ما وراء قضيّة أميرة بوراوي: أزمة دبلوماسية متعدّدة الأطراف


2023-02-24    |   

ما وراء قضيّة أميرة بوراوي: أزمة دبلوماسية متعدّدة الأطراف
من صفحة رئاسة الجمهورية التونسية على فايسبوك

لا تزال تبعات قضيّة مُغادرة الناشطة الجزائريّة- الفرنسية أميرة بوراوي إلى فرنسا تُلقي بظلالها على مستقبل العلاقات الفرنسية- الجزائريّة، وبشكل مباشر أيضا على الدبلوماسيّة التونسيّة التي وجدت نفسها في موقف حرج جدّا من هذا الخلاف. 

بدأت القضيّة منذ دخول الناشطة الجزائريّة إلى التراب التونسيّ بشكل سرّي، بعد قرار السلطة الجزائرية تحجير السفر عليها، ثمّ محاولتها التوجّه إلى فرنسا من مطار تونس- قرطاج باستخدام جواز سفرها الفرنسيّ، ليتمّ منعها من السفر من قبل الأمن التونسي وإخضاعها للتحقيق قبل إحالتها على القضاء. ورغم الحكم القضائي بالإفراج عنها، هُدّدت بالترحيل إلى الجزائر، قبل أن تتدخل السلطات الفرنسيّة وتُسهّل عملية سفرها إلى فرنسا. ويُذكّر جزء من أطوار هذه القصّة بعمليّة اختطاف “سليمان بوحفص” المواطن الجزائريّ الحاصل على صفة اللاجئ السياسي في تونس في أوت 2021 وتسليمه للسلطات الجزائريّة، حيث تمّ الحكم عليه بثلاث سنوات سجنا في ديسمبر الماضي. وقد أثار الحدث في حينه انتقادات حقوقية واسعة للسلطات التونسيّة، حيث اعتبرت عديد المنظمات ما حدث بمثابة السابقة الخطيرة التي أقدمت عليها الدولة التونسية عبر تسليمها للاجئ يتمتع بالحماية الدوليّة.

سياسيّا، جاءت هذه الحادثة لتطوي صفحة التقارب الملحوظ منذ سنة تقريبا بين فرنسا والجزائر، المتمثّل في تعدّد الزيارات الرسمية بين مسؤولي البلديْن والحديث عن مشاريع مشتركة عدّة، يتقاطع فيها التعاون الاقتصاديّ بالمصالح الإستراتيجية. إلا أن الحادثة أثبتت مدى مرحليّة هذا التحول في العلاقات وحاجته إلى أرضيّة صلبة للاستمرار والتماسك. كما ألقت الضوء على التهديدات التي تواجه عددا من النشطاء الحقوقيّين والمعارضين السياسيّين في المجال المغاربيّ على إثر الانكفاء المتواصل للمناخ الديمقراطي في المنطقة ككلّ.

 من صفحة رئاسة الجمهورية التونسية على فايسبوك

قضيّة بوراوي: الشجرة التي تُخفي الغابة

شهدت العلاقات الفرنسيّة الجزائريّة تطوّرا ملحوظا في النصف الثاني من سنة 2022، بعد زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الجزائر رفقة وفد كبير ضمّ وزراء ومسؤولين سامين بين 25 و27 أوت. وتُرجمت أهداف هذه الزيارة ضمن مُبادرة أُطلق عليها “إعلان الجزائر المشترك لشراكة متجدّدة”. أنتجت هذه الزيارة ديناميّة وتواترا ملحوظا في درجة التنسيق الحكومي بين البلدين، ومن بينها زيارة الوزيرة الأولى الفرنسية إليزابيت بورن على رأس وفد وزاريّ يتكوّن من 13 وزيرا و3 كتّاب دولة في 7 أكتوبر، وزيارة وزير الداخلية الفرنسيّ جيرالد دارمانان في 16 ديسمبر، وصولا إلى زيارة الأمينة العامة لوزارة الخارجية الفرنسية آن ماري ديسكوت في نهاية شهر جانفي. لكن تبقى زيارة رئيس أركان الجيش الجزائريّ سعيد شنقريحة إلى باريس في 23 جانفي الأكثر اهتماما وإثارة للجدل، إذ تُعدّ الزيارة الأولى من نوعها منذ 17 سنة، أي منذ زيارة رئيس الأركان السابق أحمد قايد صالح إلى باريس سنة 2006. وقد اجتمع رئيس الأركان الحالي في زيارته بالرئيس الفرنسي ماكرون وسلّمه رسالة خطيّة من الرئيس الجزائري، بحضور وزير الدفاع الفرنسي سيباستيان لوكورنيه ورئيس أركان الجيش الفرنسي تيري بوركار. حملت الزيارة أبعادا ودلالات هامّة، كإحدى مراحل التهيئة لزيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى باريس، التي من المُفترض أن تتم في شهر ماي المقبل ومن المرجّح أن الحديث قد امتدّ لملف التنسيق العسكري الفرنسي الجزائري، في منطقة الساحل والصحراء، والدور الجزائري في عمليّات مكافحة الإرهاب.

غير أن “حادثة بوراوي” أتتْ لتُغيّر مجرى العلاقة بشكل مُفاجئ. كما شدّدت التصريحات الجزائريّة المُتداولة من الجهات الحكوميّة أو المقرّبة من الجهات الرسميّة على اتهام دوائر فرنسيّة معيّنة بمحاولة التأثير على الاتجاه الإيجابيّ للعلاقات منذ مدّة. طُرح مثلا اسم السّفير الفرنسي السابق في الجزائر كزافيي ديرانكور كإحدى الشخصيّات التي عملت على توتير الأجواء بين البلدين عبر مقال له في صحيفة “لو فيغارو” الفرنسيّة، انتقد فيه النظام الجزائريّ بشدّة. بل وجّهت وكالة الأنباء الجزائريّة من خلال برقيّة إخباريّة، الاتّهام مُباشرة للإدارة العامّة للأمن الخارجي الفرنسي (المخابرات الفرنسية) ووزارة الخارجية، وعدد من المستشارين الفرنسيين من أصل جزائريّ (حسب المصدر) لضلوعهم في عمليّة إجلاء بوراوي إلى فرنسا وسعيها لتوتير الأجواء مع الجزائر. ومن جهتها، استدعت السلطات الجزائريّة سفيرها في فرنسا سعيد موسي للتشاور وأكّد وزير الاتصال الجزائري محمد بوسليماني في تصريح له على دور الإعلام الفرنسي في مغالطة الرأي العام العالمي حول قضيّة أميرة بوراوي.

أميرة بوراوي، وهي معارضة جزائريّة نشطت في حملة “بركات” ضد ترشح الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة لولاية رئاسيّة رابعة، والمُذيعة السابقة في راديو “إم” الإلكتروني الممنوع في الجزائر، الذي يقبع مديره إحسان القاضي حاليا في السجون الجزائريّة منذ ديسمبر الماضي، معروفة بشخصيّتها الجدليّة، وقد سبق لها محاولة مُغادرة الجزائر في الأشهر الماضية لمرّات عديدة بحجة زيارة ابنها المقيم في فرنسا. وتكشف بعض المصادر الجزائريّة عن “مُخطط” فرنسي حسب تعبيرها لتهريبها أوّلا من الجزائر إلى تونس بشكل غير قانوني، ثم التنسيق لاستكمال عمليّة نقلها إلى فرنسا انطلاقا من الأراضي التونسية. وهو موقف ردّ عليه المتحدّث باسم وزارة الخارجية الفرنسيّة فرانسوا ديلما باعتبار أنّ السلطات الفرنسيّة مارست دور الحماية القنصليّة لمواطنة فرنسيّة، بحُكم امتلاك بوراوي للجنسيّة الفرنسية واستظهارها بجواز سفرها الفرنسي في تونس قبل مُحاولتها مغادرة البلاد.

ورغم نقاط الغموض المُتعلّقة بقضيّة بوراوي، تُشير عديد القرائن إلى تخطيط فرنسيّ مُسبق على عديد المستويات لاستكمال عمليّة إجلاء بوراوي إلى فرنسا، بدءا من التدخّل لمنع ترحيلها إلى الجزائر بعد إيقاقها في مطار قرطاج بسبب غياب ختم الدخول إلى تونس في جواز سفرها الفرنسيّ، ثمّ توفير الحماية القنصليّة لها بعد إطلاق سراحها بقرار قضائي والضغط على السلطات التونسيّة لتمكينها من السّفر إلى مدينة “ليون” الفرنسيّة. وقد سبق لبوراوي أن صرّحت للإعلام الفرنسي بتدخّل الرئيس قيس سعيّد كذلك في الملف مباشرة ونقلها إلى فرنسا.

حملة إيقافات في الجزائر بعد الحادثة

تبعت هذه الحادثة ردود فعل قويّة من السلطات الجزائريّة، شملت إيقاف مجموعة من الأشخاص، من بينهم والدتها خديجة بوراوي التي تمّ إيقافها يوم 11 فيفري، وسائق الأجرة الذي أوصل الناشطة الجزائريّة من عنّابة إلى تونس وعدد من رجال الأمن في المعبر الحدودي الذي عبرت منهُ بوراوي إلى الأراضي التونسيّة. كما تمّ إيقاف الصحفي الجزائريّ المقيم في تونس رؤوف فرح أثناء دخوله إلى الجزائر، لأسباب مجهولة، لا يُعلم إن كان من بينها علاقة ما بقضيّة “أميرة بوراوي”. يُبيّن منهج الاعتقالات الأخيرة، والاستناد إلى الطرح السياديّ في القضيّة (التشديد في مذكرة رسمية للخارجية الجزائريّة على انتهاك السيادة الوطنيّة من قبل موظفين دبلوماسيّين وقنصليّين وأمنيين تابعين للدولة الفرنسيّة)، ومبدأ عدم التدخّل في الشؤون الداخليّة، مدى تخوّف السلطات الجزائريّة من استعمال الملف الحقوقي ضدّها في الظرف الحاليّ. كما رأت في عمليّة إجلاء بوراوي إلى فرنسا نكوصا عمّا اتًّفق عليه بين فرنسا والجزائر في أوت 2022، وخصوصا البنود المتعلّقة بالتعاون والتنسيق الأمني وتبادل المعلومات. علاوة على ذلك، تعتبر الأوساط الجزائرية الرسميّة ما حدث بمثابة التوجّه الذي يقوده شقّ من الأجهزة الفرنسيّة المُعارض لفكرة التقارب مع الجزائر، بل تُلمّح كذلك إلى دور مغربيّ مُفترض في إذكاء الخلاف وتوجيهه بشكل غير مباشر.

وامتدّت الضغوطات الجزائريّة الرسميّة لتشمل عددا من الناشطين والمعارضين المُقيمين خارج البلاد، ومن بينهم المقيمين حاليا في الأراضي التونسية الذين تطالب الجزائر بتسليمهم، مما دفع بالعديد منهم إلى تغيير أماكن سكنهم بشكل مستمرّ تفاديا لإمكانية القبض عليهم وترحيلهم إلى الجزائر، تحاشيا  لسيناريو مشابه لعمليّة تسليم الناشط الجزائريّ “سليمان بوحفص” سابقا.

من صفحة الرئاسة الجزائرية على فايسبوك

تجاذبات متعددة تحيط بالموقف التونسي

على مستوى آخر، وضمن موقع تونس تحديدا من هذه الأزمة، لا تزال عديد المُلابسات قائمة حول الطرف التونسي الذي يسّر عمليّة تنقل أميرة بوراوي إلى فرنسا. فعملية إقالة وزير الخارجيّة عُثمان الجرندي على إثر الحادثة مُباشرة دفعت بعض التحاليل إلى ربط ذلك بتصرّفه ضمن هذه القضيّة، في حين أشارت بوراوي إلى تدخّل قيس سعيّد نفسه في العمليّة في تصريحات إعلاميّة سابقة، مُعتذرة عن الحرج الذي تسبّبت فيه بطريقة خروجها للسلطات التونسيّة. وبغض النظر عن الطرف التونسي المسؤول، لم تشأ التصريحات الرسميّة الجزائريّة الخوض في تحميل المسؤوليّة للسلطة التونسيّة بداية، وهو تصرّف رسمي تزامن مع تشديد أمني وجمركي استهدف المسافرين التونسيين الموجودين في الجزائر قبل إسداء الرئيس الجزائري توجيهاته للأمن الجزائري بتجنّب عرقلة مرور التونسيّين العابرين للحدود البرية. وعلى إثر ذلك، جرى اتصال بين الرئيسين التونسي والجزائري أكّد حسب البيانات الرسمية على عدم تأثر العلاقات الثنائيّة بهذه القضيّة. كما أكّد وزير الإعلام الجزائريّ في تصريح له على اتهام بعض وسائل الإعلام الفرنسيّة بمحاولة توتير الأجواء وزعزعة العلاقات بين تونس والجزائر.

وبعيدا عن التّصريحات الدبلوماسية حيال الموضوع، أظهر التعامل التونسيّ مع القضيّة حجم التناقض الذي وقع فيه الرئيس سعيّد، الذي دائما ما يحاول خطابه أن يستند إلى الثوابت الوطنيّة والطرح السياديويّ، بالرضوخ للضغط الخارجيّ في هذه القضيّة. وبرغم الحرص على توضيح استمرار النسق الإيجابيّ للعلاقات الثنائيّة بين تونس والجزائر، لا يخفى التأثير الجزائري المتزايد على المواقف الدبلوماسية التونسية منذ أشهر. وقد تجلى هذا الضغط في استقبال رئيس جبهة البوليزاريو في تونس بشكل رسميّ وما نتج عنهُ من أزمة مع المغرب. كما تجلّى في بعض التصريحات الصادرة عن أوساط رسميّة وشبه رسميّة جزائرية عن تبعيّة القرار السياسي التونسي للجزائر، الذي وصل حدّ اعتبار تونس ك”ولاية جزائريّة” في تقزيم واضح للسيادة التونسية. كما لم تستقبل الأوساط الرسمية التونسية اللقاء الذي جمع رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني بالرئيس الجزائريّ بارتياح، إذ تناولت المباحثات بين الطرفين الوضع السياسي في تونس و”السيناريوهات المطروحة” حسب تصريح ميلوني، الذي لم يجد اعتراضا من عبد المجيد تبون كذلك. ولا يبدو أن هذه الزيارة الرسميّة قد أثارت قلق السلطات التونسيّة فقط، بل من الواضح أن جزءا من التوتر الدبلوماسي الحاليّ بين الجزائر وفرنسا، يعود إلى التقارب الأخير بين إيطاليا والجزائر وسعي إيطاليا لكي تصبح المركز الرئيسيّ لتوزيع الغاز في أوروبا، عوضا عن إسبانيا التي تشهدُ علاقاتها حاليّا توتّرا كبيرا مع الجزائر. وبالاستفادة من ذلك، تعملُ إيطاليا على إعادة إحياء مشروع “أنبوب غالكسي” الرابط بين الجزائر وإيطاليا مُباشرة عبر البحر الأبيض المتوسّط الذي سيُمكن إيطاليا من الحصول على إمدادات غازيّة إضافيّة. ويعود جزء من القلق الرسميّ الفرنسي الكتوم إلى إمكانيّة رعاية أطراف غيرها -مثل إيطاليا- لتسويات سياسيّة جديدة بدعم أمريكي، ما سيدفع إلى إمكانيّة تهميش الدور الفرنسيّ في ملفّات إقليميّة هامّة على غرار الملفّ الليبيّ. وربّما قد يمتدّ الأمر كذلك إلى تونس، التي تمكّنت فرنسا من استعادة موطئ قدم تقليديّ لها فيها بعد 25 جويلية 2021، غير أنها تُنتقد اليوم بسبب استمرارها في مسؤوليّة دعم مسار سياسيّ استبداديّ يغلب عليه التخبّط والعبث.

ختاما، سيحمل التوتر الجزائري الفرنسي في حال استمراره، أعباء مُضاعفة على الدبلوماسيّة التونسيّة التي ستحاول موازنة مواقفها في عديد المحطّات القادمة بين القوّتين المؤثرتين وظيفيا في ديناميكيّات السياسة التونسيّة. فضلا عن أنّ بعض الخطوات الأخيرة للسلطة في تونس وأساسا رئاسة الدولة، وإعلانها عن إجراءات جديدة ستطال المهاجرين غير النظاميين من دول إفريقيا جنوب الصحراء المتواجدين في تونس، واعتبارهم مشروعا توطينيا، ستُلقي بعديد التبعات على الالتزامات الدولية لتونس في ملف الهجرة. ومن جهة أخرى، يمكن للتمشّي الذي يعتمدهُ سعيّد حاليا في اتجاه المواجهة مع الاتحاد العام التونسي للشغل أن يثير قلقا لدى الجزائر التي تتمتّع بعلاقات تاريخيّة مع المنظمة الشغيلة، قد يدفعها للعب دور وساطة بينهما، بشكل يعزّز أكثر فأكثر نفوذها في تونس.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، الجزائر ، فرنسا



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني