
عقد رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي جان فهد مؤتمراً صحافياً بتاريخ 29 آذار 2018، على ضوء إعلانه الاعتكاف لمدة يومين بتاريخ 28 و29 آذار. ويأتي هذا الحدث بعدما شهدت الأيام العشرة الماضية إعتكافاً منفصلاً لمجموعة كبيرة من القضاة بدأ بتاريخ 19 آذار 2018. والواقع أن هذا المؤتمر تزامن مع انعقاد الهيئة العامة لمجلس النواب لمناقشة قانون الموازنة، حيث يشكل هذا القانون موضوعاً أساسياً في الحراك القضائي المستمر منذ العام 2017 على خلفية توحيد تقديمات صناديق التعاضد ومنها صندوق تعاضد القضاة. ويٌذكر أن الهيئة العامة لمجلس النواب أقرت في وقت لاحق للمؤتمر قانون موازنة عام 2018 وتضمن ثلاثة مقررات تتصل بالسلطة القضائية. إذ أقرت الهيئة "إستقلالية صندوق تعاضد القضاة، وثلاث درجات إضافية للقضاة بالإضافة إلى تحديد العطلة القضائية بالشهر والنصف". لهذه الناحية، تلقف القضاة مقررات مجلس النواب بإيجابية وإعتبروه إنجازاً وجزءاً من الإنتصار. وقد أعرب القضاة الذين تواصلت معهم المفكرة بعد إقرار مشروع الموازنة بأنهم مستمرون في نضالهم في مسيرة إنشاء النادي وتعزيز إستقلالية القضاء. ولوح بعضهم بالإتجاه إلى تعليق الإعتكاف بعد فرصة عيد الفصح وليس الرجوع عنه.
مجلس القضاء: لا مقاطعة للإنتخابات
بالعودة إلى المؤتمر، اعتبر القاضي فهد أن مجرد دعوته لمؤتمر صحافي يشكل حدثا تاريخيا ما كان ليحصل لولا المس بحقوق القضاء خلال السنوات الماضية. وقد ناشد القاضي فهد في بيانه "السلطات بإقرار القوانين المتعلقة بمشاريع القوانين التي تقدم بها مجلس القضاء الأعلى للحكومة والمجلس النيابي". وشدد على الأمور "المتعلقة بالحفاظ على صندوق تعاضد القضاة وزيادة موارده والأخرى الرامية إلى منح القاضي ثلاث درجات على الرواتب، والتي رأى بها المجلس سبيلاً لتفعيل مبدأ استقلالية القضاء". هذا دون أن يتطرق القاضي فهد إلى حراك القضاة المنفصل عن المجلس، إنما أرسل في بيانه تحذيراً بشأن ما لوّح به قضاة الحراك عن مقاطعة ترأس لجان القيد الإنتخابية. إذ أكد القاضي فهد على "إشراف القضاء على الإنتخابات النيابية". ولفت إلى أنه "ليس القضاء من يعطل الحياة الديمقراطية في لبنان، ومن يمارس الظلم على الشعب الذي هو مصدر السلطات، وليس هو من ينزع من المواطن حقه الدستوري في إختيار ممثليه".
على خط مواز، عدد القاضي فهد ما شهده القضاة بصمت من مس بحقوقهم في الأعوام المنصرمة وهي تلك المتعلقة بالتشريعات القانونية. أولاً لفت إلى أنه في العام 2012 صدر قانون السير الذي "نزع ضمانة القاضي برقم سيارة خاص، في وقت لا يحوز القاضي على سيارة رسمية لأداء مهامه"، "وخفض بشكل كبير حصة صندوق تعاضد القضاة من غرامات السير وحولها إلى جهات أخرى". ثانياً، "أقدمت الحكومة في العام 2016 على سحب اقتراح قانون تعديل المادة 5 من قانون القضاء العدلي من أمام الهيئة العامة لمجلس النواب، لمزيد من الدرس، في وقت كانت تئن فيه المحاكم تحت وطأة عدم صدور أربعة مشاريع تشكيلات قضائية أعدها مجلس القضاء الأعلى دون أن تجد طريقها إلى النفاذ في مرسوم جمهوري". وثالثاً، لفت القاضي فهد إلى "صدور القانون رقم 46/2017 الذي رفع رواتب موظفي الدولة، ومنح بعضهم ثلاث درجات أقدمية وبعضهم الآخر خمس درجات لتصبح رواتب موظفي الفئة الأولى وبعض رواتب موظفي الفئة الثانية أعلى من رواتب القضاة". تابع القاضي فهد، "أوجب هذا القانون عينه، ودون استشارة مجلس القضاء الأعلى، كما توجبه المادة الخامسة من قانون القضاء العدلي، إعادة النظر بالتقديمات الاجتماعية للقضاة مجيزا للحكومة توحيد تقديمات صناديق التعاضد واعتبار صندوق تعاضد القضاة من بينها". من هذا المنطلق أكد أن المجلس جهد لإعلام المسؤولين في السلطتين التنفيذية والتشريعية بخطورة المنحى الذي تتخذه العلاقة بين السلطتين مع السلطة القضائية". كما شدد على أن الوعود التي تلقاها لم تثمر حتى الساعة قوانين ترفع الإجحاف الذي لا قدرة لعدد كبير من القضاة على احتماله، ما دفعهم على الاعتكاف عن أداء المهام القضائية.
كما فند القاضي فهد في بيانه الأوضاع الصعبة التي يعاني منها الجسم القضائي التي تواجه القضاء في عملهم ولا سيما المتصلة بالنقص بعدد القضاة. إذ إعتبر "أنها المرة الأولى التي يقف فيها رئيس مجلس القضاء الأعلى ليعرض للعلن واقع القضاة في لبنان". لهذه الناحية يشير القاضي فهد إلى أن "القضاء العدلي مؤلف من 520 قاضياً في حين أن ملاك القضاء هو 730 قاضياً (بالحقيقة هو أكثر من ذلك ويصل إلى 768 حسب المفكرة)، والذين يعملون في ظروف صعبة في ظل عدم مكننة الدوائر القضائية". وأضاف، "في محكمة التمييز يعمل يتشارك كل أربعة مستشارين غرفة واحدة، وهذا الأمر ينسحب على معظم المحاكم"، بالإضافة إلى أن "الدوائر القضائية هي من الدوائر الرسمية القليلة التي لم تدخلها المكننة، فليس في أقلام المحاكم لغاية الآن جهاز كمبيوتر واحد". من جهة أخرى، عدد فهد التطورات التي شهدها القضاء على الرغم من ظروف عمله، منها إخضاع القضاء لمبادئ أخلاقية مكتوبة منذ العام 2005 وإدخال الهيئات الاستشارية المنتخبة في المحاكم في العام 2014، وغيرها.
وقد أضاف القاضي فهد أن هذا الواقع أدى إلى انخفاض طالبي الدخول إلى القضاء، حتى بين أبناء القضاة أنفسهم.
قضاة الحراك: الإستقلالية قبل كل شيء
لدى إنتهاء المؤتمر الصحافي تحاورت المفكرة القانونية مع القضاة المتواجدين في قاعة محكمة التمييز للوقوف عند رأيهم من المؤتمر. والحال أن الآراء تراوحت بين مؤيد وغير راضٍ عن جميع ما تضمنه البيان. إذ لفت أكثر من قاض وقاضية إلى أن المجلس قد وصف واقعاً حقيقياً يعاني منه القاضي بشكل يومي في العمل. في المقابل انتقد أكثر من قاض طلبوا عدم ذكر أسمائهم البيان من زوايا عدة. ف "المواقف التي أصدرها القاضي فهد تتطابق مع مطالب قضاة الحراك في جزء من نضالهم، إنما تتقاطع مع مطلبهم الأبرز المتجلي بإستقلال السلطة القضائية". إذ يؤكد "على أن إستقلال القضاء هو الدافع الأساسي لهذا الحراك الذي بدأ العام الماضي". والحال أن هذا الحراك شهد محطات مطلبية عدة، كان من أبرزها توقيع 352 قاض وقاضية في آب 2017 على عريضة تطالب بوضع قانون لإستقلالية القضاء. كما وصل حراكهم هذا العام إلى الإعتكاف بمعزل عن قرارات مجلس القضاء الأعلى، ومن ثم التوقيع على عريضة لإنشاء ناد للقضاة الذي يجري اليوم إعداد هيكله التنظيمي، وفقاً لما يؤكد عليه أحد القضاة.
في السياق نفسه، يبدي قاض آخر ثلاث ملاحظات على البيان: أولها "أن المجلس يحاول أن يسلب منا سلاحنا الأقوى وهو مقاطعة الإنتخابات النيابية، فالمحارب الذي يريد الإستسلام يرمي سلاحه قبل خوض المعركة" وفقاً لتعبيره. يشير القاضي إلى أنه "لا يعود للمجلس إتخاذ القرار بالإشراف على الإنتخابات إذ أن لجان القيد تصدر بمرسوم، ويعود للقاضي الموافقة على المشاركة من عدمها". بمقابل ذلك، يعتبر القاضي أن المجلس تقصد التطرق لهذا الموضوع للتأثير على القضاة، حيث يوجد قضاة مترددون عن خوض هذه المعركة وآخرون يلتزمون بقرارات المجلس مهما كانت". ثانياً، يرى القاضي أن المجلس اليوم "كان يناشد السلطتين التنفيذية والتشريعية، علماً أن السلطة لا تناشد سلطة أخرى". "بل على العكس فإن السلطة تصرخ في وجه الأخرى وتقوم بالإجراءات المعينة منعاً لأي تعدّ على صلاحياتها" وفقاً لتعبيره. ثالثاً يقول القاضي، "إن المجلس صوّر أبرز مطالب القضاة بأنها الصندوق والدرجات، في الوقت الذي تتجلى أبرز مطالبنا بإستقلالية القضاء والأخص بوضع آلية لإنتخاب أعضاء مجلس القضاء الأعلى وليس تعيينهم من السلطة التنفيذية". وما زاد الإستياء لدى القضاة برأيه هو أن المجلس تغاضى عن ذكر"الإعتكاف الذي بدأ منذ عشرة أيام، وإعتبر أن الإعتكاف حصل ليومين فقط (أي حين انضم المجلس إليه)". لهذا، يعتب القاضي على موقف المجلس معتبراً أن "حراك القضاة هو الذي دفع المجلس للإعتكاف لمدة يومين".
في مقابل ذلك، هناك من يعتبر أن دخول الفئات الشابة إلى الجسم القضائي هو ما يدفع نحو التحرك لأجل الإستقلالية، لذلك يعتبر أحد القضاة أنه "يجب أن يكون هناك قضاة لهم خبرة طويلة في العمل القضائي لضبط التحركات وحمايتها من الوقوع في الأخطاء الجسيمة". وهو ما يضعه القاضي في محور "وجوب الإلتزام بقرارت مجلس القضاءالأعلى ومحاولة التوصل إلى حلول بأساليب مختلفة غير اللجوء إلى الإعتكاف".
متوفر من خلال: