“
غدا، جميع المحامين وكبار المسؤولين في السلطة السياسية والقضاء مدعوون للاحتفاء بمئوية إنشاء نقابتي المحامين. وفيما ينعقد الحفل في قصر عدل بيروت صبيحة الغد بحضور ورعاية رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، فإنه يحصل بعد تأخر ما يقارب شهرين عن موعده، حيث أن نقابتي المحامين في بيروت وطرابلس نشأتا في شباط 1919. وإذ تعمل “المفكرة” على إنتاج عدد خاص يتناول أبرز محطات المئوية الأولى لنقابتي المحامين ينتظر صدوره في الفصل الأخير من هذه السنة، فإن هذا الاحتفاء يستدعي الملاحظات الآتية:
تعطيل العدلية في جميع مناطق لبنان
أولا، أن النتيجة الأولية لهذا الاحتفاء هي تعطيل العدالة في لبنان. وهذا الأمر يحصل أولا في قصر العدل في بيروت حيث أصدر مجلس القضاء الأعلى تعميما على القضاة بوجوب الامتناع عن عقد جلسات فيه، وذلك قبل قرابة أسبوع من موعد المئوية. بمعنى أن مؤدى التعميم ليس عدم تعيين جلسات في هذا التاريخ، إنما إلغاء جميع الجلسات المقررة مسبقا فيه. واللافت أن تعطيل العدالة لا يتم فقط في قصر بيروت إنما في جميع المحاكم الواقعة على طول الأرض اللبنانية. وقد تأكد ذلك في البيان الصادر عن نقيب محامي بيروت اندره الشدياق، والذي أشار للمحامين في معرض دعوتهم لحضور الافتتاح، أن جلسات المحاكمة لن تنعقد في بيروت والأهم “أن المحامين الذين يتغيبون عن حضور الجلسات في المحافظات والأقضية” لن تتم محاكمتهم. وهذا الأمر الأخير يعني على الأرجح أن ثمة اتفاقا بين النقابة والمراجع القضائية (مجلس القضاء الأعلى) على إرغام القضاة بأن يعذروا من تلقاء أنفسهم المحامين الذين قد يتغيبون عن جلساتهم. ومؤدى كل ذلك هو تعطيل العدالة في جميع أرجاء لبنان، حيث أن هذا العذر المفترض سيدفع أي محام يرغب بإرجاء دعواه إلى التغيب. وما يجعل هذا الأمر أكثر قابلية للنقد أمور أربعة: (1) أنه كان بالإمكان أن يتم اختيار وقت آخر للاحتفال يمكّن جميع المحامين من الحضور من دون تعطيل الجلسات كأن يتم الاحتفال بعد الظهر أو في أحد أيام الجمعة أو السبت، وخاصة أن ذكرى المئوية قد مرّ عليها فعليا قرابة شهرين. (2) أنه كان بالإمكان التخفيف من حدة التعطيل لو تم الإعلان عن الاحتفال وعن تعطيل الجلسات أو امكانية تعطيلها قبل فترة كافية بحيث لا يحدد القضاة جلسات في هذا التاريخ، لكن هذا الأمر لم يحصل. (3) أن الاعلانات والتعاميم سواء الصادرة عن نقيب محامي بيروت أو مجلس القضاء الأعلى كلها تمت من دون أي مراعاة لاستقلال المحاكم في إدارة شؤونها ومن دون مراعاة الحالات الطارئة كقضايا الموقوفين. فكأنما الاحتفال الحاصل خارج أوانه يبرر تجاوز كل هذه الاعتبارات، من دون إيلاء أي انتباه لمبدأي الضرورة والتناسب. و(4) أن التعطيل الحاصل لا يقتصر على يوم عمل واحد، إنما سيؤدي إلى تأخير العدالة في مئات القضايا لأشهر إضافية، تبعا لإرجاء الجلسات لمواعيد غالبا ما تكون بعيدة ولضرورة تبليغ المواعيد الجديدة والذي لا يكون ميسرا دائما. ويحصل كل ذلك فيما الكل يصر على ضرورة تعجيل وتيرة العدالة بحجة أن “العدالة المتأخرة ليست عدالة”.
تعطيل للعدالة يرمز لانكفاء النقابة عن دورها في الدفاع عنها
من يراقب تعطيل العدالة غدا، يدرك أن لهذا التعطيل بعد رمزي هائل: فهو يعكس انكفاء نقابتي المحامين عن أداء دورهما الضروري في الدفاع عن العدالة وضمان حسن سيرها منذ عقود. وهذا الأمر يتأتى عن أمور عدة فصلنا العديد منها على صفحات المفكرة سابقا، أبرزها الآتية:
- انكفاء كلي للنقابتين عن خوض معركة استقلال القضاء. فلا نجد أي موقف لهما في العقود الأخيرة يتصل بتنظيم القضاء العدلي أو بضمانات الاستقلالية. ويتجلى هذا الانكفاء بشكل خاص ليس فقط من خلال امتناعهما عن أخذ أي مبادرة بل أيضا التزامهما الصمت إزاء أي مبادرة قضائية أو اجتماعية في هذا الخصوص. وعليه، تسجل “المفكرة” بكثير من الأسف امتناع النقابة عن إبداء أي رأي باقتراح القانون حول استقلال القضاء وشفافيته والذي أعده الائتلاف المدني لدعم استقلال القضاء وشفافيته وتبناه عدد هام من الكتل النيابية. ولعل أخطر المواقف في هذا الخصوص، هو الهجوم الذي شنه نقيب محامي بيروت اندره شدياق ضد نادي قضاة لبنان بعدما أنكر على القضاة إحدى أهم الضمانات استقلال القضاء وفق مواثيق الأمم المتحدة لاستقلال القضاء (1985) والتي تتمثل في إنشاء جمعيات تضامن فيما بينهم. وهذا الانكفاء غالبا ما يتأتى عن اتفاق ضمني بين النقابتين ومجلس القضاء الأعلى، مفاده تسليم كل منهما بحصرية الآخر في تولي مسؤولياته، بمعنى أن تمتنع النقابتان عن أي موقف يتصل بتنظيم القضاء أو استقلاليته (فيما عدا بعض البيانات الخطابية التي لا تتضمن أي مبادرة)، فيما يمتنع مجلس القضاء الأعلى عن أي موقف يتصل بتنظيم شؤون المحامين.
- اعتماد نقابة محامي بيروت مواقف منافية للغاية من وجودها والتي هي ضمان حق الدفاع تمهيدا لتحقيق العدالة الفضلى. ويتأتى هذا الأمر أولا من اعتماد النقابة امكانية شطب المحامين لأسباب مسلكية ومن دون محاكمة، بما يتعارض تماما مع حق الدفاع الذي أؤتمنت عليه. كما يتأتى ثانيا من اعتماد مفهوم مطاط لحصانة المحامين تخرجها هي الأخرى من الغاية التي منحت لأجلها وتحولها إلى ما يشبه الامتياز. ففيما منحت هذه الحصانة لغاية ضمان استقلال المحامين وتمكينهم من الدفاع عن قضاياهم بمأمن عن ملاحقات تعسفية، فإن النقابة غالبا ما فهمت هذه الحصانة على أنها توليها حق حجب الإذن بالملاحقة عن العديد من المحامين من أصحاب المكانة أو الحمايات السياسية. ولعل أشهر هذه الحالات التي تتابعها “المفكرة” بانتظام منذ أكثر من سنتين هي قضية سماسرة العدل، حيث رفضت النقابة إعطاء الأذن بملاحقة محامييْن رغم وجود أدلة قوية بالصوت والصورة على حصول سمسرة عدل، أي بيع أحكام مقابل “أتعاب” مالية مرتفعة. وقد بررت النقابة ذلك بأن أفعال هذين المحاميين تتصل بمهنة المحاماة. وهي بذلك، بدت وكأنها تمهد لإفلات العديد من المحامين من العقاب.
- اعتماد نقابة محامي بيروت ممارسات غير ديمقراطية مع أعضائها. ومن أبرز الشواهد على ذلك، القرار الصادر مؤخرا عن محكمة استئناف بيروت (27 آذار 2019) والذي أبطل مقررات الجمعية العمومية المنعقدة في 2015 على خلفية اعتماد التصويت برفع الأيادي من دون إحصائها. وكان عشرات المحامين تقدموا بدعوى مماثلة لإبطال مقررات الجمعية العمومية المنعقدة في تشرين الثاني 2018 على خلفية إعلان النقابة حصول مصادقة على حساباتها رغم أن الغالبية الساحقة امتنعت عن رفع أياديها خلال الجمعية العمومية. فضلا عن ذلك، فإن نقابة المحامين رفضت في ظل الجدل الواسع حول عقود إدارة ملف التأمين الكشف عن العقود الموقعة، بما يعكس مسعى منها للتفلت من مبدأ الشفافية، والأهم من قانون حق الوصول إلى المعلومات. وتبعا لكل ذلك، تبقى التأويلات مفتوحة بشكل واسع حول حسن إدارة ملف التأمين، وسط تنامي حراك واسع معترض في صفوف المحامين.
- انكفاء نقابة محامي بيروت عن ممارسة دورها التقليدي في حماية الحريات العامة ومكافحة الفساد. وبإمكان أي متابع أن يستكشف ذلك عند النظر في تقاعس النقابة الحاصل في آخر عشر سنوات عن التدخل في أي من الملفات الهامة والمطروحة في هذا الخصوص، والتي لا مجال لتعدادها في هذا المضمار.
خلاصة
في ظل هذه الظروف، يخشى أن يشكل الاحتفال غدا احتفالا خطابيا يستمد مرادفاته من معارك نقابة المحامين في عقودها الأولى، العقود التي كانت تشغل فيها مواقع متقدمة في الدفاع عن الحريات والديمقراطية، فيما تبقى هذه المرادفات متعارضة تماما مع ممارسات النقابة الحالية، والمستمرة منذ عقود. بهذا المعنى، يخشى (وهذا ما أشرنا إليه في عنوان هذا المقال) أن يكون احتفال الغد مجرد وقوف على الأطلال.
“
متوفر من خلال: