مؤسسات مهدّدة بالإقفال والعاملون في خطر: الثقافة في لبنان في مهبّ الريح


2020-06-16    |   

مؤسسات مهدّدة بالإقفال والعاملون في خطر: الثقافة في لبنان في مهبّ الريح

ترخي الأزمة الإقتصادية ومن بعدها جائحة كورونا بثقلها على المؤسسات الثقافية أسوة بغيرها من المؤسسات والشركات في لبنان. فأكثر من مؤسسة أصبحت مهددة اليوم بالإغلاق، إن كان في مجالات كالموسيقى والفن التشكيلي التي تعتمد على المبيعات والحفلات، أو في مجالات أخرى تضررت بسبب توقفها عن إنتاج المشاريع التي تعتبرالشرط الأساسي للحصول على التمويل.

وفقدت مؤسّسات عدّة أيضاً مصادر رئيسية للدخل كان يؤمّنها الدعم المصرفي والفردي بالإضافة للخسارة التي منيت بها بسبب خسارة ودائعها في المصارف والعوائق المفروضة على استلام ووصول أي تمويل جديد. انعكست هذه الأوضاع على العاملين في القطاع الذين تضرّروا أيضاً من جرّاء توقّف النشاطات الشهرية والمشاريع الإنتاجية، ما جعلهم بالتالي أمام احتمال التسرّب إلى قطاعات أخرى.

مصير مهدد رغم تنوّع وسائل التمويل

خلال العقدين الماضيين، ظهر في العالم العربي نمط جديد من المؤسسات الثقافية، تعمل بطريقة أقرب إلى المنظمات غير الحكومية، وتتلقّى التمويل من جهات محلّية وإقليمية وعالمية. انتشر هذا النموذج حول العالم في سياق انفتاح الأسواق بعد انتهاء الحرب الباردة، حيث استعمل كأداة لاستبدال البنى المؤسسية التي كانت سائدة في أوروبا الشرقية خلال الحكم السوفييتي، تحت عناوين التبادل الثقافي وتعزيز البيئات الديمقراطية وتحصين الحرية الفردية.

في لبنان والشرق الأوسط، انتشرت هذه المؤسسات بأجندات شبيهة، وبدعم من صناديق أجنبية خلال تسعينيات القرن الماضي وأبرزها مؤسسة فورد التي دعمت “البناء المؤسسي” في لبنان عبر مؤسسات مثل “أشكال ألوان” و”إسباس إس دي”، قبل ظهورصناديق عربية مانحة بدأت بدعم المؤسسات الثقافية، أبرزها “المورد الثقافي” عام 2004 و”آفاق” عام 2007.

أصبحت الصناديق العربية بسرعة اللاعب الأبرز في القطاع الفني على تنوّع أنماطه، من  المسرح والفنون الأدائية، مروراً بالسينما بشقّيها الروائي والوثائقي، وصولاً إلى الفنون المعاصرة (دفع هذا  “مؤسسة فورد” إلى تغيير استراتيجيتها والاستثمار حصراً في دعم هذه المؤسسات). ساهم هذا التطوّر في حصول نمو مؤسسي ملحوظ في لبنان والعالم العربي، لم يتوقف بعد الثورات العربية وموجات اللجوء التي دفعت إلى تأسيس منظمات ثقافية ذات توجّه إقليمي في لبنان (جزء منها سوري – لبناني مثل “بدايات” و”اتجاهات”) استفادت من البيئات القانونية التي تعمل ضمنها المنظمات غير الحكومية اللبنانية التي تعتبر (أي البيئات) أفضل بالمقارنة مع بلدان اخرى مثل مصر، سوريا والعراق.

لم يلغ وجود هذه الصناديق، وسائل التمويل الأخرى التي تلجأ إليها المؤسسات الثقافية في لبنان. أهم هذه الوسائل: “الرعاية” Sponsor، والتبرّعات الفردية، ودعم المصارف.  وكانت الأخيرة حتى وقت قصير، لاعباً أساسياً في عالم الفن اللبناني وإحدى  الجهات الأكثر استثماراً في الفن التشكيلي (كانت داعماً أساسياً للمعارض والنشاطات والجوائز الفنية وتمتلك اليوم مجموعات فنية صخمة).

لكن كلّ ذلك تعثّر نتيجة الأزمة الإقتصادية والانهيار االمالي-المصرفي الذي انعكس على الحقل الثقافي بشكل مباشر.  

مبادرات إنقاذية

تحاول الصناديق المانحة إنقاذ المؤسسات المتعثّرة، عبر مبادرات دعم استثنائية بدون شروط مسبقة (خصصت هذه الصناديق مبادرات غير مشروطة لدعم الأفراد أيضاً مثل “كن مع الفن” للمورد الثقافي و”منحة دعم الفنانين” لمؤسسة “آفاق”) “تلبّي حاجتها إلى إعادة ترتيب عملياتها بشكلٍ يسمح لها بالاستمرار والمحافظة على وجودها بما يستلزم حداً أدنى من الموارد والوقت” وفق بيان مبادرة  “صندوق تضامن” الذي أنشئ بتعاون مشترك بين “المورد الثقافي” والصندوق العربي للثقافة والفنون” (آفاق) ويتوجّه حصراً إلى المؤسسات الفنية والثقافية العاملة في لبنان.

وفق إلينا ناصيف المديرة التنفيذية لمؤسسة “المورد الثقافي”: “تختلف حاجات المؤسسات الثقافية اللبنانية للدعم بحسب كل حالة، وبالاعتماد على الظروف التي تعمل ضمنها. يستطيع مثلاً المسرح تأمين مبالغ معيّنة عبر عائدات التذاكر، لكن ذلك لا يعتبر كافياً للاستمرار، لذلك فهو بحاجة للدعم. من ناحية أخرى، هناك بعض المؤسسات التي أصبحت غير قادرة على إنتاج المشاريع الفنية التي كانت تتلقّى عليها الدعم المادي سابقاً، لذلك هي بحاجة لتعويض الفرق عبر برامج دعم خاصة.

يقدّم الصندوق منحة لمرّة واحدة تصل قيمتها إلى 80 ألف دولار وتستهدف 16 مؤسسة لبنانية. ومن الأهداف التي أنشئ من أجلها: “إعطاء المؤسسات الوقت الكافي للتأقلم والمحافظة على فريق العمل الذي بإمكانه الإجتماع والتفكّر في كافة شؤون المؤسسة المتعلّقة بدورها وبرامجها ومستقبلها (…) وحصول المؤسسة على استشارات في الشؤون القانونية أو الفنية أو التقنية (…) ومساعدة المؤسسة في البحث عن فرص تعاون بين الفنانين المنتمين إلى أنماط مختلفة، وفي إقامة شراكات إقليمية تتيح للمؤسسة استمرار القيام بعملها أو إعادة إنتاجه” (تقدّم المنح بدعم من مموّلي آفاق والمورد الثقافي بمن فيهم مؤسسة فورد ومؤسسات المجتمع المفتوح).

أما المعايير التي يتبعها الصندوق، فهي وفق ناصيف: “قيمة المؤسسة في المجال العام ودورها وفعاليتها في الحياة الفنية والثقافية، والتحديات التي تواجهها وقدرتها على تقييم احتياجاتها وأولوياتها، والقدرة على ابتكار طرق جديدة للتأقلم ورؤيتها لكيفية تخطي التحديات، والآليات والممارسات الداخلية التي تعكس إمكانيتها، الممارسات التي تتبعها في الحوكمة، وقدرتها على توفير الحد الأدنى من الموارد اللازمة (أو إمكانية استجلابها) للتعامل مع الأزمة”.

يُذكر أنّ “المورد الثقافي” يخصص منذ عام 2011 برنامجاً آخر لدعم المؤسسات العربية تحت عنوان “عبارة”، يقدم دعماً مالياً (تصل قيمته إلى 25 ألف دولار)، ومساعدة تقنية (بحسب احتياجات المؤسسة)، وتدريباً في مجالات الإدارة الثقافية، وفرص تشبيك مع مؤسسات أخرى.

“مترو المدينة” كحالة نموذجية

من بين الفضاءات الثقافية التي تواجه صعوبات مالية وتحتاج للدعم من أجل الاستمرار هي “مترو المدينة”. تنتمي المؤسسة إلى نموذج خاص من مساحات العرض التي تعيش على مداخيل شباك التذاكر والمطعم والبار، بدون الحاجة للدعم الخارجي كما حال أكثرية الفضاءات الثقافية الموجودة في لبنان. استطاعت المؤسسة الاستمرار في هذا النمط خلال السنوات الثمانية الماضية، قبل أن تبدأ بمواجهة الصعوبات مع ظهور بوادر الأزمة الإقتصادية لتي تسارعت في 17 تشرين الأول.

بعد اغلاق المكان لأكثر من شهر بسبب الإنتفاضة، حاول “مترو” التأقلم مع الظروف الإقتصادية التي دخل فيها لبنان، عبر اتباع سياسة جديدة تفسح المجال لمشاهدة العروض مجاناً أو بسعر اختياري بدون التخلّي عن نظام التذاكر الثابت. نجح هذا النموذج لبعض الوقت، قبل أن يبدأ بالتراجع تدريجياً ويفقد القدرة على تأمين الدخل اللازم للاستمرار (من اسباب ذلك تدنّي القدرة الشرائية عند اللبنانيين وتراجع قيمة الليرة أمام الدولار).

دفع هذا الواقع، أحد الشركاء الموجودين في كندا، إلى تنظيم حفلة موسيقية هناك يذهب ريعها لدعم “مترو”، من أجل سد العجز الذي وقع فيه، على أن تقام فعاليات مشابهة في بلدان أخرى مستقبلاً. ساعدت هذه الخطوة المكان على الاستمرار لبضعة أشهر، قبل أن ينتشر فيروس كورونا ويفرض الإغلاق التام على الأمكنة العامة، ما أعاد الأمور إلى المربع الأول.

يقول هشام جابر، المدير الفني لـ”مترو المدينة”: “يصارع مترو اليوم بكل الوسائل من أجل الاستمرار، حيث يحاول البحث عن دعم مالي يمكّنه من تجاوز المرحلة الصعبة التي فرضها انتشار فيروس كورونا، بشكل يكون أقرب إلى الحقنة التي لا تغيّر الهوية التي نعمل وفقها”. ولكنه يضيف بأنّ “هذا لا يمنع من وجود رغبة عندنا في الحصول على دعم لعروض أو مشاريع معيّنة في المستقبل في حال لم نكن قادرين على إنتاجها بمفردنا من شباك التذاكر والموارد الأخرى”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، لبنان ، حقوق العمال والنقابات ، اقتصاد وصناعة وزراعة



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني