تطور الخلاف الذي جدّ في 29/04/2015 ببلدة تمغزة[1] بين تاجر مواد غذائية وحريفه رئيس مركز الحرس الوطني الحدودي بالمنطقة الى خصومة. وسريعاً ما تدخّل في مجرياتها أشخاص آخرون ادّعوا أنّ العنصر الأمنيّ شتم أبناء بلدتهم وتولّوا فيما اعتبروه ردّ فعل منهم على تصرفه تعنيفه ثم شد وثاقه ومحاولة جره بشوارع القرية. تدخل مواطنون من البلدة وخلّصوا المعتدى عليه من المجموعة التي عنفته. واستوجب الاعتداء الذي خلّف أضرارا بدنية جسيمة ايداع المعتدى عليه بمؤسسة استشفائية.
استشعر القائمون على المؤسسة الامنية الاهانة وقدّروا ان الاعتداء يندرج ضمن خانة الارهاب والتطاول على هيبة الامنيين. وطلبوا من النيابة العمومية لدى المحكمة الابتدائية بتوزر الاذن لهم باجراء مداهمة ليلية لمنازل من يشتبه بضلوعهم في الاعتداء على زميلهم ليتسنى ضبطهم سريعا. قدّر مساعد وكيل الجمهورية المتعهد حينها “ماهر البحري” أن ملابسات الواقعة تستدعي تعاملا حذرا، ورفض بالتالي الاذن باجراء تفتيش بمنزل المشتبه عليهم. لم يقبل المسؤولون الامنيون بموقف مساعد وكيل الجمهورية وقرروا تنفيذ المداهمات دون الرجوع اليه، وهو ما تم فعلا بذات الليلة.
عمت بلدة تمغزة حالة من الغضب الشعبي بعد المداهمات وغذّت الاعتبارات الجهوية هذا الغضب الذي انتهى الى ادانة شعبية للتدخل الامني والى مطالبة بالبحث عن سبب الخلاف بين الامني والتاجر والذي يتمثل في تأخر عون الحرس عن خلاص دينه. لم تنجح القوة الامنية في منع تحول المواجهات بين المواطنين والامنيين الى مواجهات عامة تم الاعتداء بمناسبتها على مقار امنية واعوان امن. اضطرت السلطة السياسية و من خلفها الادارة الامنية بعد تطور الاضطراب الامني بمنطقة حدودية يتهددها الخطر الارهابي للبحث عن صلح مع متساكني تلك المنطقة يعيد للبلدة استقرارها. وقد تحقق هذا بعد أن توصلت منظمات المجتمع المدني ووالي الجهة لاتفاق أسقط بموجبه عون الحرس الوطني حقه في التتبع على نحو مكّن من الافراج على المتهمين الموقوفين في الاحداث، وتعهد في المقابل وجهاء البلدة بضمان عودة الهدوء اليها.
توقع الجميع ان تنهي المصالحة الازمة. لكن مساعد وكيل الجمهورية تدخل مجددا ليؤكد ان المداهمات التي تمت مسألة غير قانونية لحصولها من دون اذن قضائي وأنه سيجري بحثا في الموضوع. اعتبر الامنييون حديث المساعد تهديدا لرؤسائهم وقررت نقاباتهم أن تنظم يوم 04-05-2015 وقفة احتجاجية امام مقر المحكمة الابتدائية بتوزر احتجاجا على تصرفات مساعد وكيل الجمهورية.
تحرك مساعد وكيل الجمهورية مرة اخرى فتولى في اليوم الموالي الادلاء بتصريحات اعلامية بينت موقفه من الاحداث ورفضه اقفال ملف التجاوز الامني. وجد مساعد وكيل الجمهورية مساندة واسعة من المجتمع المدني بتوزر ومن المحامين بها وتولى زملاؤه القضاة بالمحكمة الابتدائية بتوزر يوم 06-05-2015 تنظيم وقفة تضامنية معه امام مقر محكمتهم ساندتها جمعية القضاة التونسيين وحضرها عدد من ناشطي المجتمع المدني والمحامين. وشكلت الوقفة رسالة لمن حاول الانفراد به تؤكد ان له حماية ممن يؤمنون بعدالة قضيته.
تظهر بهذا المنظور أحداث تمغزة في تجلياتها وتطوراتها حبلى بالرسائل التي يتعين الوقوف عندها. فقد حصلت هذه الاحداث خلال ايام قليلة بعد اقتراح الحكومة التونسية لمشروع قانون زجر الاعتداءات على الأمنيين. وتكشف معطيات تمغزة عن قصور تبريرات طرح هذا المشروع . كما يصلح ان يكون أسلوب تعاطي مساعد وكيل الجمهورية مع الضغط الذي سلط عليه نموذجا لتصور آليات حماية استقلالية القضاء في ممارستها.
رسالة تمغزة: حماية الأمنيين لا تمرّ عبر القوة
برر خطاب النقابات الأمنية الاعتداءات التي طالت المقرات الأمنية والأمنيين بعد الثورة بغياب قانون خاص يشدد في العقوبات على من يتهمون بالاعتداءات على الأمنيين. وتولت الحكومة التونسية اقتراح مشروع قانون على مجلس نواب الشعب عنوانه زجر الاعتداءات على الأمنيين، وذكرت ان الهدف منه توفير حماية مدعمة للامنيين.
يفترض المنطق الذي تبنته الحكومة في مشروع قانونها أن يؤدّي التشدد في عقاب كل من يعتدي بأي شكل كان على المؤسسة الأمنية للحدّ من تلك الاعتداءات ومنع تكرارها. وبينت في المقابل تجربة تمغزة أن التعاطي مع الاحتجاجات التي تستهدف المؤسسة الامنية لا يمكن ان يختزل في عقوبات جزائية رادعة. اذ ان الاعتداء الذي تم بتمغزة كان من اسبابه قوة تدخل الامن الذي تمثل في المداهمات الليلية وعمليات الايقاف. كما ان تجاوز الازمة لم يتحقق بالعقوبات الجزائية وانما بتوافق بين المجتمع المحلي والمؤسسة الامنية على تجاوز اسباب الخلاف.
تضامن سكان البلدة في بداية الامر مع عون الحرس الوطني بعد تعرضه للاعتداء فتولوا حمايته، ولم يعارضوا تتبع المعتدين. لكن التدخل الامني من جهة واسباب الاعتداء ودوافعه من جهة أخرى أدت للمس بثقة اهالي تمغزة بأمنهم ودفعتهم لمواجهته. ورغم ان تلك المواجهات تم خلالها حرق مؤسسة امنية والاعتداء على أمنيين، فان التتبعات الجزائية خفت وتيرتها وافرج عن كل الموقوفين[2] .
ويستخلص من هذه التجربة أن حماية الأمنيين تستدعي البحث في الأسباب التي قد تمس من ثقة العامة فيهم، وبعضها يعود لتصرفات فردية تسيئ لسمعة المؤسسة الأمنية. وقد تكون بالتالي أهم حصيلة لتجربة تمغزة وجوب التراجع عن تصور التشدد الجزائي كوسيلة لحماية الأمنيين في مقابل تطوير آليات انفتاح المؤسسة الأمنية على محيطها تعزيزا للثقة العامة فيها. هذا الانفتاح الذي يبدو انه تحول بفضل مبادرة مساعد وكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بتوزر لوسيلة ذات اثر في الدفاع عن استقلال القضاء
الانفتاح على الرأي العام دفاعا عن استقلالية القضاء
واجه مساعد وكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بتوزر الذي يعد بمنظور أقدميته في العمل القضائي قاضيا شابا هجوما مباشرا على شخصه من المؤسسة الأمنية بتوزر التي اتهمته بتعطيل عملها. وكان يمكن أن يؤدي استعراض النقابات الأمنية لقوتها في مواجهته الى تسويات بين الامن من جهة وكبار القضاة من جهة اخرى تنتهي باستبعاده من النظر في ملف القضية كما كان يتم سابقا. لكن رد فعل القاضي المعني والتفاف زملائه والمجتمع المدني حوله منع ذلك.
فقد انفتح مساعد وكيل الجمهورية على الاعلام وأدلى بتصريحات لوسائل الاعلام كشف خلالها أن مردّ خلافه مع نقابات الأمن هو رفضه خرق المؤسسة الامنية للقانون. وساند قضاة المحكمة الابتدائية بتوزر والمحامون الذي يعملون فيها موقف القاضي الشاب في مواجهة ضغط النقابات الامنية، وأدى التحرك المزدوج الى ايجاد خطاب يرفض التضحية بالقانون بحجة صون الأمن في حربه على الارهاب. ومن هذه الزاوية، يتجاوز الصراع بين القضاة ونقابات الأمنيين بتوزر الحادثة التي فجرته ليكشف عن أهمية خروج القضاة عن صمتهم في سعيهم لفرض استقلاليتهم.
وتكون بذلك تطورات احداث تمغزة في نهاياتها بتوزر كما بدايتها رسالة هامة للمجتمع القضائي الذي ينظر لمناقشة مشروع قانون المجلس الاعلى للقضاء بمجلس نواب الشعب . فقد بين قاض شاب لهذا المجتمع ان القانون يعد ضمانة للاستقلالية لكنه ليس الاستقلالية بعينها لكون الاستقلالية الفعلية لا تحميها النصوص القانونية بقدر حماية الممارسة الواعية والجريئة لها .
[1]تمغزة قرية حدودية تونسية تقع بالجنوب الغربي وتتبع اداريا ولاية توزر
[2]تم ليلة 29-04-2015 خلال التحركات الاحتجاية حرق جزء من مركز الامن السياحي والاضرار بعربة امنية وجرح عوني امن