيس الجمهورية باقتراح من ذات الجهة، فإن القضاة العدليين باتوا يخضعون قانونا في إدارة محاكمهم وصرف أجورهم ومباشرتهم الإدارية لعملهم لسلطة وزارة العدل. كما أنهم فعليا -و نتيجة حالة الفراغ المؤسساتي المتمثل في تفكيك السلطة لمجلس القضاء العدلي- تحت الإدارة المباشرة في مختلف مظاهر مسارهم المهني من نقلة وترقية واستقالة وإيقاف عن العمل ومنع لمباشرته لذات الجهة الإدارية (وزارة العدل) بما يوجب الاعتراف بغياب كل ضمانات الاستقلالية عن القضاء العدلي. وكان من أثر ما طال القضاء العدلي من هشاشة وتجريد قضاته عن كل الضمانات الحديث المتواتر عن التدخل في عمله وتوظيف جانب من قضاته في معارك الحكم مع خصومه ومنهم المنافسون في الاستحقاق الانتخابي الرئاسي او من كانوا يعتزمون ذلك. وعليه، لا يمكن تفسير اختيار القضاء العدلي كبديل في النزاعات الانتخابية ونزاعات تمويل الانتخابات إلا برغبة في الاستثمار فيما ناله من هشاشة وهو أمر يتّضح أكثر بنظر ما تم من تعديل قواعد النزاع الانتخابي أمامه.
منع لكل مقاومة جماعية محتملة
عند نظر المحكمة الإدارية في نزاعات الترشح للانتخابات الرئاسية وإعمالا لقواعد القانون النافذة، نظرت الدوائر الاستئنافية الإدارية ابتدائيا في الطعون التي تقدم بها المترشحون ممن رفضت هيئة الانتخابات مطالبهم فيما تعهدت الجلسة العامة الإدارية وهي تتكون من مختلف رؤساء الدوائر التعقيبية والاستئنافية بالمحكمة الإدارية وأقدم المستشارين من قضاة تلك الدوائر بحساب واحد أو واحدة عن كل منها في الطعون الاستئنافية.
وانتهت المحاكمة الاستئنافية في أحكامها الابتدائية لتأييد قرارات الهيئة فرحبت الأخيرة بذلك واعتبرت ذلك شهادة نزاهة وحياد تسند لها وتشكر عليها المحكمة الإدارية عليها. ولئن نقضت الجلسة العامة الأحكام الابتدائية لثلاثة مرشحين مبطلة قرار الهيئة فيما تعلق بهم وقضت بوجوب ترسيمهم بقائمة المترشحين للانتخابات الرئاسية، رفضت هيئة الانتخابات الإذعان لأحكامها بدعوى عدم توصلها بلوائحها المعللة في الأجل القانوني وأن مجرد الإعلام بمنطوقها لا يكفي لتنفيذها. وقد تجلّت جرأة قضاة الطور الثاني في ذلك على علاقة بعددهم وما يمثلون من مجموعة صلبة داخل بناء القضاء الإداري.
وتحسبا لنشوء هيئات جماعية كهذه، أناط الاقتراح صلاحية النظر في استئناف القرارات الصادرة في النزاعات القضائية ليس إلى الدوائر المجتمعة لمحكمة التعقيب العدلية (المماثلة للجلسة العامة للمحكمة الإدارية) وانما إلى دائرة تعقيبية يختارها الرئيس الأول للمحكمة. ولا يمكن تفسير التوجه الجديد إلا بما تم من استخلاص للدرس من نزاع الترشحات تمثلت فيما تبيّن من أثر تعدّد القضاة وتحديدا في الجلسة العامة للمحكمة الإدارية على استقلاليتهم.
ونلاحظ على ذات المستوى أن مقترح القانون كرر ما كان في القانون النافذ من تأكيد على كون الأحكام النهائية في النزاع الانتخابي تنفذ على المسودة وبمجرد الإعلام بها بما كشف عن كون من كتبه لم يقتنع بتبريرات هيئة الانتخابات لرفضها تنفيذ قرارات الجلسة العامة للمحكمة الإدارية. كما يؤكد أن ما سعى إليه لم يكن إصلاح خلل تشريعي وإنما فقط صناعة مسار نزاعات يحقق ما يريد ويخدم المصالح السياسية التي انتصروا لها.
مقترح سياسي لغايات سياسية
اتهم أصحاب المبادرة قضاة المحكمة الإدارية ممن تدخلوا في الإعلام وبينوا للرأي العام عدم صحّة ادّعاءات هيئة الانتخابات لرفض تنفيذ أحكامها، بالخروج عن الحياد في حين أن موقف هؤلاء القضاة لم يتعلق بالأحكام وإنما بتنفيذها تحسبا لإبطال الانتخابات برمتها. ويلحظ أن النواب لم يبدوا أي موقف من رفض هيئة الانتخابات تنفيذ الأحكام أو حتى من تصريحات أدلى بها بعض أعضائها بشأن نيتهم إلغاء نتائج انتخابات المرشح عياشي الزمال مستقبلا بما يعكس موقفا مسبقا منهم وخروجا تاما عن الحياد. ويؤشر الكيل بمكيالين من النواب المبادرين عن استعمالهم صلاحية اقتراح القوانين التشريع للتدخل في نتائج الانتخابات الرئاسية الجارية.
ويبدو موقفهم السياسي على درجة كبيرة من الجسارة والتعالي على قيم القانون خصوصا وأنه يتعارض مع قيم نزاهة التشريع لكونه يهدف بوضوح لصياغة قوانين تستهدف المرشحين المعارضين وتضعف ضمانات حقهم في التقاضي. كما انه يتعارض مع قواعد التشريع الانتخابي لكونه يغير قواعد الانتخابات أثناء سير العملية الانتخابية وبغاية تغيير مخرجات منازعاتها.
خطورة المبادرة التشريعية تفرض علينا أن ننتظر موقف غير المبادرين من النواب منها لنتبيّن إن كانت ستمرّ بالأغلبية الخاصة بالقوانين الأساسية بمجلسهم أي نصف أعضائه وبالتالي سيتحول إلى قانون يحسم الانتخابات من خارج صناديقها أم انها ستكون سببا في استعادة ما أسماه الرئيس وظيفة تشريعية لدورها كسلطة. كما علينا أن نرقب تفاعل الشارع السياسي والحقوقي مع المسار الانتخابي لتوضح إن كانت الخروقات التي علقت به ستنجح في أن تحسم مخرجاته أم أن مقاومة لذلك ستعيد خلط الأوراق وتعيد للديموقراطية حياتها.