كلّ حاكم يعمل في إطار الضوابط الموجودة، والقانون ليس أهمّها. أهمّيّة الضوابط القانونية يحدّدها الشارع عن طريق تحديد الثمن السياسي لخرقها. فإن كنّا متفرّجين ومتأثّرين بقرارات الحكّام، لا نتوقّع احترام الحكّام للقواعد، يصبح ثمن عدم احترامها بخساً. أمّا إن كان المبدأ احترامَ القواعد المعلَنة كميثاق بين المواطن والحاكم يصبح خرقها كارثة إن حدث، ويجب حينها تعديل قواعد اللعبة لعدم تكرارها.
تأرجحتْ قلوب وأذهان التونسيين والتونسيات ومتابعي الشأن التونسي يوم 25 جويلية ما بين فرح وخوف. وكَثُر البحث عن الأنصار في الشقَّيْن. والحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أنّ انكسار الفئة الحزينة أمام أغلبيّة مبتهجة دليل على أنّ العقد المنقضي لم يشهدْ تحصين المعنى الحقيقي للديمقراطيّة، لا في الممارسة ولا حتّى في تشكيل رأي شعبي حوله. لا أسعى في هذه المقالة إلى تكدير بهجة الأغلبيّة ولا التربيت على كتف الأقلّيّة، بل إلى محاولة رسم خيط ناظم للأحداث من خلال عدسة مؤسّساتية.
إن ارتأينا أنّ السياسة لعبة يمارسها الفاعلون السياسيون حسب قواعد مكتوبة فالمؤسّسات هي حلبة الملاكمة، أو رقعة شطرنج لأقلّنا عنفاً. ولأنّ صافرة البداية قد دوّت منذ انتظام الإنسان في مجموعات فمجتمعات فدُوَل، ينصّ الواقع على أنّ اللعبة لا بدّ أن تستمرّ وإن تغيّرت قواعدها وملعبها واللاعبون.
تمخّضت السنوات الثلاث التي أعقبت اندلاع الثورة التونسية عن قوانين عدّة للّعبة، منها ما حمله الفاعلون السياسيون من النظام السابق ومنها، وهو أوضحها، الدستور المتَّفَق عليه في جانفي 2014. تعلّقت الآمال في طرح طاولة جديدة للعمليّة السياسية التونسية، أدنى ما تعد به وضوحٌ في طريقة اتّخاذ القرار والتأثير عليه بما يحفظ الكرامة الإنسانية والوطنية. نصّص النوّاب المؤسِّسون على آجال دستورية تضبط إرساء بعض المؤسّسات المذكورة في الدستور، كأجل موفى سنة المصادقة على الدستور لإرساء مؤسّسة مجلس نوّاب الشعب ورئاسة الجمهوريّة عن طريق الانتخابات، أو آجال تُبنى على تاريخ الانتخابات الأولى، كالضابط الزمني المتعلّق بإرساء المجلس الأعلى للقضاء والمحكمة الدستورية. أمّا الحكومة، فرُبط أجل إرسائها بالمجلس التشريعي ورئاسة الجمهوريّة في إجراءات الفصل 80 وغيره. بدا التمسُّك بإرساء مؤسّسات السلطات الثلاث واضحاً بوضوح الآجال المذكورة، إلّا أنّ النصّ لم يلزمْ الفاعلين السياسيين بآجال محدّدة لإرساء باقي المؤسّسات الدستورية وهي عديدة، كمؤسّسات السلطة المحلّية (بلديّات وجهات وأقاليم مُنتخَبة ومجلس أعلى للجماعات المحلّية) والهيئات الدستورية الخمس. ضمنياً، يدفع النظام السياسي المُقترَح السلطات الثلاث إلى إرساء المؤسّسات الباقية بدون آجال لأنّها لصيقة بمبادئ دستورية تلتزم السلطات الثلاث احترامها. فتنصيص الدستور على التزام الدولة دعمَ اللامركزيّة مثلاً يقتضي إرساء مؤسّسات السلطة المحلّية، في حين يقتضي احترام حقوق الإنسان إرساء الهياكل الحامية لها كهيئة حقوق الإنسان.
لا يستقيم الدستور بدون المؤسّسات التي تُطبِّق مبادئه وتحافظ على النظام السياسي الذي يحدّده. هوى دستور 2014 من قمم التمنّي والرجاء عندما اكتفى الفاعلون السياسيون باحترام آجال تنظيم الانتخابات التشريعية والرئاسية، والرضوخ لتوازنات نتائجها لا قواعد اللعبة، فأصبح النظام السياسي أعرجَ.
تأخُّر إرساء المجلس الأعلى للقضاء: الخطيئة الأصلية
بدأ الخلل عندما تأخّر مجلس نوّاب الشعب في إرساء المجلس الأعلى للقضاء. وقد بدا كأنّه يجرّ أذيال عدم احترام آجال صياغة الدستور السابقة، ليغطّي بها كلّ تأخير من بعده. تحوّل أجَل الأشهر الستّة إلى خمسة أضعاف ذلك. وقد علّلت القوى المتقاعسة عن احترام الأجل بأنّ المصادقة على قانون المجلس الأعلى للقضاء تعطّلت فتعطّل تنظيم انتخاباته. أمّا الحقيقة الكاملة فقوامها أنّ مشروع قانون المجلس الأعلى للقضاء شهد صراعاً قطاعياً ضارياً تمثّل في إصرار المحامين، وهم المسيطرون على لجنة التشريع العامّ آنذاك، على تغيير مشروع القانون الذي بادرت إليه الحكومة بما يغيّر من جوهره، إلى جانب خروقات في إجراءات مناقشة مشروع القانون، منها استشارة الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي. فتحت هذه العوامل المجال للطعن بدستوريّة مشروع القانون المصادَق عليه لدى الهيئة الوقتية لمراقبة دستوريّة مشاريع القوانين. وشهد مشروع القانون كرّاً وفرّاً سياسياً تمثّل في عدم الاستجابة لقرار الهيئة والإصرار على تمشّي لجنة التشريع العامّ في تغيير روح المبادرة التشريعية، ممّا أدّى إلى إقرار الهيئة بعدم دستوريّة مشروع القانون لمرّة ثانية رغم التصويت عليه في الجلسة العامّة. مرّ مشروع القانون أخيراً في أفريل من سنة 2016، رغم عدم توصّل الهيئة الوقتية لمراقبة دستوريّة مشاريع القوانين إلى قرار واضح حول دستوريّته لعدم حصولها على أغلبيّة مطلقة. ولم يمثّل تعثُّر إرساء المجلس تأخّراً مؤسّساتياً فحسب، بل تعثّراً في إيلاء القضاء وإصلاحه الأهمّيّة اللازمة كما تصوّرتها قواعد اللعبة الدستورية، كفصل التأديب والتسمية والترقية عن قبضة السلطة التنفيذية قدر الإمكان، وتحميل القضاة وباقي فاعلي المرفق القضائي (كالمحامين وعدول التنفيذ) مسؤوليّة التطهّر من شوائبها. أثّر التأخّر أيضاً على توسيع مجال إصلاح القضاء إلى كلّ ما يشمله من قضاء إداري ومالي، وليس العدلي فحسب، أي ما يمسّ الحياة العامّة وعلاقة الفرد بالدولة.
تأخيرٌ يخفي تأخيراً آخر
شكّل تأخُّرُ إرساء المجلس الأعلى للقضاء طبقاً ذهبياً قُدِّم عليه تأخُّر إرساء المحكمة الدستورية كنتيجة حتمية له، ومهّد لفتوى “آجال الدستور الاستنهاضية”[1]. رغم ارتباط مصير المحكمة الدستورية بالمجلس الأعلى للقضاء، لمسؤوليّة الأخير عن تسمية أربعة قضاة دستوريين، بدا مجلس نوّاب الشعب متمسّكاً بإرساء المحكمة بعد انتهائه من المصادقة على القانون المنظِّم لها وقبل ذلك المنظِّم للمجلس الأعلى للقضاء. وقد بدا التزام المجلس بقانون المحكمة الدستورية واضحاً، حيث سارعتْ لجنة التشريع العامّ (وهي اللجنة ذاتها التي ناقشت مشروع قانون المجلس الأعلى للقضاء) إلى إيجاد حلول لتعدّد المبادرات التشريعية آنذاك، وآثرت النظر في مقترح النوّاب ومشروع الحكومة بالتوازي، ممّا عزّز فرص مرور القانون بدون طعون وتأخير يُذكَر. وهنا المفارقة المحزنة المغضبة، وهي الكوابح التي سارعت الأغلبيّة السياسية إلى استعمالها عندما اشتدّ الصراع السياسي وانقسمت الكتل وتفارق رأسا السلطة التنفيذية. وعوض انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية في مجلس نوّاب الشعب توقّف المجلس تماماً عن مسار إرساء المحكمة الدستورية. ولا أعتقد أنّه نتيجة نقص إدراك أهمّيّتها، بل على العكس تماماً هو تعطيل ممنهج بفعل إدراك عظيم بها. شهد التصويت على أعضاء المحكمة الدستورية عبثاً قلّص فرص إيلائها الأهمّيّة اللازمة من قِبل الرأي العامّ والنوّاب أيضاً. فلم يتمتّع المرشّحون بفرصة حقيقية لعرض توجّهاتهم أو آرائهم السياسية والدستورية، وتمّ الاكتفاء بالتعامل معهم كأسماء وسير ذاتية مجرّدة من الروح التي يُفترض أن تنفخها المحكمة الدستورية في الدستور وتأويله. وجاءت نتائج التصويت شاهداً على عبثيّة الترشيح وخيارات النوّاب في التصويت. فقد شهدتْ دورة التصويت الأولى في مارس 2018، وهي تشمل ثلاث فرص للتصويت، تذبذُباً هجيناً في خيارات النوّاب، ممّا منح روضة الورسيغني حينها 52 صوتاً إضافياً ما بين التصويت الأوّل والثاني بدون أيّ تفسير يُذكَر. وسُلب زهير بن تنفوس 40 صوتاً ما بين تصويت وآخر. استمرّ هذا في دورة التصويت التي أعقبتْ فشل الأولى في انتخاب أربعة أعضاء. يستند البعض إلى تعدُّد دورات انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية كدليل على محاولة مجلس نوّاب الشعب إرساء المحكمة الدستورية، ويتحجّجون بأنّ نصاب انتخاب أعضاء المحكمة، وهو ثلثا أعضاء المجلس، صعب ويستحيل الوصول إليه. وقد انكبّ هؤلاء على دعم المبادرات التشريعية التي سعت إلى تقليص الأغلبيّة اللازمة لانتخاب أعضاء المحكمة الدستورية، وقد نوقِشَت بالفعل في المجلس النيابي السابق، والمصادقة عليها في المجلس النيابي الحالي (المجمَّد). إلّا أنّ تقليص الأغلبيّة اللازمة من قِبل كتل قادرة على التحالف والتوافق من أجل منح حكومات متعاقبة الثقة، ومن أجل انتخاب أعضاء الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات (وهم ينتخبون بأغلبيّة الثلثين أيضاً)، يعكس كسلاً سياسياً في أحسن الحالات، وخبثاً وتلاعباً بقوانين اللعبة في أسوئها[2]. فلئن كان تشديد الأغلبيّة المطلوبة يفرض التقاء عدد أكبر من الكتل ويزيد، نظرياً، فرص تعطيلها، إنّ المشهد البرلماني في الخماسية الفارطة لم يكن بالتشرذم الذي أنتجتْه انتخابات 2019، والتعطيل لم يكن مصدره المعارضة قليلة العدد. بل أتى تحديداً من الكتل الأكبر، ولا تنقصها الأسباب السياسية. فتوافق نداء تونس والنهضة كان اتّفاقاً ضمنياً على توازن الفاعلين السياسيين، بدون أن يستقوي أحدهما على الآخر. بانقسام كتلة نداء تونس داخل مجلس نوّاب الشعب تغيّرت ملامح التوافق المذكور، ولم يكن من الهيّن فسح مجال الضغط على الرئيس السابق الباجي قائد السبسي بإرساء المحكمة الدستورية. وقد أثبتتْ محاولة التوافق السطحية في انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية، والمبنية على ترجيح المصالح الحزبية على المصلحة العامّة، أنّ سياسيي ما بعد 2014 لا يلقون بالاً للدستور كضابط لقواعد اللعبة، بل يعادون بعض خياراته. فغياب المحكمة الدستورية في النظام السياسي المقدَّم في دستور 2014 يعني غياب رقابة دستورية على طريقة عمل مجلس نوّاب الشعب، كغياب أيّ رقابة دستورية على نظامه الداخلي على سبيل الذكر لا الحصر. وفي غياب المحكمة غياب رقابة دستورية ذات شرعيّة شبه شعبية على ما يشرّعه مجلس نوّاب الشعب (الهيئة الوقتية لمراقبة دستوريّة مشاريع القوانين غير منتخَبة ولا تنبثق شرعيّتها عن مجلس ورئيس منتخبَيْن)، وغياب رقابة دستورية على ما لم يغيّره مجلس نوّاب الشعب، أي القوانين الموجودة. إنّه مجلس يفعل ما يريد. وغياب المحكمة الدستورية يعني أيضاً إمكانيّة دخول وجهَيْ السلطة التنفيذية في صراعات وتنازع اختصاص هي الوحيدة المخوَّلة النظر فيها، وهو ما حصل مثلاً عندما كوّنت رئاسة الجمهوريّة حكومة ظلّ صلب مجلس الأمن القومي سنة 2017. وهو أيضاً وصفة لتغوّل رئيس الجمهورية إن خرق الدستور، فلا سبيل لعزله بدون وجود المحكمة.
لم يكن قيس سعيِّد أقلّ حذراً مِمَّن سبقه ولم يرحّب بإرساء المحكمة الدستورية أو يشجع على ذلك، بل تتالتْ خروقاته الدستورية المستنِدة إلى ادّعائه احتكار تأويل الدستور في غياب المحكمة الدستورية، كرفض أداء القسم من قِبل أربعة من الوزراء الذين منحهم مجلس نوّاب الشعب الثقة في تحوير حكومي لحكومة المشيشي. سارعت الأغلبيّة البرلمانية بعدها إلى تعديل قانون المحكمة الدستورية بما يخفّض الأغلبيّة اللازمة لانتخاب بقيّة أعضاء المحكمة، وبدا ظاهر الأمر أنّها في تسارع محموم لإرسائها وفي استماتة لتوفير مقوّمات نجاح ذلك. لم تنجح الأغلبيّة البرلمانية في حقيقة الأمر إلّا في الإيحاء بنقل أسباب تعطُّل إرساء المحكمة الدستورية من بين يديْها إلى أحضان رئيس الجمهوريّة الذي رفض توقيع تنقيح القانون، في مخالفة أخرى لأحكام الدستور، استناداً إلى تأويل هزيل عكس خوفه من إنشاء محكمة قادرة على عزله ورغبة في التحكّم في موازين القوى.
هيئات دستورية مفقودة
إنّ خيار وجود هيئات دستورية وتخصيص مواضيع محدَّدة بمجال تدخُّلها خيار سياسي واضح وضعه المؤسّسون في الدستور: ما تُعنى به هذه الهيئات المستقلّة هو ما يجب فصله عن باقي السلطات الثلاث. فتنظيم الانتخابات، كما تعديل المشهد الإعلامي، وُضعا بمنأى عن السلطة التنفيذية لتتعهّد بهما هيئة انتخابات وهيئة تعديل القطاع السمعي والبصري. ولم يكتفِ الدستور بضمانة السلطة القضائية لضمان مكافحة الفساد، إنّما أُنشئت هيئة حوكمة رشيدة ومكافحة فساد مستقلّة لهذه الغاية. أمّا مجالا حقوق الإنسان والتنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة فهما أيضاً مجالان ارتأى واضعو الدستور أنّهما يتجاوزان سياسات الدولة التي يحدّدها رئيس الحكومة، ليصبحا من مسؤوليّات هيئتَيْن دستوريتَيْن مستقلّتَيْن. وهذا ما وعد به الدستور، ولم ينجزه مجلس نوّاب الشعب، وهو المسؤول الرئيسي بما أنّه الجهة التي تضع الإطار القانوني لهذه الهيئات الدستورية، وتنتخب أعضاءها. واختلف تعثُّر المجلس في إرساء هذه الهيئات باختلاف الهيئة. بالنسبة إلى هيئة الانتخابات مثلاً، وهي هيئة أُحدِثت قبل الدستور ثم ضُمِّنت فيه كهيئة دستورية، لم يتردّد المجلس في جعلها أرضاً لحروب سياسية بين الفاعلين السياسيين. وقد ظهر هذا في التصويت على الأعضاء الجدد عند تجديد ثلثهم، أو في حالة تعويض الاستقالات، وفي انتخاب رؤسائها. فشهدنا قفزات بهلوانية لعدد الأصوات التي يتحصّل عليها المترشّحون، لا تعكس منطقاً غير اتّفاقات سياسية تتغيّر وفق تغيّر موازين القوى، لا كفاءة المترشّحين، تماماً كما كان الحال في انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية. وقد عرفت هيئتا مكافحة الفساد وتعديل قطاع الإعلام السمعي والبصري مصيراً مشابهاً. تعوّض الهيئتان هيئتَيْن كانتا رأتا النور سنة 2011، ووضعت إطارهما القانوني وأعضاءهما السلطة التنفيذية. شهدتْ الهيئتان المؤقّتتان تفاعلاً سياسياً عجيباً يتغيّر بتغيُّر موازين القوى وأدائهما، ممّا أدّى إلى عجز في انتخاب أعضاء هيئة مكافحة الفساد الدستورية، وفشل في المصادقة على قانون هيئة الإعلام السمعي البصري. وكان التقصير في إرساء الهيئات الدستورية متناغماً والواقع السياسي آنذاك. لقد كان اللاعب السياسي الأهمّ عدداً، وهو نداء تونس، الممثَّل في رئاسة الجمهوريّة في شخص الباجي قائد السبسي وكأكبر كتلة برلمانية، ناقداً شديداً للعديد من توجّهات دستور 2014، منها الهيئات الدستورية، وكأنّ التنصيص عليها في الدستور لم يكن سبباً كافياً لإرسائها. باختصار حزين، مارست السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية – برأسيها – صلاحيّات في فلك فارغ من مؤسّسات دستورية تعدّل هذه الممارسة.
سلطة محلّية مبتورة
لم يقوّم تنظيم الانتخابات البلدية سنة 2018 العرج المؤسّساتي، بل أكّد عبثيّة إرساء مؤسّسات دون بقيّة تسندها. رغم تهليل الكثيرين للباب السابع في الدستور، وهو الباب المخصَّص لمبادئ السلطة المحلّية، واستبشارهم بما يعد به من تقريب أخذ القرار للمواطن عن طريق تغطية الجماعات المحلّية (البلديات والجهات والأقاليم) لكامل تراب الجمهورية وتمتُّعها بصلاحيّات ذاتية تمارسها باستقلاليّة إدارية ومالية، وقرب الديمقراطيّة للمواطن عن طريق دسترة الديمقراطيّة التشاركية كمقاربة في التنظيم العمراني والتخطيط التنموي، أصابت عدوى التأخير هذه السلطة الناشئة أيضاً. وكان تأخيراً متعدّد الأبعاد والأوجه، أوّلها تأخير تحديد تاريخ الانتخابات البلدية الأولى بعد الثورة، الذي أدّى إلى فوضى تسييرية على مستوى البلديّات، التي سيّرتها نيابات خاصّة تضعها الحكومة وتعوّض المجالس البلدية التي تمّ حلّها بعد الثورة، والتي تأثّرت وتغيّرت بتغيّر التوازنات السياسية على مستوى السلطة التنفيذية. مرّة أخرى، كانت مقاربة أكبر فاعلَيْن سياسيَّيْن (نداء تونس وحركة النهضة) لإرساء السلطة المحلّية براغماتية سياسية، لا مؤسّساتية ودستورية، وساعية إلى ضمان تمثيليّة الحزبَيْن في المجالس البلدية، لا إلى تنظيم الانتخابات البلدية في أقرب الآجال. ضاعف الفوضى بطءُ دخول المبادئ الدستورية الخاصّة بالسلطة المحلّية حيّز التنفيذ لتأخّر المصادقة على مجلّة الجماعات المحلّية، وهي الإطار القانوني المنظِّم للسلطة المحلّية الذي يفعّل الباب السابع من الدستور. فاستمرّت البلديات في النشاط في تونس ما بعد الثورة والدستور بالآليّات نفسها في تونس ما قبلهما، في تباين تامّ مع تطلّعات المواطنين وتوقّعاتهم من السلطة المحلّية. ورغم انتظام الانتخابات البلدية سنة 2018، تحوّل عُرس انتخاب 350 مجلساً بلدياً بسرعة إلى جنازة للآمال المعلّقة على السلطة المحلّية، لغياب انتخابات جهوية تسمح بتأسيس المجلس الأعلى للجماعات المحلّية، المدافع المركزي الدستوري عن الجماعات المحلّية، وعلى مبادئ اللامركزيّة كالتعديل والتضامن. وبقيت البلديّات في مواجهة غير متكافئة مع السلطة المركزية. وقد أكّدت الانتخابات البلدية على أنّ المشهد السياسي قادر على تنظيم الانتخابات وإرساء الهياكل التي تفرزها فقط، دون غيرها من المؤسّسات، بنسب مشاركة تتدنّى كلّما تتالت الانتخابات.
حالة دستورية استنهاضية
عشْنا حالةً دستورية استنهاضية، تذكّرنا دوماً بأنّ الدستور بقواعده ومبادئه ومؤسّساته شأن مهمّ، لكنّنا لم نقترب قط من حالة دستورية حقيقية، أي ممارسة سياسية تستند إلى مفاصل الدستور.
يتبيّن ممّا تقدّم أنّ أصحاب القرار عمدوا بعد المصادقة على دستور 2014 إلى التلاعب بكيفيّة إرساء الهياكل الدستورية ضمن مقدار من الضبابية في الممارسة السياسية، وهي حالة مثالية لخلق الفرص السياسية للتفاوض والابتزاز. فقد شهدنا تفاوضاً على المجلس الأعلى للقضاء عن طريق تعديل تشريعي غيّر طرق اتّخاذه القرار. ورأينا التفاوض في انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية بين كتلتَيْ نداء تونس وحركة النهضة، الذي أسفر عن انتخاب عضو وحيد من أربعة، شخصيّة مجهولة الهوية الفكرية للرأي العامّ، ورجعية لِمَن اطّلع على بعض أحكامها حين كانت على رأس محكمة الاستئناف في تونس، وفشل في انتخاب البقيّة، حتّى أضحتْ محاولات إرسائها الجدّية بمثابة تهديد لقيس سعيِّد. ثمّ تابعنا جميعاً مفاوضات تحديد تاريخ تنظيم الانتخابات البلدية الأولى، وقد شملت الفاعلين السياسيين الحاكمين والمعارضين، وكلٌّ يودّ التأثير في فرضيّات نجاحه وفشل خصمه، فتأجّلت ثمّ تأجّلت ثمّ انعقدت. ولم يخرج قيس سعيِّد عن نسق الممارسة ذاته. لقد استند إلى كلّ تقصير دستوري وجعل منه فرصة سياسية، لا فرصة تعديلية تحسّن الممارسة السياسية. لقد عبّر سعيِّد عن سخطه من الفاعلين السياسيين (ويخصّ دوماً الأحزاب بالذكر)، ومن النظام السياسي (ويتحدّث دوماً عن فشل الديمقراطيّة التمثيلية)، إلّا أنّه وليد هذا النظام السياسي وإخفاقاته، وهو متسلّق على هوامش الدستور الاستنهاضية. فتأخُّر إرساء المجلس الأعلى للقضاء – أي تأخّر إصلاح القضاء بمنأى عن السلطة التنفيذية – هو الذي جعله يتسابق وخصوم سياسية رديئة تفلّتت من كلّ عقبة قانونية تضعها النصوص أمام الفساد. وعدم إرساء المحكمة الدستورية – أي تأخّر تأسيس السلطة المحتكرة لتأويل الدستور – هو الذي سمح له بأن يكون المؤوِّل الوحيد للدستور، قبل انتخابه وبعده، وجنّبه الارتطامَ بأيّ حدود مؤسّساتية، فلا يمكن عزله إن خرج عن الدستور الذي أقسم على حمايته. كما لم تتمّ الإطاحة بالمنظومة القانونية التي لا تحترم المبادئ التي وعد بها، ولعلّ أبرزها الاستمرار بالعمل بالأمر المنظِّم لحالة الطوارئ مثلاً. عدم إفساح المجال للسلطة المحلّية لإعطاء المواطن مجالاً ممكناً ملموساً لصوته، عن طريق تأجيل إرساء البلديّات والفشل في إرساء جهات مُنتخَبة، هو الذي فتح المجال لوعود ببناء قاعدي وتغيير النظام السياسي وكأنّ السلطة المحلّية في تونس لم تكن، لا في الدستور ولا في التطبيق. وسمح الفشل في إرساء الهيئات الدستورية بالتلاعب بالإعلام وبمكافحة الفساد، وظلم الأجيال المتعاقبة، وولّد إحساساً فظيعاً بالظلم والحقد والغضب، أي بيئة نجاح قيس سعيِّد الخصبة.
أين المشكلة إن صعد سعيِّد على ظهر هذا الفشل كلّه؟
تكمن المشكلة في الممارسة. لقد أعلنتْ النهضة وحلفاؤها عن قواعد للحكم ولم تحترمها، ويحترم قيس سعيِّد قواعد لم يعلنها، وهو درس ذكيّ تعلّمه قيس سعيِّد مِمَّن سبقوه: لا يمكن خرق ما لم يتمّ الإعلان عنه. إن كان احترام المحكوم أولويّة قصوى، لاحترم قيس سعيِّد قواعد اللعبة الموجودة (أي الدستور) وإن كانت سيّئة في نظره أو أساء إليها مَن سبقه، لكان أعلن عن تنظيم مؤقَّت للسلطات يوم 25 جويلية، يوم مُنع نوّاب الشعب من الولوج إلى المجلس، لا يوم 22 سبتمبر في غطاء قانوني واهٍ، أي الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021. في الحالتَيْن، كان على قيس سعيِّد المضيّ بثبات في انقلابه، إمّا على الممارسة السيّئة ضمن المنظومة السابقة، أو على المنظومة السابقة واقتراح بديل، وفي ذلك تأكيد أنّه يضع القرار بين يديه، منطلقاً من مشروعيّة انتخابه رئيساً للجمهوريّة، لكنّها تتحوّل سريعاً إلى اعتراف بأهمّيّة الضوابط المؤسّساتية للنفس وللآخر. إلّا أنّ انقلاب قيس سعيِّد كان استنهاضياً، شاحذاً لهمم المتفرّج، مقلقاً لمضجع الفاعل السياسي، فقط، كما كان حكم النهضة وحلفائها تماماً. وكما حافظت الطبقة السياسية الحاكمة على شعرة معاوية مع الدستور، واختلط احتجاج المواطن ما بين سخط على نتائج الحكم والممارسة (والخطأ حقّاً هو في الممارسة العوجاء)، يحافظ قيس سعيِّد على الشعرة ذاتها. وكما تغذّى الفاعلون السياسيون من الضرورات التي أباحت الخيارات السياسية، ينهل قيس سعيِّد من ضرورة شعرية مماثلة يقبلها أنصاره والمؤيّدون: اصبروا على قيس، امهلوه الوقت، كفّوا عن نقده، هو أحسن من غيره.
لنا في المدح والغزل السياسي دواوين تونسية، لم يُنظَم أوَّلُها في بلاط النهضة ونداء تونس، ولم يكن آخرها. إلّا أنّ قيمة شعراء وعلماء ونخب القصر مرتبطة وقيمة ما يؤوِّلون. وما نشهده منذ 25 جويلية هو استمرار انهيار ثمن خرق العهد السياسي والدستور، علّ ممارسة سياسية مستقبلية تعيد الاحترام والثقة إلى الممارسة السياسية كأساس العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
نشر هذا المقال في العدد 23 من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه
زلزال ديمقراطيّة فتيّة
[1] ظهرت هذه العبارة سنة 2015 خلال اجتماع “توافقات” ضمّ كتل البرلمان للنقاش حول تعذّر إرساء المحكمة الدستورية في الآجال التي ضبطها الدستور، وتبنّت هذا التوجه كتلتا نداء تونس والنهضة، ويُذكَر أنّ كتلة النهضة كانت صاحبة هذا التأويل المثير للجدل القانوني.
[2] خُفِّضَت هذه الأغلبيّة إلى ثلاثة أخماس أعضاء مجلس نوّاب الشعب بموجب قانون أصرّ عليه مجلس نوّاب الشعب رغم ردّه من رئيس الجمهوريّة سعيِّد وقد برّرت الأغلبيّة هذا التعديل بأنّ وضع أعلبيّة الثلثين يشكّل عائقاً قانونياً أمام إجراء التعيينات.