
بتاريخ 13-07-2021، قرر مجلس القضاء العدلي إيقاف وكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بتونس القاضي بشير العكرمي عن العمل وإحالة ملفه التأديبيّ على النيابة العمومية لتتبّعه من أجل ما نُسب له من إخلالات. لم يبين المجلس ما هي الوقائع التي نُسبت للقاضي المعني والتي من شأنها أن تشكل جرائم بمفهوم القانون الجزائي في جانبه. كما لم يذكر ملخص أعماله ولم ينشر نصّ قراره وتعليله له.
بدا هنا أنّ المجلس الذي اضطرّ لإعلام العموم بنتيجة مداولته اختار أن يستند لما يسمّى بواجب تحفظ وسرية مفاوضة لينتهي لحجب ما زاد على ذلك من تفاصيل. وكانت ما اصطلح على تسميته محليا هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي قد سبقت القرار إلى نشر مقتطفات من تقرير التفقدية سند المؤاخذة، كما تداول رواد شبكات التواصل الاجتماعي والإعلام تصريحات للناطقين باسمها عمّا ينسب للعكرمي. كما كان جانب آخر من المتابعين بادر إلى نشر أجوبته عما نسب له وانبرى متحدثا عن زيف الاتهام. وقد جعل هذا الأمر المعلومة متاحةً لمن يرغب فيها لكن من دون مصدرها ودون ما يفترض في ذلك من دقة وموضوعية.
ما نسب للعكرمي: الحقيقة تأخذ لون قائلها
نشرت هيئة الدفاع مقتطفات من تقرير التفقد ومقاطع فيديو قصيرة تشرح مضمونها. وأدى تداول الإعلام لعملها هذا لأن بات مضمونه في نظر المتابعين له حقائق ثابتة أكدت أن العكرمي كان طيلة فترة عمله كوكيل لجمهورية العاصمة يغطي على الإرهابيين ويحميهم بعدما كان قبل ذلك خلال فترة عمله على ملف الشهيد شكري بلعيد كقاضي تحقيق قد طمس الحقائق لغاية حماية الضالعين في الجريمة من السياسيين. كما تولّت ذات الهيئة فترة نظر المجلس في الملفّ الترويج لأخبار مفادها أن أعضاءه يتعرّضون لضغوط وتهديدات ومنهم رئيسة المجلس القاضية مليكة المزاري من قبل قضاة محسوبين على حركة النهضة. وما أن أُعلِن المقرر التأديبي حتى بادر المتحدثون باسم الهيئة إلى الاحتفاء بنصرهم وبرئيسة المجلس على شجاعتها، وليؤكدوا أنهم لن يتراجعوا في متابعة ملف المؤاخذة والذي كشف تورّط النهضة في الإرهاب كما قالوا منذ البداية.
في الجهة المقابلة، لم تمنعْ هيمنة خطاب الإدانة العكرمي وقد تأيّد بقرار المجلس المثبت له من بروز خطاب مضادّ منطلقه الوسط القضائي ووجد صداه في أوساط إعلامية. في هذا الإطار وفي تدوينة على صفحات التواصل الاجتماعي، كشف القاضي حمادي الرحماني أن أعضاء مجلس القضاء انقسموا إلى نصفين فيما تعلق بالموقف من العكرمي: فسبعة منهم كانوا مع التصريح بانتفاء كل سبب للمؤاخذة فيما سبعة آخرون قالوا عكس ذلك وكانت لهم الغلبة لكون رئيسة المجلس كانت في صفّهم. وأوضح الرحماني استنادا لهذا المعطى أن الإدانة كانت نتيجة لموقف سياسي بدليل حدة الاختلاف فيها. في إثر هذا، نشرتْ مواقع إعلامية وشخصيات عامة جانبا من ردود العكرمي عن تقرير التفقد وتمسكت بكونها ردت الاتهام بالكامل وبكون المجلس خضع للحسابات السياسية لجانب من أعضائه فرضت قراره. وقد عزّز هؤلاء رأيَهم هذا بأن ذات المجلس وبعدما استمع لمرافعة العكرمي وتلقى مؤيداته في جلسة أولى، اضطر ليسائل التفقدية العامّة عن مؤيدات تقريرها وعن إجراءات مباشرتها لعملها. وقد اكتفت التفقدية تنفيذا لهذا الحكم التحضيري، بأن قدّمت صوراً من مؤيدات سبق وأضافها العكرمي من دون تعليل أو جواب عما ظهر من تعارض لبعض معطيات تقريرها مع الوقائع الثابتة.
زمن القضاء الصامت ولى: مجلس القضاء خسر معركة الشفافية .
أسند مجلس القضاء العدلي قرار إيقاف العكرمي عن العمل للفصل 63 من القانون المنظم له والذي ينصّ في فقرته الأخيرة على أنّه “إذا كانت الأفعال المنسُوبة للقاضي تشكّل جنحة مخلّة بالشرف أو جناية، فعلى المجلس القضائي أن يتّخذ قرارا معللا بإيقافه عن العمل في انتظار البتّ فيما ينسب إليه ويُحال الملف فورا إلى النيابة العمومية لاتخاذ ما تراه صالحا من إجراءات”. ولكن، وخلافاً لمنطوق هذا السند، لم يصدر قرار معلّل في الموضوع في تاريخه واكتفى بإصدار بيان مقتضب في الموضوع. وقبل ذلك وبعده، لم يتكلّم النّاطقون باسمه كما لم يصدر عنه أي موقف رسمي يبين صحة ما يتم تداوله بخصوص تعرض أعضاء من داخله لضغوطات وحول ما يقال عن تأثير الانتماءات الحزبية لأعضائه من غير القضاة على ما اتخذوا من مواقف خصوصا منهم أولئك الذين رجّح التصويت موقفهم.
وهنا دعم صمت المجلس ما يسود من شكوك حول موضوعية نظره في هذه القضية وغيرها من ملفات تأديب القضاة التي يكون فيها حضور للاعتبار السياسي. وأكد هذا الصمت أنه بات يعاني أزمة مردها عدم احترامه لحق الرأي العام في المعلومة. ويؤمل بالتالي أن يستخلص الدرس من هذه التجربة التي علمتنا أن زمن القضاء الصامت قد ولّى وأن الرقابة على عمل مجلس القضاء وفرض الالتزام بالشفافية عليه يظلان شرطاً ضرورياً لمنع تحوّله، هو الذي أناط به الدستور السهر على ضمان استقلال القضاء، إلى ساحة صراع للمتدخلين فيه.
متوفر من خلال: