مؤشرات بيئة القانون في اليمن خلال العام الأول من المرحلة الانتقالية: قوانين تسلّح السلطة، والقضاء منبرا للدفاع عن المجتمع


2013-06-05    |   

مؤشرات بيئة القانون في اليمن خلال العام الأول من المرحلة الانتقالية: قوانين تسلّح السلطة، والقضاء منبرا للدفاع عن المجتمع

يبدو التعرف على بيئة القانون في اليمن خلال المرحلة الانتقالية وبعد نجاح الانتفاضة الشعبية السلمية عام 2011 في ازاحة نظام صالح نسبياً أحد المؤشرات الأساسية للتعرف على ما أحدثته هذه الثورة من تغيرات، أو ما تُمهد له من تغيرات، خصوصاً وأن تعطيل القانون، والتحكم بالقضاء وتوجيهة وفق مصالح الاطراف الاكثر نفوذاً في المجتمع أو في الدولة، كانت أحد أهم أسباب الغضب الشعبي لفترة طويلة. ولذلك ستسعى هذه المداخلة/ الورقة إلى إنجاز تتبع سريع لملامح التغيرات في بيئة انفاذ القانون وتحديدا عبر قراءة أدوار القضاء، والمؤشرات التي تفصح عنها مقترحات القوانين التي قدمتها حكومة الوفاق الوطني في اليمن، والتوقعات المستقبلية في هذا الإطار.
قانون الحصانة مؤشر على سوء الطالع
لقد شكل توقيع المبادرة الخليجية والالية التنفيذية لها في الرياض يوم 23 – 11 – 2011 من قبل الأطراف السياسية الأساسية في اليمن تدشينا لمرحلة جديدة في هذا البلد بعد عام عاصف شهد احتجاجات شعبية واسعة ضد نظام صالح، وتحولت هذه المبادرة السياسية التي تمت رعاياتها اقليميا ودولياً إلى أشبه ما يكون باعلان دستوري مؤقت علق تبعاً لها الدستور الحالي بشكل ضمني، وبناء عليها شكلت حكومة وفاق وطني وانتخب نائب صالح السابق عبدربه منصور هادي رئيساً انتقالياً بانتخابات تقدم فيها كمرشح وحيد.
ترافق التوافق على المبادرة الخليجية بشكل اساسي مع توافق على قانونين أساسين يصدران في موازاتها، الأول هو ما أطلق عليه تسمية قانون الحصانة الذي كان شرطاً اساسياً للرئيس السابق صالح للموافقة على التنحي على الحكم، وكان القانون الثاني هو قانون العدالة الانتقالية الذي ما زال معطلا حتى الآن بسبب عدم الاتفاق على مضامينه من قبل ذات الاطراف، وبشكل واضح يُمكن النظر بشك عميق للمقدمات التي نجمت على المبادرة الخليجية على صعيد علاقتها ببيئة انفاذ القانون في اليمن، حيث شكل قانون الحصانة الذي منح لصالح وأعوانه على فترة حكمه التي امتدت أكثر من ثلاثين عاماً اعتداء واضحاً على فكرة المُساءلة وتأسيساً قانونياً لثقافة الافلات من العقاب في بداية ما يُفترض أنه عهد يمني جديد! وهكذا بدت مقدمات المرحلة الانتقالية بالنسبة للرغبة بتكريس حكم القانون وإنفاذه بشكل فعلي ومتساو على جميع المواطنين في اليمن مشوبةً بسوء الطالع.
مقترحات تشريعية مُقلقة من الحكومة
تقدمت حكومة الوفاق الوطني خلال العام الأول من المرحلة الانتقالية، التي يُفترض أن تمتد لعامين، بمقترحات لعدد من مشاريع القوانين تقوم باعدادها عادةً وزارة الشؤون القانونية بالتعاون مع الوزارة المعنية أساساً بالمقترح التشريعي، وما تزال معظم هذه القوانين مجرد مقترحات تشريعية لم يصادق عليها مجلس النواب وان أقرتها الحكومة كمقترح باسمها، ويمكن تسمية بعض القوانين التي تفصح عن الاتجاهات التشريعية للحكم الجديد ومن ذلك مقترح قانون حماية أفراد القوات المسلحة والأمن[1]والذي يبدو في مضمونه العام تعزيزا لأفراد الأمن في مواجهة المواطنين ويوفر غطاء تشريعيا لأخطاء و"انتهاكات" الأجهزة الامنية، كما أن هذا الحرص التشريعي على أفراد الأمن لا يبدو مفهوماً في سياق تقييم عام يرى المشكلة في الممارسات والانتهاكات الواسعة لحقوق الانسان على المستوى الوطني والمسؤولة عنها أجهزة الأمن! وهي عادة الطرف الذي لا يستجيب لأوامر القضاء[2]ولا يحمي أو يضمن الحقوق الأساسية للمواطنين المكفولة دستورياً.
يأتي أيضاً مشروع قانون تنظيم الاعلام السمعي والبصري الخاص[3]الذي تقدمت به وزارة الاعلام ووزارة الشؤون القانونية في ذات الاتجاه الجديد الذي يُفصح بخجل عن محاولة لتنظيم هذا المجال الاعلامي الذي شهد انتعاشاً كبيرا بعد الثورة الشعبية في اليمن وبسبب ارتخاء قبضة الدولة على المجال العام، حيث بدأ عدد كبير من القنوات الفضائية والمواقع الالكترونية العمل، وهي تمثل أطرافاً ومكونات سياسية مختلفة، الأمر الذي يشكل ازعاجا كما يبدو للسلطات التي تريد معاودة السيطرة واحكام قبضتها، وان بخجل، مما تراه تهديداً جديداً. ولهذا يأتي هذا المقترح التشريعي الجديد في إطار هذا السعي الذي يبدو معنياً بالسيطرة على هذا التسارع الحاصل في تأسيس قنوات واذاعات خاصة، ورغم أن القانون يبدو مرناً قياساً إلى مقترح قانوني سابق تقدمت به آخر حكومة قبل الثورة لتنظيم وسائل الاعلام السمعية والبصرية والالكترونية[4]قوبل باحتجاج واسع، إلا أنه يُفصح عن توجه للسيطرة الناعمة، حيث لا تريد السلطة الجديدة أن تبدو قمعية بشكل فج بعد ثورة شعبية كان أحد شعاراتها الأساسية الانتصار للحريات وحق التعبير عن الرأي، ويُمكن الحكومة من اتخاذ اجراءات عقابية تصل إلى وقف الجهة الاعلامية وتعطيل عملها عبر مواد رقابية فضفاضة في مقترح هذا القانون. ويتجنب هذا القانون ايضاً أن يطال في إطار صلاحيته أيا من الأجهزة الاعلامية الرسمية، التي لا ينظمها أي قانون، والتي ماتزال جهازاً تعبوياً تقليدياً وغير مستقل في يد السلطات المسيطرة اياً كان هويتها السياسية.
ومازال هناك أيضاً في الواجهة القانون الأكثر جدلاً في الحياة العامة الذي تقدم طرفان سياسيان بمقترحات تشريعية بخصوصه، وهو قانون العدالة الانتقالية[5]المتطلب الثاني الذي يفترض صدورة إلى جوار قانون الحصانة وفق المبادرة الخليجية، وتقدم كل من احزاب اللقاء المشترك ورئيس الجمهورية بمقترحات متباينة حول مضمون القانون، وحتى وان بدا مشروع القانون المقدم من المشترك أكثر تطوراً وايجابية من المقترح المتقشف والحذر للغاية المقدم من الرئيس، إلا أن السمة الأبرز التي يتقاطع فيها مشروع القانونين هو مقاومة أي تضمين للمساءلة القضائية بالنسبة للمتهمين، وحصر كشف الحقيقة في اطار معرفة ما حدث للضحايا بحيث لا يتعدى ذلك إلى تحديد المسؤول عنه! علاوة على كون مقترح الهيئة الوطنية المقترحة للمصالحة في مقترحي القانون لا تمتلك أي صفة ضبطية تخولها اجبار أي شخص متهم أو شاهد في قضايا انتهاكات حقوق الانسان للحضور أمامها، وتبدو عديمة القدرة والحال في مواجهة أي امتناع أو رفض، كما تبدو مقترحات القانون متحفظة بشدة بخصوص الإطار الزمني، بحيث يحاول كل طرف سياسي، سواء كان المشترك أو الرئيس، تقييد نطاق الوقت (نقطة الأساس الزمني) الذي يطاله القانون كل بحسب ما يلائمه، وهو ما يبدو محاولة لحماية تاريخ الانتهاكات الخاصة بكل طرف.
أحكام ودعاوى قضائية لافتة
بالتأكيد، يمكن القول أن الحكم الصادر في تاريخ 14– 11-  2012 عن المحكمة الإدارية الابتدائية في صنعاء يشكل أول حالة تدخل قانوني في مسار نزاع بين مؤسسات الدولة وعدد من ضحايا الحركة الاحتجاجية التي شهدتها الجمهورية اليمنية في العام 2011، ويُمكن القول أيضاً أن الحكم الذي استجاب في نصه لـ 11 شخصا من جرحى "الثورة الشعبية" ضد الحكومة ممثلة برئاسة الوزراء، يُشكل حالة فريدة في القضاء اليمني الذي لم يسبق له التورط في اصدار أحكام ضد هيئة رسمية رفيعة المستوى، وهو أحد التداعيات المهمة التي أحدثها امتداد الربيع العربي إلى اليمن في وظيفة القانون التي كانت مؤسسات إنفاذه تحت السيطرة الكلية لجهاز الدولة التنفيذي.
شكل الحكم، الذي أصدرته القاضية في المحكمة الادارية بصنعاء رغدة عبدالرحمن، وهي من القاضيات القلائل في جهاز القضاء اليمني الذي يتسم بكونه جهازا محافظا وذكوريا، حكماً نوعياً في المسار القضائي اليمني الجديد بعد الثورة، وهي في مضمون قرارها التي قررت به ابتداء اختصاص المحكمة للنظر في القضية تؤكد على الاستحقاق الأصيل للحماية التي يوفرها القانون للفئات الضعيفة في مواجهة الدولة، بما يوجده هذا من فرق في وظيفة القانون التي كان ينظر اليه في اليمن باعتباره مُعطى تشريعي مفرغا من المعنى ويوظف، لأسباب سياسية أو بسبب اكراهات القوة والنفوذ، لصالح مراكز القوى.
إن مجمل الوقائع التي توجت بانتصار المحكمة الادارية للضحايا في حركة الاحتجاجات السلمية في اليمن واصدار حكم لصالحهم في مواجهة الحكومة تُشكل سياقاً فريداً ينحاز فيه القضاء إلى المستضعفين، ضمن تحول مهم تبدو فيه المؤسسة القضائية لأول مرة حساسة لوظيفة القانون الحقيقية، وما يفترض أن تنهض به نصوصه، والجهات القائمة على تفسيره والنطق باسمه وإنفاذه، من مسؤوليات في مواجهة سلطات تعودت الانصراف عنه والانحراف بوظيفتها خارج موجباته ونواهيه وروحه.
اتصالاً مع حكم الجرحى الذي يبدو أنه اعاد قدراً من الثقة المفقودة تجاه القضاء، رفعت دعوى قضائية أخرى تبدو في مضمونها، واحده من اهم القضايا التي ينظر بها القضاء اليمني وهي التي تتصل برفض سياسة المحاصصة في الوظيفة العامة والجهاز الاداري للدولة المعمول بها من قبل الأطراف السياسية المتشاركة في الحكم بناء المبادرة الخليجية، وتشكل الدعوى المرفوعة من قبل الدكتور عبد الكريم سلام بشكل مستعجل أمام المحكمة الادارية[6]، باعتبارها جهة الاختصاص، ما يمكن وصفه بأول أداء قانوني كاشف عن عملية اخضاع الوظيفة العامة لاعتبارات الولاء السياسي للأحزاب المشاركة في الحكم حاليا في اليمن ومعترض عليها، وهو الأداء الذي تعكسه مجمل التعيينات في مختلف الأجهزة الحكومية ويثير غضب أطراف عدة. والواقع أن سياسة المحاصصة السائدة في الأداء الحكومي تتعدى المواقع القيادية العليا لتطال مختلف الوظائف التي يجدر أن تخضع لمعايير الكفاءة والأهلية. إن هذه القضية التي ما زالت منظورة أمام المحكمة تشكل تصعيدا اضافياً في لهجة القانون في مواجهة تعسف السلطات وسوء الادارة، واياً يكن مآلها فان هذا النوع من القضايا الذي بدأ يُرفع تباعاً من قبل مواطنين وجماعات مختلفة يعمل على تعزيز التقدير العام للقانون وأهم مؤسسات حراسته وهي القضاء، وهو مايشكل نقلة نوعية مهمة وتحتاج للتراكم.
لقد خضع القضاء اليمني قبل حركة الاحتجاجات الواسعة في 2011 لسيطرة طويلة من قبل السياسين والسلطات التنفيذية، وشكلت المحاكمات الصورية، التي تفتقر للحد الأدنى من معايير المحاكمة العادلة، التي تعرض لها سياسيون ونشطاء وصحفيون طوال عهد صالح تقويضاً لرمزية القضاء واعتباره، ونُظر له باستمرار باعتباره ذراعا قانونية للسلطات، ناهيك عن مشكلات أعمق تتصل بالبنية التقليدية للجهاز القضائي اليمني الذي اعتمد لفترات طويلة على قضاة قادمين من تأهيل فقهي تقليدي قبل أن يتم تأسيس المعهد العالي للقضاء بعد العام 2000، وهو ما وسم القضاء اليمني بهذا الشكل والمضمون المحافظ، علاوة على العلاقة الملتبسة مع مفاهيم الحقوق الحديثة وتلك الالتزامات الواردة في الاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان المصادق عليها من اليمن والمفترض نفاذها في اطار التشريعات المحلية والتزام القضاء الوطني بها.
إن بيئة القانون في اليمن تمر في فترة تحول أساسي، ويُشكل مؤتمر الحوار الوطني المنعقد حالياً في اليمن، والمفترض استمراره حتى نهاية العام الحالي 2013، ورشة عمل وطنية تشارك فيها أطراف سياسية مختلفة يُفترض بها أن تفضي إلى اعادة صياغة التعاقد الوطني والخروج بدستور جديد للبلاد، وعلى الرغم من كون اداء المؤتمر يبدو مُسيطراً عليها من قبل بعض الأطراف السياسية الموقعة على المبادرة الخليجية والرئيس الانتقالي، بما يضعف قدرة المجتمع المدني والنساء والشباب والقوى السياسية الجديدة من المشاركة بشكل فعلي يخلق أثراً محسوساً في الاتفاقات النهائية والصياغة اللاحقة للدستور، إلا أن الأنظار ما زالت مُتجهة إليه، وهناك بعض الرهان عليه من بعض القوى، كما أن السياسات التشريعية الحالية لحكومة الوفاق الوطني ضعيفة ومحكومة بدورها الانتقالي، وفي البعض القليل مما تقدمت به من مقترحات قوانين لا تبدو مُبشرة أيضاً كما أوضحنا اعلاه، ولا يبدو القضاء اليمني في أفضل أحواله حتى وان شكل التحول السياسي الذي تمر به اليمن فرصة لإرخاء القبضة الرسمية عليه، ومنحه كما يبدو مساحة استقلالية وحرية يفتقدها خصوصاً في علاقته بالشؤون العامة وتلك المتصلة مباشرة بالدولة ورجالها.
إن هذه الورقة حاولت أن تقدم احاطة سريعة على وضع القانون في اليمن خلال العام الأول من المرحلة الانتقالية، بشكل يفصح عن التغيير النسبي الحاصل في مؤشراته، وهي تلك المتصلة بالتشريع والقضاء، والمآل الذي ستذهب إليه فكرة التغيير، في علاقتها بالقانون ومؤسساته، وهي التي كانت المحرك الأساسي للثورة في هذه الدولة التي كانت احدى الدول الأساسية التي عصف بها الربيع العربي في عام 2011 وما زالت حتى الان تتعامل مع تداعياته الكثيرة والضاغطة.


[1]يمكن النظر في قراءة موسعة لمشروع القانون في موقع المفكرة القانونية، ماجد المذحجي، مشروع قانون حماية أفراد القوات المسلحة والأمن في اليمن: تشريع يمنح أفراد الأمن والجيش حق ارتكاب الجرائم في إطار وظائفهم، 18 شباط 2013، https://legal-agenda.com/article.php?id=288&lang=ar
 
[2]يعتقل الجهاز المركزي للامن السياسي على سبيل المثال عشرات المواطنين المشتبه بهم بقضايا الارهاب لفترات طويلة جداً، ولايتم تحويلهم إلى القضاء، علاوة على كونه لايستجيب في الكثير من الحالات لاوامر من النيابة او من المحاكم بالافراج عن بعضهم.
[3]يُمكن النظر لقراءة موسعة في مشروع القانون في موقع المفكرة القانونية، ماجد المذحجي، مشروع قانون تنظيم الاعلام السمعي والبصري الخاص في اليمن: نصوص فضفاضة في خدمة السلطات الرسمية، 1 نيسان 2013، https://legal-agenda.com/article.php?id=312&lang=ar
[4]مقترح تشريعي تقدم به حكومة مجور في العام 2010 وتم وقفه بعد احتجاجات واسعة.
[5]يُمكن النظر لقراءة موسعة لمقترحات القانون من قبل الاطراف السياسية في موقع المفكرة القانونية، ماجد المذحجي، قوانين العدالة الانتقالية في اليمن: تحايل على الحقيقة وكتم لأصوت الضحايا، 30 كانون الثاني 2013، https://legal-agenda.com/article.php?id=261&folder=articles&lang=ar
 
[6]يُمكن النظر لقراءة موسعة في هذه القضية في موقع المفكرة القانونية، ماجد المذحجي، دعوى قضائية تفسد مسار المحاصصة السياسية للوظائف العامة في اليمن، 2 نيسان 2013، https://legal-agenda.com/article.php?id=316&lang=ar

you

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، بلدان عربية أخرى



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني