حين ذهبت إلى جنّاتا، كنت أبحث عن معلومة، وعن شهادة حيّة عن الاستهداف الإسرائيليّ للمدنيّين في جنوب لبنان، من أجل تحقيق صحافي. لكن سعدى أرادت أن تحكي قصة، أن تصوغ رواية، أن تؤبّن ابنتها سالي سكيكي، كما يليق بها.
استشهدت سالي (25 عامًا) في غارة إسرائيليّة على مبنى في حيّ سكنيّ بين جنّاتا ودير قانون النهر، في وقت متأخّر من ليل 13 حزيران 2024. كانت تسهر مع صديقاتها أمام باب منزلها. استشهدت في الغارة نفسها دلال عزّ الدين، وسقط 20 جريحًا وجريحة كلّهم مدنيّون، بعد أن دمّرت الغارة مبنى من 3 طبقات وهشّمت سائر المباني المحيطة.
أخذت سعدى بيدي، وبدأت ترسم المشاهد، واحدًا تلو آخر، وتقود السّرد وتبحث حتى عن عنوان. وفيما يلي، هو ما قالته سعدى، وما رسمته سعدى. هو مقال عن ابنة، شهيدة، تتوالى فيه المشاهد من تلك زيارة إلى موقع استشهادها والمخرجة هي أمّها.
المشهد الأوّل: المقابلة
“سالي هي أمّ القلب الطيّب، والضحكة الحلوة”، كانت أوّل الكلمات التي قالتها سعدى. في منزل أهلها، استقبلتني، جلست هي إلى اليسار، وأجلست ابنها البكر علي، إلى اليمين. رتّبت القعدة، كي يلتقط جهاز التسجيل كلامها عن ابنتها، وكلام أخيها عنها. لا تستفيض سعدى كثيرًا بالكلام، لكنّها تحكي ما يشبه نظم أبيات شعر غزليّة بابنتها: “سالي حلوة، ابتسامتها لا تفارق وجهها، سواء بكت أو ضحكت. كانت مرحة، تمزح.. تضحك.. هي.. كلّ الأشياء الحلوة فيها”.
تبتسم سعدى، يستبشر وجهها، وهي تتحدث عن ابنتها، تقول إنّ “ربّها اختارها شهيدة”، ودليلها أنّها: في الأشهر الأخيرة، كلّما نظرت إليها، تراها أجمل، وأحلى. تنسى سعدى التسجيل، وتحدّث نفسها: “كنت شوفها عم تحلوّ وتصير أجمل وأجمل، صرت خاف عليها، وما عرفت شو مخبّالي، كان مخبّالي شهادتها”. وتستدرك: “هي ما راحت من حدّي، بس ما عم شوفها قدّامي، وهيدا أصعب شي”. وتقول سعدى أيضًا “بقيت لي الذكريات الحلوة”. وتقول “الحمدلله” وتضحك لتقمع دموعها، وليس من ضحكة أشد حزنًا من تلك الضحكة.
تعطي سعدى الكلام لابنها البكر. لكن كيف ينعى شقيق شقيقته؟ يقول ببساطة “كانت تحبّني”. يأخذ نفسًا عميقًا في حرب على الدموع يبدو أنّ العائلة تخوضها، ويرسم ابتسامة تشبه التي سرقوها عن وجه سالي في الصورة الموضوعة على الطاولة المحاذية. ثم يحكي علي الشقيق المغترب، أنّ سالي “كان عندها عيد لمّا إنزل على لبنان، وكانت تغنّجني، وتدلّعني”، يبدو كمن يهرب من الحديث عن حبّه لها، كي لا يفقد تماسكه، فيختار الحديث عن حبّها هي له، وفي كلّ كلمة يقولها، تفضح عيونه حزنه، وحبّه.
ثم تأخذ سعدى الكلام، ومن جديد تقتضب ولا تستفيض، تحكي عن سالي الأنيقة “ستايلها حلو”، والمسعفة المتطوّعة “قلبها ع الناس”، والشابّة المتعلّمة “من الشطّار بالمعهد” والطموحة مهنيًّا. ثمّ تفكّك الأم معنا معنى الموت شهيدة كما تصوغه بكلماتها، بين “الألم العميق”، و”الجرح”، و”الانكسار” و”الفخر” و”الفرح” لأنّ سالي رحلت “شهيدة بريئة ومظلومة”، ولأنّ إسرائيل “بعقود احتلال وعدوان وراء عدوان، علّمتنا بأن نفخر بمن تقتله منّا”. ولا تنسى الأم أن تنهي الربط، كي يكتمل السرد، بالجنوب “الحلو وما في متله”، و”اللي ترابه غالي وحريّته حقها دم”.
المشهد الثاني: إلى حيث ماتت
تستكمل سعدى واجبات الضيافة من قهوة مرّة وكوب ماء، وهي تحكي عن سالي “المهضومة جدًا” وتغوص في ذكرياتها معها، وهي ذكريات حميمة جدًّا. ووجه سعدى هنا ضاحك، وعيونها تلمع، تفلت منها دمعة بين فينة وأخرى. ثمّ، وقبل أن يسبقنا الوقت، تقرّر أن تأخذنا بسيّارتها إلى مكان الغارة، إلى “حيث ماتت سالي”.
ينحدر الطريق، قبل أن يفتح على مبنى مهشّم، وآخر مدمّر، على كتف الوادي بين جنّاتا ودير قانون. وفي مكان الغارة، تمشي سعدى ببطء، خطواتها ثقيلة، وفستانها الأسود بدأ يتغبّر قليلًا، لكنّها تستمرّ حاسمة وجهتها. تصل إلى موضع معيّن، تحت شجرة صمدت. تتحايل على “البكوة” بضحكة مجدّدًا: “هون استشهدت، كانت قاعدة عم تسهر، واستشهدت”.
تغمض عينيها، وتأخذ نفسًا، ثمّ تفتحهما، كأنّها تريد أن تقطع المشهد، لقساوته، وتنتقل إلى آخر. تجول بنظرها فيقع نظرها على الطابق الثالث، وتحكي عن جارتها دلال، الشهيدة التي قضت في ذات الغارة: “كانت توضّب ثيابها للسفر”، تُتَمتم بحسرة، ثم ترى كرسيّ جارتها التي كانت في “السهرة” عينها مع ابنتها، وأصيبت بجراح خطيرة: “بس نجت الحمدلله”.
تستمرّ سعدى بشرح المشهد لنا جيّدًا، من دون أن تنسى التفاصيل الكامنة في هذا الدمار الكبير، وبينها مزروعات تلفت، كانت قد زرعتها بيدها. ثمّ تنتقل بنا إلى داخل المنزل. ندخل من فتحة في الجدار خلّفتها الغارة، تأخذنا إلى صالون محطّم “كانت تحبّه سالي جدًّا”. نسير على الزجاج المكسّر، والحجارة، ونصل إلى غرفة “صالون تجميل” منزليّ، تطبّق فيه ما تتعلّمه في المعهد، وتجني منه مصروفًا إضافيًّا إلى جانب وظيفتها في صالون معروف في القرية.
وأغراض سالي موضّبة في صناديق، تفتحها سعدى، واحدًا تلو آخر، وتخرج منه أشياء شهيدتها، وبينها أغراض الصالون، ودفاتر، وكتب، وعطور، وبضعة ورود. تمسك سعدى بمقتنيات ابنتها، تريد للكاميرا أن توثّقها. ثمّ تستعرض بعض عناوين الكتب، وتضحك لاهتمامات ابنتها الأدبيّة، ذات الطابع المتمرّد، لكنّ بسمتها هنا تفيض حبًّا، وتخبرنا أنّها وضّبت كلّ هذا لتحتفظ به، وتكرّمه جيّدًا بعد أن تعيد إعمار ما تهدّم من منزلها.
وإلى غرفتها، حيث كانت تنام، يدخل علي، قبل أن تدخل سعدى، تحسبهما يدخلان ضريحًا أو مزارًا، يتأكّدان من أنّ غطاء السرير مرتّب جيّدًا، ويمرّرّان أيديهما على الوسادة برفق.
وعلى طريق الخروج، تقف سعدى في المكان عينه، تعود حيث استشهدت سالي. تستذكر ليلة الغارة، وكيف سمعت الصوت، ثمّ ركضت. وكأنّها في استعادتها للحدث، تستعيد صورة ابنتها حين وجدتها شهيدة. فتتوجّه إلى حيث وجدت الجثمان النازف، تخلع خاتمًا من يدها، هو ليس سوى خاتم الشهيدة، وتضعه أرضًا، ثمّ تطلب أن ألتقط صورة توثيقيّة: “حلوة بتكون الصورة ومعبّرة”، تقول لي.
تستمرّ سعدى، في كلّ فعل لها، بترتيب المشاهد، وتصميم السرد. والمحطّة الثالثة هي قبر سالي. تأخذنا لنزورها سويّة.
سعدى في موقع استشهاد ساليسعدى تحمل كتب ساليشقيق سالي يقلّب ألبوم الصور
المشهد الثالث: عند القبر
حين وصلنا المقبرة، كان قبر سالي مميّزًا بصورة مكبّرة لوجهها، تبدو حديثة موضوعة فوقه. وتظلّل القبر شجرة عتيقة. اقتربت سعدى من القبر وطرقت بأطراف أصابعها على بلاطه الرخاميّ، حيث نقش وخطّط اسم سالي، ثمّ قرأت لها سورة الفاتحة. قبل أن ترفع نظرها إلى صورتها.
التقت عينا سعدى بعَيني سالي في الصورة، وكانت على وشك أن تفقد رباطة جأشها. بضع شهقات فقط، وأنين هادئ يذوب فيه التنفّس مع البكاء، ثمّ انهمرت الدموع. ضغطت على نفسها بشدّة: “ما فيني إبكي، بتزعل سالي”، قالت سعدى من فوق قبر ابنتها، وكفكفت دموعها بسرعة.
وعلى القبر، تحكي سعدى مع ابنتها، تقول لها: “اشتقتلك يا ماما”، تنظر إلى الصورة مجدّدًا ومجدّدًا: “حلوة متل القمر”، تقول. لا تنسى وجود الكاميرا، ولا تنسى الموضوع الصحافيّ الذي قرّرت أن تعطيه من وقتها. فتمسك مكنسة لتنظّف حول القبر، ثمّ تمسح عنه بعض الغبار الذي يحمله هواء الصيف، ليكون مناسبًا للتصوير. تتمشّى قليلًا، تتّصل بنوال، والدة زميلة ابنتها في العمل، فتأتي، تنضمّ إلينا، وتحدّثاننا عن ألم الفقد.
تقول سعدى عن صديقتها وجارتها: “كانت أمًّا ثانية لسالي”، وتخبرنا أنّها في إحدى المرّات، لجأت إليها خوفًا من صوت الطيران الحربيّ الإسرائيليّ، حينما كانت سعدى خارج المنزل. وفي دعوة سعدى لنوال للحديث، كانت الأمّ تكمل ترتيب الشخصيّات التي تحب أن تشارك في تأبين ابنتها.
“مثل الحلم بنتي استشهدت، وحاسة كأنّي غفلانة، وبدّي فيق على صدمة.. بنتي وحيدتي”، تبكي هنا، لأوّل مرّة، وتسمح لبكائها أن يستمر، تعتذر من ابنتها: “مش بإيدي يا ماما بدّي إبكي”، وتستسلم للدموع تغسل وجهها الكئيب: “صعب، صعب، كتير صعب.. هنيئًا يا ماما، كنت قلّك تقبريني.. الحمدلله”.
تقوم عن القبر، مستجمعة قواها: “قلبي عم يغلي”، تقول وكأنّها تبرّر رغبتها بالمغادرة: “بالنهاية شهيدة”، واضعة نهاية للحديث. وقبل أن نغادر، تسأل: “شو لازم يكون عنوان المقال؟”
سعدى وصورة ساليالقبر وورودهسعدى وقبر ساليسعدى وجارتها على القبر
بين الصحافيّ والموضوع
في اللقاء، عكست سعدى أدوارنا. هي لم تجب على أسئلتي فحسب؛ بل تولّت السرد بالكامل، وقرّرت ما سيُروى وكيف ينبغي نقله.
وإن كان هذا اللقاء في سياق العمل على تحقيق “حرب الجنوب“، فإنّه كان من الواضح أنّ مسار المقابلة سيأخذنا إلى كتابة موضوع مستقلّ عن سالي، وأمّها. وكان عليّ، كصحافيّ، أن أتراجع وأن أسمح للسرد بأن يتكشّف بشروطه الخاصّة. لذا، عندما سألتني سعدى عن عنوان المقال، وجدت نفسي متردّدًا. ماذا يمكنني أن أقدّم ولم تقدّمه هي بالفعل؟ كان العنوان، مثل القصة نفسها، فعل تعاونيّ، وحتى لحظات فقط، كانت تقوده هي.
أسعفت نفسي بأنّ تذكّرت تأثّرها بمرثيّة مطلعها “مات الورد”، حينما سمعتها من هاتف ابنها، خلال الجزء الأوّل من المقابلة. أجبتها: “العنوان: مات الورد”، فابتسم وجهها: “إيه فعلًا.. مات الورد”.
قبل أيّام فقط، اتّصلت بي سعدى، وأخبرتني أنّها قرّرت تزيين القبر بالورود “داير من دار”. وبين الحزن، والفقد، والاعتزاز، ومعنى الموت والاستشهاد، وإشكاليّات الكتابة والتوثيق، الثابت الوحيد هو: فرديّة كلّ حكاية، واستثنائيّة كلّ جريمة.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.