أعلن رئيس مجلس النواب نبيه بري عن انعقاد جلسة تشريعية يومي 30 أيلول و1 تشرين الأول 2020. وتأتي الجلسة في أجواء استثنائية بعد أيام من اعتذار رئيس الحكومة المكلّف مصطفى أديب عن مهمّة تشكيل حكومة بعد تعثّر توصّل زعماء الطوائف إلى تسوية لتشكيل حكومة رغم الضغط الفرنسي، وقبل أيام من الذكرى السنوية الأولى لاندلاع انتفاضة 17 تشرين. وكالعادة، ينشر المرصد البرلماني للمفكرة القانونية تعليقاته على مجموعة من المقترحات المقدمة. في هذا المقال، نتناول أحد أهم الاقتراحات المطروحة غدا من الناحية الحقوقية وهو تعديل المادة 47 وهو الاقتراح الذي تقدم بهه النائب جورج عقيص كما عدلته لجنة الإدارة والعدل. وفيما يتضمن هذا الاقتراح ضمانات هامة للمشتبه به في التحقيقات الأولية، فإنه من جهة أخرى يتضمن مادة ملتبسة قد تسمح بتجاوز أمد توقيف الأشخاص في هذه المرحلة (المحرر).
بتاريخ 23 حزيران 2020، أنجزت لجنة الإدارة والعدل في مجلس النوّاب دراسة اقتراح قانون انتهت إلى تسميته: “اقتراح قانون لتعزيز الضمانات الأساسية وتفعيل حقوق الدفاع والاستعانة بمحامٍ خلال التحقيق الأوّلي”. وقد هدف الاقتراح المقدّم من النائب جورج عقيص (كتلة الجمهورية القوية/القوّات اللبنانية) إلى ضمان حقّ الدفاع في فترة التحقيق الأوّلي في المخافر أو من النيابات العامّة، مع التركيز على الحقوق اللازمة للحدّ من أعمال التعذيب وسوء المعاملة، حسبما نستشفّ من أسبابه الموجبة.
ومن أبرز الحقوق التي تضمّنها الاقتراح، الحقّ في الاستعانة بمحامٍ وفي حضوره التحقيقات الأوّلية بما يمنع الاستفراد أو الاستقواء بالمشتبه به. والملفت أنّ النّص ذهب إلى حدّ إعلان حقّ المتقاضي الذي لا تمكّنه أوضاعه الماليّة من تكليف محام، في مساعدة محامٍ مجّاناً، بالتنسيق مع نقابَتي المحامين. يضاف إلى هذا الحق جملةٌ من الحقوق الأخرى كحقّ المشتبه به في معرفة ماهيّة الشبهات القائمة ضدّه والأدلّة والقرائن المؤيّدة لها وحقّه في معاينة طبّية مجّانية (النفسيّة والجسديّة) وحقّه في الترجمة، فضلاً عن تسجيل إجراءات التحقيق بالصّوت والصّورة. كما نصّ الاقتراح على ضمانات تمثّلت في فرض الالتزام بالأحكام الواردة فيه، من خلال تجريم عدم مراعاتها أو تخويل المشتبه به المطالبة بإبطال محضر التحقيق.
وفيما بدا الاقتراح بمثابة خطوة هامّة في اتجاه تكريس الممارسات الفضلى، وبخاصة لجهة ضمان حضور المحامي إجراءات التحقيق، فإنّ تطبيق أحكامه قد يواجه صعوبات كبيرة في ظلّ الموارد المتوفّرة وواقع المؤسّسات حاليّاً. هذا فضلاً عن أنّه تضمّن اتجاهاً مقلقاً بشأن أمد احتجاز المشتبه به.
وقبل المضيّ في إبداء ملاحظاتنا في هذا الشأن، يقتضي التذكير بأنّه تمّ إقرار هذا الاقتراح في موازاة معركة خاضتها “لجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين” لتكريس حق المشتبه به في الاتصال بمحامٍ واستشارته قبل استجوابه. كما يقتضي التذكير بأنّ تكريس حق حضور المحامي جلسات الاستماع والاستجواب يأتي متأخّراً بعدما انتهت نقاشات 2001 حول قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد إلى استبعاده ويأتي بعد سنوات من تكريسه في دول متقاربة من حيث النظام القانوني كتونس.
هذا “ما يجب أن يكون” بمعزل عمّا هو حاصل فعليّاً
عند التدقيق في الأسباب الموجبة للاقتراح، يتبدّى أنّه بُنيَ بشكل خاصّ على التّوصيات التي أعلنت عنها لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب في نيسان 2017، وتالياً على رأي هذه الأخيرة بخصوص أهمّ الثغرات الواردة في قانون أصول المحاكمات الجزائية والتي يسهل بفعلها ارتكاب أفعال تعذيب. في المقابل، خلَتْ من أيّ مُعطى واقعيّ يستند إليه التعديل القانوني، باستثناء معطى وحيد اتّصل بحق الأجانب في الترجمة ورد عرَضاً ضمنها، وقوامه “وجوب إلزامية الاستعانة بمترجم للأجانب الذين ينتمون إلى دول لا تكون فيها اللغة العربية هي اللغة الرسمية باعتبار أنّ التّجربة العمليّة أظهرت بأنّ الأجانب لا يفقهون اللغة العربية وحتى ولو أدلوا بذلك في المحضر”.[1]
وبذلك، بدَتْ الأسباب الموجبة وكأنها تعلن ما يجب أن يحصل مستقبلاً من دون أن تبيّن ما هو حاصل فعليّاً وما قد يترتّب عليه من نتائج سلبية على حقوق الدفاع. فكأنّ الاقتراح مجموعة قواعد يجدر تكريسها التزاماً بالمعايير الدولية، من دون أن يتمّ تبريرها بالأضرار والمخاطر الناجمة عن غيابها وتالياً بحاجات المجتمع أو مصالحه. ومؤدّى هذا التوجّه الذي يستعيد الطرق المعتمدة بشكل واسع في التشريع اللبناني هو تحويله إلى مادّة تقنيّة قلّما يستشعر المواطنون غير المتخصّصين بمدى أهميتها بالنسبة إليهم. هذا فضلاً عن أنّ من شأن تجاهل الواقع وعدم الغوص في تفاصيله أن يحول دون تحديد المشاكل الأساسيّة وأن يُقلّل تالياً من إمكانية استخراج الحلول اللازمة لمعالجتها.
ومن المهم في هذا المكان لفت النظر إلى جانبين سلبيين في الاقتراح نتجا عن قصور هذه المنهجية.
الجانب الأول، تمثل في تجاهل تام للممارسة غير القانونية المتمثّلة في تفتيش محتوى الهواتف النقّالة من دون الحصول على إذن مسبق من أيّ مرجع قضائي، رغم أنّ المقترح استعاد المادّة القديمة بخصوص حماية الفرد بما يتّصل بتفتيش منزله. فكأنّما المشرّع لا يعرف بعد أنّ حرم الخصوصية الذي كنّا نختزله بحرم المنازل، بات يشمل بدرجة كبيرة هذه الهواتف.
الجانب الثاني، والأكثر خطورة، اتّصل بالممارسة التي تمثّلت في إبقاء أشخاص محتجزين في النظارات “لحساب النيابة العامّة” رغم انقضاء الحدّ الأقصى للاحتجاز الذي تسمح به المادة 47 أثناء فترة التحقيق الأوّلي وهي 4 أيام. ويبرّر العديد من قضاة النيابة العامّة عموماً هذه الممارسة غير القانونية بأنّها ضرورة يفرضها اكتظاظ نظارات قصور العدل أو السجون أو ضغط العمل في النيابات العامّة أو عدم تحديد جلسة لحضور المحتجز أمام قاضي التحقيق أو الحكم الذي يعود له قرار تمديد احتجازه أو إخلاء سبيله. فكيف عالج الاقتراح هذه الممارسة التي لم يشر إليها قط في أسبابه الموجبة؟ هنا نلحظ أنّ الحلّ المعتمد ذهب إلى تكريسها رغم خطورتها مع إدخال تعديل بسيط عليها: فلا يبقى المحتجز بعد انتهاء المدّة القصوى للاحتجاز في المركز الذي تمّ استجوابه فيه بل يتوجّب نقله إلى أيّ مركزٍ آخر غير تابع للقطعة نفسها. وإذ يجد هذا التعديل على الأرجح تبريره في تمكين المحتجز من التشكّي للقاضي أو للقطعة الأخرى في حال تعرّضه لأيّ اعتداء أثناء استجوابه (وهو أمر يبقى مستعصياً في حال استمرار احتجازه في مركز تابع للقطعة الأمنية نفسها)، فإنّه يؤدّي عملياً إلى إدخال المحتجز في دوامة الاحتجاز أو الانتقال من زنزانة إلى أخرى. وعليه، بدل معالجة إشكال سعة نظارات العدلية بما يضمن مراعاة الحرّية الشخصية والمدّة القصوى للتوقيف، آثر المقترح التأقلم مع هذا الواقع، وعمليّاً رسم حدود الحرّية الشخصية على ضوء ما تفرضه مساحة أماكن التوقيف وليس العكس.
هذا “ما يجب أن يكون” بدون ضمان موارد لتطبيقه
فضلاً عمّا تقدّم من إشكاليّات في منهجية وضع الاقتراح، فإنّه لا يترافق مع أيّ دراسة لإمكانية تحقيق الحلول المقترحة على أرض الواقع مستقبلاً، وبخاصّة بما يتّصل بالبنود التي تتطلّب رصد موازنة مالية لتحقيقها. هذا مع العلم أنّه باستثناء إرجاء “إلزاميّة التسجيلات الصّوتية” لمدّة شهرين من تاريخ نشر القانون في الجريدة الرسمية، اعتبر الاقتراح مجمل الحقوق الأخرى نافذة ابتداءً من هذا التاريخ.
وما يزيد هذه الملاحظة إلحاحاً، الأمور الآتية:
- الصعوبات المالية الضخمة التي يواجهها لبنان والتي تشكّل عاملاً ضاغطاً لتخفيض غالبية بنود موازناته لا زيادتها. وما يخفّف من هذه الصعوبة هي الأوّلوية الواجب إعطاؤها لتوفير الحقوق المدنية (وفي مقدّمتها حق المحاكمة العادلة) المكرّسة في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والذي يبقى التزاماً دولياً ودستورياً ناجزاً بذمّة الدولة، وذلك بخلاف الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يرتبط منحها بإمكانات الدولة وقدراتها الفعلية.
- أنّ أيّ زيادة في الموازنة يتطلب من حيث المبدأ إقرار موازنة جديدة للسنة التي تعقب إصدار القانون وهو أمر قد يتطلّب وقتاً يتعدّى الشهرين.
- أنّ تأمين المساعدة القانونية يتطلّب تطوير نظام المعونة القضائية برمّته، ضماناً لحق التقاضي والدفاع. فمع التسليم بدور المحامين بتأمين المساعدة القضائية لقاء الامتياز المعطى لهم بتمثيل المتقاضين أمام المحاكم، ثمّة حاجة لنظام معونة يضمن استمرارية هذا المرفق وجودته، كما يضمن توزيع هذا العبء بشكل يتناسب مع مدى استفادتهم من هذا الامتياز. إلّا أنّ شيئاً من هذا لم يتضمّنه القانون الذي بدا كأنه يفوّض نقابتي المحامين اتخاذ التدابير اللازمة لتحقيق هذه الغاية، من دون وضع أيّ ضوابط. وهو أمر يحتمل أن ينتهي إلى المراهنة على تطوّع المحامين وبخاصّة المتدرّجين منهم أو المساعدات المالية من الجهات المانحة، من دون أن يترافق دائماَ مع نظام رقابة وتقييم.
- أنّ توسيع حق المعاينة الطبّية لتشمل المعاينة النفسيّة يتمّ هو الآخر من دون تخصيص موازنة لوزارة العدل لهذه الغاية، بل أيضاً بمعزل عن أيّ إصلاح لنظام الأطباء الشرعيين لجهة تخصّصهم أو جهوزيّتهم أو نظام الرّقابة والمحاسبة الذي يخضعون له، وذلك على الرّغم من تعاظم المآخذ على أدائهم. وتفيد مراقبة الواقع أنّ المشتبه بهم غالباَ ما يضطرون إلى استدعاء أطبّاء شرعيين من “غير الأطباء المناوبين” لعدم جهوزية هؤلاء أو ضماناً للحصول على تقارير طبية وافية ومرفقة بوثائق ثبوتية أو تجنّباً للخضوع لمعاينة أطباء مراكز الاحتجاز الذين غالباً ما يراعون مصلحة الأجهزة الأمنية المتعاقدين معها. كما غالباً ما يطلب منهم تسديد أتعاب الأطبّاء الشرعيين، بما فيهم الأطبّاء المستدعين بإشارة من النيابة العامّة لغايات التحقيق.
- أنّ منح حق الاستعانة بمترجم لجميع الأجانب المتحدّرين من دول لا تقرّ اللغة العربية كلغة رسمية يتمّ هو الآخر بدون وضع آليّات لضمان توفّر عدد كافٍ من المترجمين المحلّفين، وبخاصة في ظل وجود عدد كبير من المتقاضين المتحدّرين من دول لا تدرّس لغاتها الرسمية في المدارس الوطنية. هذا فضلاً عن أنّ هذا المعيار كما ورد في عموميته يحتاج إلى مراجعة، فضلاً عن وجوب مواءمته مع المادة 81 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تفرض اللجوء إلى مترجم أمام قاضي التحقيق فقط عند استجواب مدّعى عليهم لا يحسنون اللغة العربية.
وأكثر ما نخشاه هو أنّ يشكل ضمان هذه الحقوق بدون تمكين المؤسّسات من تطبيقها سبباً ليس فقط لتأخير التحقيقات الأوّلية، بل أيضاً لتمديد آماد التوقيف، أقلّه خلال مدّة الاحتجاز المسموح بها داخل النظارات، كلّ ذلك بانتظار وصول المترجم أو المحامي أو الطبيب الشرعي، بحيث تصبح ضريبة التمتّع بهذه الحقوق هي تمديد أمد الاحتجاز في نظارات المخافر. وهو أمر قد يدفع عدداً كبيراً من المتقاضين إلى التخلّي عنها ضنّاً بحرّيتهم كما يحصل حالياً. وما يعزّز هذه المخاوف هو التجاوز الحاصل بشكل منتظم ومتكرّر في آماد الاحتجاز القانونية، من دون أن يستتبع ذلك أيّ محاسبة أو تعويض.
أيّ آليات لمحاسبة انتهاك هذه الحقوق؟
فضلاً عمّا تقدّم، يجدر التساؤل عن ضمانات هذه الحقوق. وفي هذا الإطار، يضيف الاقتراح ضمانتين اثنتين: الأولى تتمثل في تجريم المحقّق (سواء كان أحد قضاة النيابة العامّة أو من عناصر الضابطة العدلية) في حال عدم مراعاة ضمانات المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، علماً أنّ النصّ الحالي يعاقب مخالفة واحدة، هي مخالفة شروط الاحتجاز وتحديداً أمده. وقد تميّز المقترح في هذا الخصوص بتمكين المتقاضين من مداعاة المحقّق من دون حاجة للحصول على إذن مسبق من أيّ مرجع. أما الضمانة الثانية، فتتمثل في جعل عدم مراعاة هذه الضمانات سبباً لإبطال محضر التحقيقات.
إلّا أنّ هذه الضمانات تبقى في الواقع قاصرة عن توفير حماية كافية كلّما دُفع المُشتبه به إلى التخلّي عن حقوقه طوعاً ضنّاً بحرّيته وفق ما سبق بيانه. أمر آخر قد يجهض هذه الضمانة هو عدم تضمين الاقتراح نصاً صريحاً بعدم إمكانية التذرّع بإشارة النيابة العامّة أو بأوامر المرجع الأعلى في النيابة العامّة أو تعاميمه (النائب العام التمييزي) للتنصّل من المسؤولية الجزائية. فضلاً عن ذلك، وبخلاف المادة 15 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي جزمت بصلاحية المحاكم العدلية، فإنّ المقترح خلا من إحالة صريحة إليها، الأمر الذي يُبقي باب الجدل حول صلاحية المحكمة مفتوحاً.
بقي أن نذكّر للعبرة أنّه رغم تجريم تجاوز أمد الاحتجاز بعقوبة تصل إلى السّجن خمس عشرة سنة، لم تسجّل حتى الآن أيّة ملاحقة جزائية لهذه المخالفة التي باتت تأخذ طابع الممارسة اليومية. فلا ننسى أنّ العامل الأساسي للمحاسبة الجدّية والمحاكمة العادلة يبقى استقلال القضاء وشفافيته، وهو أمر ما برح ينتظر ساعة تحقيقه.
[1] كانت “المفكرة القانونية” وثقت في إطار عملها على عاملات المنازل حالات عدّة أدلت بها عاملات بإتقانهنّ اللغة العربية، ليتبيّن من ثمّ أنّ الأمر غير صحيح. كما وثقت حالات استعانت فيها الضابطة العدلية بصاحبة العمل لترجمة أقوال العاملة فيما أنّهما في حال خصومة.
:للاطلاع على نص الاقتراح ، اضغط/ي على الرابط تعديل أحكام المادة 47