انتهى آخر الأسبوع الفارط المؤتمر السادس للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، والثامن والعشرون للمهنة، بالإفصاح عن تركيبة المكتب التنفيذي المُكوّنة من 9 أعضاء والأعضاء المناوبين الأربعة. وقد ذهبَت الخارطة الانتخابية الصحفية بنسبة 90 بالمائة تقريبا إلى القائمة المهنية المستقلة التي يقودها الصحفي زياد الدبار، بحصدها 8 مقاعد من أصل 09 مقاعد، مقابل التحاق رئيسة قائمة “الثبات” ونائبة رئيس النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين المتخلي أميرة محمد بعضوية المكتب الجديد. وكانت أميرة محمّد قد تقدمت بقائمة من 6 مترشحين فقط، ولم تحظ هذه القائمة بالفوز.
وبعد تصاعد الدّخان الأبيض حول رئاسة النقابة المحسومة مسبقا لفائدة القائمة الفائزة بأغلبية المقاعد عبر رئيسها زياد الدبار وتوزيع بقية “الحقائب المفتاحية” صلب المكتب الجديد، فإن السؤال الرئيسي الذي قاد جزءا مهما من المعركة الانتخابية للمؤتمر ونقاشاته العامة وبشدّة استقطابية، كان الحرية أم الخبز؟
إن الإجابة عن هذا السؤال مهم جدّا في رسم الحدود الفاصلة بين القلم و الأجر، وما ينتظر عناصر المكتب التنفيذي الجديد من تحديات. فقد أثار السؤال المفخّخ نقاطا خلافية كبيرة وتباينات موضوعية يعمّقها ما يعرف في المطبخ الداخلي الصحفي عند كل مؤتمر بأولويات المرحلة وتحديد السقف الآني المشترك. ويُشير الفصل الثاني من القانون الأساسي للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين إلى أن النقابة تهدف إلى:
- الدفاع عن حقوق الصحفيين المادية والمعنوية خاصة بحمايتهم من كل التجاوزات للقانون والضغوط التي يتعرضون لها في ممارستهم لمهنتهم،
- صيانة المهنة الصحفية وضمان احترام ميثاق شرفها،
- الدفاع عن حرية الرأي والتعبير وخاصة حرية الإعلام والصحافة،
- تمثيل الصحفيين في المفاوضات الاجتماعية وإبرام الاتفاقيات.
وإن حدَّدَ “العقل الصحفي” والمُشرّع منذ البداية دور النقابة في الخيط الرفيع بين الاقتصادي والاجتماعي والحقوقي وجَمَع بينهما في دستور نقابته في فصل واحد، فإن الواقع المهني يُعيد في كل مرة جرّ قاعدة صحفية مهمة عدديا إلى إعادة طرح هذه المعادلة المحسومة نظريا، كلما ابتعدنا عن مساحة المقايضات السياسية و الاقتصادية والاجتماعية ومقولة الصحافة المستكينة مقابل الغذاء.
التقرير الأدبي المعروض أمام المؤتمرين أطلَق جرس الإنذار الأخير عندما أشارت أوراقه إلى وجود ما يزيد عن 60 قضية شغليّة منشورة أمام المحاكم التونسية بعد مئات حالات الطرد التعسفي وعدم خلاص أجور الصحفيين وإحالتهم على البطالة خلال السنوات الثلاث الأخيرة، لكن ليس بمنطق توجيه ضربة قاسية للحرية في معناها الواسع وحرية الصحافة في معناها الأقل توسّعا، بقدر ما هو تدليل على أن الساحة الصحفية الشّغلية الهشة قد اقتربت أكثر من أي وقت مضى من حافة نظام “القَنَانة” الصحفية المُقنّعة الذي قادته وتقوده مجموعات مالية وسياسية نافذة منذ 2011.
إن استدعاء مقولة الحرية أو الخبز في المجال الصحفي أو استبدالها بالخبز مقابل الحرية الذي جرّبناه لما يزيد عن نصف قرن في إطار السؤال الكلاسيكي: من الأسبق؟ هو طرح خاطئ لحاجة الصحفي التونسي اليوم إلى مناخ اقتصادي واجتماعي ملائم يتعلق بحقوقه المادية والمعنوية، فمتوسط أجر الصحفي في تونس لا يتجاوز سقف 300 دولار وهي من أدنى نسب سلم الأجور في العالم العربي حسب أحدث أرقام رسمية قدمتها شبكة الصحفيين الدوليين في شهر أفريل 2018.
ويبدو سؤال الحرية في المجال الصحفي في حد ذاته مختلفا عن سؤال الحرية فيما مضى فلا يمكن بأي حال اعتبار الحرية الصحفية الآن مقولة تعني التخلص من قيود الرقابة الاستباقية والتحكم في الرسائل والأفكار والمعلومات والأخبار فقط، بل هي أيضا أن تختار قيودك بنفسك عبر ما تُحدّده أخلاقيات المهنة الصحفية وضوابطها وأصولها أو ما يُعرف مهنيا بآليات التعديل والتعديل الذاتي. أما عن الخبز أو الأجر تحديدا فإن السؤال بدوره يختلف شكلا ومضمونا، لأن ثمة فارقا كبيرا بين الأجور التي يفرضها الواقع الطبيعي كالأزمات الاقتصادية وآثار جائحة كوفيد 19 وضيق سوق الإشهار وتراجع الصحافة الورقية والإعلام التقليدي والأجور التي تفرضها سياسة هدر للحقوق مُمنهجة. وهذا ما نتبيّنه في وسائل الإعلام الخاصة والمُصَادَرة والمؤسسات المنتصَبة عشوائيا في سوق الإعلام الصغير في تونس، والتي يقودها منطق التشغيل الهش للصحفيات والصحفيين واستغلالهم على مدار الساعة بأجور لا تكاد تستجيب لحاجيات الحد الأدنى إن تم خلاص أجورهم أصلا. إضافة إلى ارتفاع معيشي مهُول واقتراب الصحفيين الموجودين في “المنطقة العمومية الآمنة” (وسائل الإعلام العمومية) من خطّ الفقر .
إن هذا السؤال سيظل يلاحق الساحة النقابية الصحفية إن تواصل اكتشاف الصحفيين أن خبزهم في خطر وتتابع الانحدار المرير في المناخ الاجتماعي. لكن ما يمكن أن يُشكّل ضمانة مطمئنة للقطاع حتى يستفيد الصحفي التونسي من الخبز والحرية معا باعتبارهما خطّين متوازيين يلتقيان وحقان أصليّان؛ هو وجود استراتيجية خُماسية للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين 2023 – 2026 تتركّز من 7 نقاط، تتقدمها نقطتان تُجسّدان مفتاح الحرية وقطعة الخبز معا، وبهما سيقوم عمل المكتب التنفيذي القادم، باعتبار أن خارطة الطريق الجزئية هي وثيقة لامتحان المعركة الحقوقية والاقتصادية والاجتماعية، ولها امتداد زمني محدد وعنوانان واضحان:
- الدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للصحفيين من خلال العمل على تحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي لجميع الصحفيين التونسيين تقطع مع الهشاشة والتهميش.
- حماية الحريات الصحفية وتعزيزها بوصفها الركن الأساسي لممارسة المهنة وخدمة الجمهور .
مؤتمر بمنعرج سجني
رفع المؤتمر شعار “الصحافة ليست جريمة”، حيث ارتفَعَت لافتة كبيرة وراء مكتب رئاسة المؤتمر تحمل صورتي الزميلين خليفة القاسمي الذي يُواجه حكما بخمس سنوات بمقتضى قانون الإرهاب، وشذى مبارك المسجونة على خلفية ما يعرف بقضية “إنستالينغو”. وفي الأثناء التحق بهم عشية المؤتمر صحفي ثالث، هو ياسين الرمضاني على خلفية تتبعات قضائية تتعلق بتدوينات على شبكات التواصل الاجتماعي.
أبعد من التكثيف الرمزي للقضبان والأقلام المسجونة الآن والتي سُجنت سابقا بسبب المرسوم 54 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، فإن هذا النص القانوني الجذريّ وحّدَ كل الجسم الصحفي من أجل المطالبة بسحبه تماما من المشهد القانوني المُشتّت بطبعه في نصوصه التي يحاكم على ضوئها صحفيون (قانون الإرهاب – المجلة الجزائية – مجلة الاتصالات – مجلة المرافعات العسكرية …) وتعارضه حتى مع فصول من الدستور الجديد ومع المعاهدات الدولية. وفي الفهم البسيط لحرية الصحافة، وَصفت عديد الفعاليات المدنية والحقوقية والسياسية والخبراء هذا المرسوم بأنه “اغتيال للصحافة” بسلاح كاتم للصوت.
لا يمكن أن تَنبُت صحافة حقيقية ومرآة للمجتمع داخل أخطار الملاحقات القضائية، فالمرسوم المثير للجدل منذ إقراره جعل الصحفي التونسي يتحرك فوق “ألغام” فصوله الزجرية وأساسها الفصل 24 الذي تصل عقوباته من أدناها ب 5 سنوات إلى أقصاها ب 10 سنوات، وباتت البيئة الصحفية “سجنا واسعا” وفق نقيب الصحفيين المتخلي محمد ياسين الجلاصي، من خلال تحريك ملفات قضائية متعلقة بالأخبار الزائفة أو الإشاعة والدليل اعتماد عدد من المسؤولين الحكوميين والسياسيين على المرسوم 54 من أجل تضييق حرية العمل الصحفي وتهديد مصادر المعلومات .
سيتسلّم المكتب التنفيذي الجديد “جبل” الملفات الحقوقية والإطار التشريعي المنظم للمهنة وأساسهما المرسومين 115 و116 اللذين بقيَا يعيشان حالة يُتم تشريعي جديد، حَوّلهما إلى قانونين أساسيين منذ تفعيلهما في نوفمبر من العام 2011. وقانون النفاذ إلى المعلومات الذي ظل بلا معلومات خصوصا منذ اعتماد السلطة التنفيذية المنشور عدد 19 الذي يمنع تمكين الصحفيين من أي معطيات وتصريحات قبل الحصول على إذن مسبق من الوزير المسؤول، ثم المنشور عدد 20 الذي يضرب العمل النقابي ويُقفل كل أبواب الحوار الاجتماعي .
ويُحمّل تراجع الترتيب العالمي لحرية الصحافة في تونس اعتمادا على مؤشرات علمية واضحة وإحصائيات دقيقة نقابة الصحفيين التونسيين حسن إدارة الخطوط الحُمر لمعركة الحريات وحماية “أم المكاسب”، فتونس التي كانت في المركز 73 سنة 2021 و94 سنة 2022 تدحرَجت إلى المرتبة 121 من ضمن 180 دولة، ما يرفع أسئلة ثقيلة بشأن المستقبل واحتمالات الانتكاسة التي لا يريدها أحد من الجسم الصحفي .
في المجمل لن تتغيّر كثيرا قواعد الاشتباك النضاليّ والتلاقي مع السلطة الحالية في نظر عدد من الصحفيين المتابعين للشأن الداخلي النقابي، وإن كانت علاقات الجفاء والفتور واضحة مع المكتب المتخلي للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، التي التقى رئيسها برئيس الجمهورية في مناسبتين فقط إحداها مباشرة بعد تدابير 25 جويلية 2021. وبدا التيّار منقطعا منذ ذلك الحين وصولا إلى “مأزق” نشر الاتفاقية الإطارية المُشتركَة للصحفيين في الرائد الرسمي الذي ترفضه السلطة الحالية رغم صدور أحكام نهائية وباتة في القضاء الإداري بشأنه، كضمانة نهائية للتشغيل الواضح والمُقنّن للصحافيين في تونس ومُراوحة وضعية الإعلام المصادر مكانها، بل غرقه ومن يعمل فيه في المجهول .
من المهم الإضاءة على مؤشرات “الطريق المسدود” المتواصلة مع جميع الحكومات منذ 2011، في قطاع شهد إضرابين عامين بين أعوام 2012 و 2013 وثالث في الإعلام العمومي في أفريل 2022. وهنا يُطرَح التساؤل حول الأوراق النضالية المطروحة أمام المكتب الجديد ووحدة الساحات، بعد أن اختبر الصحفيون عبر المكتب السابق كل الأشكال، من ضمنها تنظيم يوم غضب وطني وعديد الوقفات الاحتجاجية والاعتصامات في ساحة الحكومة بالقصبة وأمام مقر البرلمان الجديد دون وجود أي صدى. ومن المفروض الآن انتظار ما ستفضي إليه نوايا “الجسور الممدودة” للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين مع السلطة أو الدوائر الحكومية المقربة منها حول ملف الإعلام المتشعب والتي أطلقها نقيب الصحفيين الجديد زياد الدبار في أول تصريح له بعد مباشرة مهامه. لكن المؤكد بعد تشخيص الحالة إثر فسحة زمنية تمتد لعشر سنوات أن الصحافة في تونس تعالج بمقاربات فاعلة لا بخطابات منفعلة .
ديكتاتورية الأرقام في المؤتمر
بالتزامن مع هذا المؤتمر لا بد من استنطاق الأرقام وما وراءها، إذ أن عدد الترشحات لعضوية المكتب التنفيذي للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين في هذا المؤتمر هي الأضعف منذ 2011، أي من مجمل 4 مؤتمرات سابقة، حيث بلغت 20 فقط. كما هي الأقل من حيث القائمات المتنافسة، إذ انحصرت بين “قائمة” و”نصف القائمة” إن جاز التعبير، مع 5 مترشحين مستقلين. لكن في المقابل من المهم التنويه بمسؤولية كل من ترشح وحِسّهم النقابي في مناخ يشهد عزوفا شبه مطلق أو ما يشبه حالة البهتة العامة في عدد من المنظمات والتشكيلات المدنية .
وتتوسع الخارطة التمثيلية للمكتب التنفيذي بين المركز والجهات، ممثلة في جهتيْ صفاقس وقفصة حيث هناك ثقل صحفي معتبر. أما مؤسساتيا فيغلب عليها الإعلام العمومي بـ5 مقاعد مقابل 4 للإعلام الخاص والمُصادر. وعلى مستوى التقسيم الجندري صَعدت 6 نساء من جملة 9 أعضاء يكوّنون المكتب التنفيذي، مما يبيّن انغراس الفعل النقابي النسوي صلب هذه المنظمة النقابية. أما الأكثر لفتا للانتباه فهي قاعدة الأصوات الصحفية المقدرة بـ662 صوتا جلّها من الشباب مقابل إقبال ضعيف جدا ممن يعرفون في الوسط الصحفي بـ”شيوخ المهنة”، إضافة إلى توسع الطعون الانتخابية إلى رقم قياسي وهو 90 طعنا وما سببه ذلك من “خروج عن النص” في بعض الأحيان وإرباك عملية السير الطبيعي للمؤتمر. .
في كل هذا لا يجب أن تقف الأرقام والمؤشرات عند قراءات محدودة أو تحجب المرحلة المخصوصة التي تتحرك في مربعها النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين. فالمناخ السياسي والسياقات الاقتصادية والاجتماعية يلقي بتبعاته على البيئة الصحفية والعاملين فيها، بل عليها أن تذهب في اتجاه أدوات استرجاع “المهنة المختطفة” من قبل منتحلي الصفة الصحفية ومُعلّقي الطلب ودكاكين التدريب الوهمية وكيفية المحافظة على هيكل طالما مَثَّل قاعدة انطلاق للحريات والدفاع عن منظوريه، فنحصل عندئذ عن مهنة حرة أولا وحقوقنا كصحفيين تاليا.