ماذا بعد انتهاء “إمبراطورية غنيوة” في طرابلس؟ تحرير معتقلين والكشف عن مقابر جماعية


2025-05-23    |   

 ماذا بعد انتهاء “إمبراطورية غنيوة” في طرابلس؟ تحرير معتقلين والكشف عن مقابر جماعية
رئيس حكومة الوحدة الوطنية يجري زيارة تفقدية لمنطقة أبوسليم رفقة رئيس جهاز دعم الاستقرار

شهدت العاصمة طرابلس ليالي دامية، بدأت بعد قيام قوات حكومية موالية لحكومة الوحدة الوطنية مساء الإثنين السادس من مايو 2025 بالهجوم على مقرات تابعة إلى جهاز دعم الاستقرار في منطقة أبوسليم ، حيث بدأت جولة جديدة من العنف المسلح، إثر اشتباكات استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة والمتوسطة وأفضت إلى مقتل عبد الغني الككلي، نسبة لمدينة ككلة الواقعة على بعد حوالي 150 كيلومترا جنوب غرب طرابلس التي ينحدر منها والمعروف بـ”غنيوة”، وهو قائد جهاز أمنيّ يسمى جهاز دعم الاستقرار والتابع للمجلس الرئاسي بليبيا. تأسّس هذا الجهاز بقيادة غنيوة بقرار رسميّ صدر بتاريخ 11 يناير 2021، ومقرّه الرئيسي في مدينة طرابلس، وله صلاحيات في كافة مناطق ليبيا. عرف هذا الأخير بعد الإطاحة بنظام القذافي في عام 2011 حيث قام بتشكيل ميليشيا مسلحة تعرف ”بالأمن المركزي”، وأصبح من الشخصيات التي تتمتع بنفوذ واسع في طرابلس قبل أن يبسط سيطرته خارج العاصمة فأصبح لجهازه فروع ومكاتب وصلت إلى الحدود الليبية التونسية. لا بل كان عبد الغني الككلي يتحكم في أحد الموانئ البحرية في منطقة الماية حيث يعمل أفراد تابعون له بإرجاع المهاجرين من البحر بحجّة عمليات إنقاذ أو حماية المهاجرين. كما تورّط مكتبه في مدينة نالوت في العديد من الانتهاكات ضد المهاجرين المتعلقة بالإتجار بالبشر وطلب الفدية.

قرار حكومي بالقتل

نفّذ اغتيال عبد الغني الككلي (حليف وثيق لرئيس الحكومة عبد الحميد دبيبه لسنوات، المفاجئ  بأوامر من حمزة، قائد اللواء 444 الذي أكد في تصريح صحفي [4] في 19 مايو الأخير عندما اجتمع بجنوده وهنّأهم بما سماه القضاء على “امبراطورية غنيوة” أنّ اغتياله لهذا الأخير لم يكلّفه إلا ساعة واحدة،  وزعم أن الأمر لا يتعلق فقط بسقوط غنيوة بل بسقوط دول وأجهزة مخابرات تتعاون معه.

ما حدث سبّب صدمةً في المشهد السياسي الليبي المنهار وطرح تساؤلات حول سبب اختيار هذا التوقيت للقضاء على الككلي. وقد أرجعت حكومة طرابلس قرارها إلى حرصها على ضرورة الحفاظ على المصلحة العليا للبلد بعد أن توغل أمراء الحرب بشكل مرعب في كافة مفاصل الدولة سياسياً واجتماعيا، وزاد العنف وارتفع منسوب الجرائم ضد الإنسانية، ولا سيما بعدما أعلنت المحكمة الجنائية الدولية أنها قد جمعت الأدلة والبيانات التي تدين جرائم المليشيات المسلّحة في ليبيا في خضم قيام فريق تحقيقها بإجراء 20 مهمة في سبع دول وتوثيق 700 دليل بما في ذلك مواد مرئية ومسموعة، وتقارير طب شرعي وصور من الأقمار الاصطناعية ومقابلات مع الشهود. كما أبلغ كريم أحمد خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية مجلس الأمن الدولي أن المحكمة تلقت موافقة ليبيا على ممارسة اختصاصات المحكمة للتحقيق في الأحداث التي شهدتها البلاد ما بين 2011 حتى 2027، معتبرا هذه الخطوة «حاسمة نحو تحقيق العدالة». [5]

بعض المتابعين عن قرب للمشهد الليبي، تحدثوا عن خلافات حدثت بين الحكومة ومجموعة غنيوة على خلفية صفقات فرضها هذا الأخير تتعلق بالحصول على نسب من الأموال والعطاءات. وهو أمر ليس مستغربا خصوصا على ضوء تصريحات رئيس الحكومة الذي أكّد فيها أنّ الوزراء يتعرضون للابتزاز والتهديد  من قبل ميليشيات غنيوة وهو كما يروج حال مدراء البنوك والشركات العامة والاستثمارية الخاصة بالدولة.

بالتوازي مع هذين السببين اللذين يقفان وراء تصفية غنيوة، تجدر الإشارة إلى الضغوط الدوليّة التي تُمارس على الحكومة على علاقة بالوضع الأمنيّ في محاولة لوضع حدّ لوجود أربعة مربعات أمنية في العاصمة طرابلس التي تشرف عليها أربع جهات أمنية مختلفة هي على التوالي جهاز الردع ومكافحة الجريمة، جهاز دعم الاستقرار، اللواء 444 قتال واللواء 111 مجحفل التابع لرئاسة الأركان العامة للجيش الليبي، والتي يصعب التعامل معها والاقتصار على مربعين فقط لتسهيل المعاملات السياسية والاقتصادية.

أطراف عدّة سوف تستفيد من القضاء على مملكة الككلي. فقد انتهى عهد الابتزاز ورفع  سيف غنيوة الذي كان مصْلتًا على رقاب عدد من الوزراء ومدراء الوكالات والمصارف. وسوف يحاول رئيس الحكومة الاستثمار في هذا الحدث بتسويقه كإنجاز ضمن مشاريع “عودة الحياة” إلى طرابلس من أجل دعم رصيده أمام المجتمع الدولي والولايات المتحدة الأمريكية التي تبدو راضية عن العملية. وسوف تستفيد كذلك بعض الجهات العسكرية، خصوصا تلك التي شاركت في عملية الإطاحة بالككلي على غرار اللواء 111 بقيادة عبد السلام زوبي وكيل وزارة الدفاع، واللواء 444 قتال والذي رفع راية النصر بعد إنتهاء العملية.

رئيس حكومة الوحدة الوطنية أثناء زيارته إلى أبو سليم

الأوضاع الأمنية والإنسانية في طرابلس بعد تصفية غنيوة

رغم الترتيبات الأمنية التي تحدّث عنها رئيس الحكومة والجهات الأمنيّة التي ساهمت  في القضاء على الككلي، فإنه من غير الممكن اليوم التنبؤ بمآلات الوضع في طرابلس وفي المنطقة الغربية بوجه عام. ويتعزّز هذا الاعتقاد على ضوء  الاشتباكات التي ذهب ضحيّتها عشرات الموتى على خلفيّة محاولات القوات الموالية لرئيس الحكومة اقتحام مقرّات إمبراطورية أخرى يهمين عليها ما يعرف ب “جهاز الرّدع لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة” التابع للمجلس الرئاسي والذي يتخذ منذ 2011 من قاعدة معيتيقة مقرًّا له. ورغم أن الوضع يسير نحو التهدئة، إلا أن الوضع الأمني يبقى هشًّا خصوصًا وأن نقاط التماس بين الطرفين ما زالت قريبة وتشهد توتّرات.

كما لم يرفع بعد أنصار الككلي وحلفاؤه في عديد المناطق داخل وخارج طرابلس الراية البيضاء ولا زالوا يصرون على أنهم جهات شرعيّة حيث استمرّ جهاز دعم الاستقرار في إصدار البيانات باستخدام المنصّات الرسميّة الخاصّة به والتأكيد على أنه سوف يحاسب جميع الخونة  وجميع من غدر برئيسه وسلب منه كل ممتلكاته على حد تعبيره.

أما على صعيد الحكومة الحالية، فقد أدّت تصفية الككلي إلى استقالة عدد من الوزراء وتصاعد الضغط الشعبي عليها والمطالب بإزالة جميع المجموعات المسلحة وإجراء انتخابات عاجلة نيابية ورئاسية واستقالة رئيس الحكومة.

وبعد بضعة أيام على تصفية الككلي وانهيار معاقله في العاصمة تلوح بعض الآثار الإيجابية. إذ تمّ فتح السجون التي كان يقيمها وتحرير المعتقلين فيها كما تم اكتشاف العديد من المقابر الجماعية في أماكن سيطرة قواته. فعلى سبيل المثال، تمّ العثور في مستشفى أبو سليم للحوادث على أكثر من 50 جثة مجهولة الهوية تعود إلى أشخاص كانوا مختطفين ومحتجزين. كما عاد الكثير من المهجرين الذين  أجبروا على مغادرة طرابلس ومنطقة بوسليم بسبب  الابتزاز والتضييقات التي عانوا منها خوفا من الانتقام والاعتقال.

من جهتها أعلنت الحكومة، وبتوجيهات من رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة،  البدء في أعمال إزالة معسكر 77 وهو واحد من أهم وأضخم المعسكرات التي كان يسيطر عليها غنيوة في وسط العاصمة تمهيدا لضمّه للمشروع الأخضر باب العزيزية “الحياة بارك”، ضمن خطة “عودة الحياة” الحكوميّة.

تبدو حتّى اللحظة نتائج تصفية الككلي إيجابية على المواطنين، إذ أنها خلصتهم من أحد المظاهر المسلحة في وسط العاصمة كما أنها كسرت حاجز الخوف لدى المواطنين المتضررين من انتهاكات وقعت عليهم من قبل غنيوة وأشقائه وحلفائه. فقد تقدم عشرات الأهالي بشكاوى وبلاغات على أفراد من عائلاتهم  من المفقودين والمعتقلين في ظروف غامضة.

لم تسفر الاشتباكات الأخيرة مقارنة بالحروب السابقة عن خسائر مادية تذكر. لكن المؤسف هو وجود خسائر في الأرواح لم يعلن عنها من قبل وزارة الصحة والهلال الأحمر الليبي. وهو ما أثار حفيظة الكثير من المتابعين والجهات الحقوقية. الأرقام الوحيدة المتوفرة صادرة عن المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان بليبيا الغير حكومية، والتي تمّ جمعها اعتمادا على جهات محلية، تتحدث عن 50 قتيلا وعشرات المفقودين وأكثر من 10 جثث متفحمة مجهول الهوية.

إن صعوبة حصر عدد المفقودين والقتلى يعود بالأساس إلى خوف عائلات المقاتلين في صفوف غنيوة من الذهاب إلى مراكز الشرطة أو المستشفيات للبحث عن أبنائهم المفقودين خوفا من الانتقام أو المساءلة. وقد اضطرّت عشرات العائلات والأفراد الموالين لقوات الككلي إلى مغادرة طرابلس تاركين وراءهم قتلى ومختفين في صفوف أبنائهم من دون القدرة على البحث أو السؤال عنهم.

العثور على جثث مجهولة داخل ثلاجات مستشفى الحوادث في أبو سليم

 أوضاع المهاجرين والفئات الضعيفة وسط دوامة التصعيد في طرابلس

وسط كل هذه الدوامة التي عصفت بطرابلس وبالأخص منطقة أبوسليم وما حولها،  عرف المحتجزون من المهاجرين وخصوصا النساء والأطفال ساعات عصيبة في مركز احتجاز أبو سليم حيث كان يقبع فيها أكثر من 400 سيدة مع أطفالهن أغلبهن من أفريقيا جنوب الصحراء. وقد قام أحد الضباط يوم 13 مايو بفتح أبواب المركز وإخراج النساء على دفعات خوفاً على سلامتهن بعد وصول الاشتباكات إلى مناطق قريبة من محيطه.

ورغم أنه لم يتم الإبلاغ عن حالات خطف أو اعتداء عليهن، إلا أن مصيرهن ظل مجهولا.

وقد تجاهل وزير الداخلية الحديث عليهن وعلى أوضاع المراكز بصفة عامة. أما  فيما يتعلق بمركز احتجاز جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية – شرق طرابلس، الذي يقع في منطقة تاجوراء ويحتجز أكثر من 2000 شخص جلهم رجال وقاصرون، فإن من حسن حظهم أن الاشتباكات ظلت بعيدة عن محيط المركز رغم انقطاع الرعاية الصحية عنهم وتوقف كامل لزيارات الأطباء التابعين للمنظمات الدولية مثل الدولية للهجرة IOM لأكثر من أسبوعين. على العموم، يمكن القول أن المهاجرين والعمال الأجانب لم يتضرروا مباشرة من المعارك المسلحة على الرغم من حدوث حملات تحريض ضدهم في بداية الأزمة واتهامهم بأنهم مقاتلون مرتزقة لدى أحد أطراف الصراع. وهو لا ينفي بالتأكيد عودة حملات الكراهية العنصرية أكثر شراسة في المستقبل.

تجهد حكومة طرابلس في تطويق الوضع الأمني وتحاول منع أيّ فلتان جديد يحدث خصوصا بعد تحصلها على دعم غربي من بعض دول الاتحاد الأوروبي وتزكية من مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الذي أثنى على الخطوات التي قامت بها في تقليص دور المجموعات المسلّحة ومنعها من المزيد من التغول. لكن بلا شك لا يمكن اعتبار أن طرابلس قد وصلت اليوم الى برّ الأمان سيما وأنه لطالما دفع المدنيون ثمن خسائر هذه النزاعات المسلحة. يبقى أن تقلص توغل أمراء الحرب المسيطرين على العاصمة بعد أن انخفض عددهم من أكثر من 10 إلى ثلاثة ربما شكّل بعضا من بصيص الأمل في بلوغ اليوم الذي تتحقق فيه العدالة في ليبيا وينصاع الجميع للقانون وتصبح للبلاد مؤسسات تسيّر شؤونها ودولة قانون تحمي مواطنيها.


[1] قتلمحمد بوعزةفي اشتباكات بمنطقة أبوسليم بطرابلس

[2]  كلمة رئيس الحكومة حول مقتل غنيوة الككلي

[3] زيارة رئيس حكومة الوحدة الوطنية لمنطقة أبوسليم

[4] كلمة  آمر اللواء 444 قتال

[5] https://www.icc-cpi.int/news/statement-icc-prosecutor-karim-aa-khan-kc-united-nations-security-council-situation-libya-0

انشر المقال

متوفر من خلال:

أجهزة أمنية ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، مقالات ، ليبيا



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني