مأساة المهاجرين وطالبي اللجوء في ليبيا


2024-05-13    |   

مأساة المهاجرين وطالبي اللجوء في ليبيا

تشهد الساحة الليبية منذ التغيير الذي حصل فيها مطلع 2011  تفاقم الوضع بسبب الصراعات التي قضتْ على البنية التحتية وعلى ركائز ومقومات الحياة الكريمة لليبيين عامة، وبخاصّة المهاجرين وطالبي اللجوء بوصفهم الفئات الأشد ضعفاً وهشاشة.

يعاني المهاجرون المحتجزون في مراكز الاحتجاز غرب ليبيا وشرقها أوضاعاً صعبة للغاية، خصوصاً بعد الحرب التي دارتْ رحاها في الغرب الليبي (أبريل 2019 – يونيو 2020)، وتعرّض العشرات منهم للقتل والنزوح والاعتقال المتكرر من قبل عديد الجهات.

لم يكن الحال أفضل بالنسبة للمهاجرين والعمال في الشرق الليبي، حيث استمر تجار البشر والمهربون، في منطقتي امساعد وضواحي مدينة طبرق وبنغازي والبريقة وسرت، في احتجاز المهاجرين والعمال وطلب الفدية بعد وضعهم في مستودعات كبيرة للاحتجاز. وقد أكّدت عشرات الشهادات، أنهم تعرضوا للتعذيب والضرب لجبر عائلاتهم على دفع الفدية مقابل الإفراج عنهم. ورغم كل الجهود التي تبذلها السلطات المحلية هناك، لا يزال القضاء على شبكات الإتجار صعب المنال. كما شهد هذا العام نقلا قسريا في ظروف غير إنسانية للعديد من المهاجرين وطالبي اللجوء من شرق ليبيا إلى منطقة الكفرة جنوب ليبيا بغرض ترحيلهم إلى بلدانهم الاصلية.

هم يهربون من جحيم الفقر والنزاعات وحروب القارة الإفريقية. يغامرون بحياتهم وأطفالهم قبل أموالهم وجميع مدخراتهم، ليجدوا أنفسهم في تيه بين صحراء ليبيا وسجونها ومستودعاتها، ومن ينجو منهم، تتسلمه عصابات مسلحة لها نصيب في سوق بيع البشر والتجارة بهم، فتصبح مراكب الموت لأوروبا ذروة أحلامهم. إنهم المهاجرون غير النظاميين ضحايا الهجرة غير النظامية كما اصطلحت المنظمات الحقوقية على تسميتهم.

أسباب عدة تدفعهم لهذه المغامرة المميتة، ظنًا منهم أنّها أرحم عليهم من القتل الجماعي والعبودية والتهجير القسري والاغتصاب والتجويع في بلادهم، أو داخل مخيمات النزوح، فضلا عن العامل الاقتصادي، المتمثل في البطالة والفقر وعدم المقدرة على توفير لقمة العيش. فبحسب إحصائية للمنظمة الدولية للهجرة، فإن الأسباب الاقتصادية دفعت 88% من المهاجرين إلى مغادرة بلدانهم الأصلية.[1]

وفقا للمنظمة الدولية للهجرة والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بلغ عدد المهاجرين في ليبيا  حتى أبريل 2024، ما يقارب 705,746 مهاجرا. كما بلغ عدد طالبي اللجوء واللاجئين المسجلين حتى موفى أكتوبر حوالي 50,986.

وتعدّ ليبيا بلد عبور لغالبيّة المهاجرين وطالبي اللجوء من غامبيا والنيجر ومالي وساحل العاج وسوريا واليمن والصومال وإريتريا، ومقصدا للعمل، وممرا للعودة إلى مصر والسودان قبل الحرب الأخيرة، ومعبرا لأوروبا [2].  إذ أنّ الهجرة لليبيا غالبًا ما تكون خطوة لمقصد أبعد.

فوفقًا لعدّة مقابلات أجريناها في مراكز احتجاز في غرب ليبيا  عين زارة وطريق السكة وبئر الغنم، وكذا مراكز في مصراتة ومركز زليتن ومركز الخمس في المنطقة الوسطى، أكّد الكثيرون أن الفقر والبطالة كانا وراء قدومهم إلى ليبيا، في محاولة للوصول لشواطئ أوروبا وليس للبقاء والاستقرار فيها. إلا أنه من الصعب الجزم بعدد المهاجرين الذين دخلوا ليبيا أو خرجوا منها عبر البحر، وذلك لعدم وجود منظومة واحدة في الدولة ترصد ملفّ المهاجرين، وكذا للفشل في السيطرة على منافذ الهجرة بخاصّة الجنوبية منها, كما أن هناك عددا كبيرا من طالبي اللجوء كان سبب قدومهم إلى ليبيا البحث عن بلد ثالث يؤويهم بسبب فرارهم من مناطق النزاع والحرب مثل السوريين واليمنيين والسودانيين.

من داخل مركز احتجاز طريق السكة

الإطار القانوني للمهاجرين في ليبيا وأماكن احتجازهم

التحدّي الأول الذي يواجه كل المهتمين بالهجرة هو عدم الوضوح القانوني في مسألة التمييز بين اللاجئ والمهاجر غير النظامي. فمعظم المسؤولين عن ملفّ الهجرة تعمدوا الخلط بينهما. كما أنّ القوانين المحلية الليبية تعاني من تخبّط شديد في تشخيص المهاجرين، على نحو يتعارض مع ما صدّقت عليه ليبيا من اتفاقيات في هذا الصدد. الأمر الذي يستوجب سنّ قوانين جديدة تتماشى مع الوضع على الأرض. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يجرّم قانون صدر في عام 1987 رقم [6] دخول ليبيا والبقاء فيها بشكل غير نظامي، ولم يستثنِ القانون المهاجر الذي وقع عليه ضرر، أو الأطفال الفارين من الحروب والنزاعات أو المجاعات.

وقد نصّ قانون رقم 19[3] لمكافحة الهجرة غير الشرعية، الصادر سنة 2010  على احترام المهاجرين وعدم الاعتداء عليهم والحفاظ على ممتلكاتهم، وإعطائهم مهلة 60 يومًا لتسوية أوضاعهم، وفي حال تجاوز المدة، يعاقب المهاجر بالحبس وغرامة مالية تصل لـ 1000 دينار.

وفي عام 2011، تمّ تضمين المادة (10) في الإعلان الدستوري المؤقت، والتي تنص  على ضمان الدولة حق اللجوء وفقًا للقانون، وحظر تسليم اللاجئين السياسيين. إلا أن الدولة الليبية إلى الآن لم تقر قانونا يحدّد أنواع المهاجرين، وما زال الأمر محصورا فيما جاء في القانون رقم 19 لعام 1987، والذي لا يميز بين المهاجرين، ويجرّمهم جميعا.

لم تصادق ليبيا على اتفاقية اللاجئين لعام 1951، ولا على البروتوكول الملحق بها، الأمر الذي يستخدمه العديد من المسؤولين كحجة لعدم وجوب التفرقة بين المهاجرين، ومعاملتهم وفقًا للمعايير الدولية، وذلك رغم أن ليبيا طرف في اتفاقيات مماثلة، تلزمها أن تكون جادّة في التعامل مع ملفّ الهجرة المختلطة، مثل اتفاقية الوحدة الأفريقية[4] عام 1969 بخصوص اللاجئين في أفريقيا، وبرتوكول 1976 الملحق بها، والتي وقعت ليبيا عليها في أبريل 1981، وتمّ إيداعها في يوليو من العام نفسه.[5] كما أن ليبيا طرف في اتفاقية دولية تخصّ البحث والإنقاذ البحرييْن عام 1979، والتي تلزم الدول الموقعة مساعدة أي شخص مهدد بالخطر في البحر بغض النظر عن جنسيته ووضعه، وتوفير المساعدات الطبية الأولية له وإيصاله إلى مكان اّمن.

منذ سقوط نظام القذافي في 2011 ونتيجة الانقسامات وتزايد وتيرة النزاع المسلّح، وبسبب الخلط الواضح بين مفهوم المهاجر واللاجئ وعدم التمييز بين أنواعهم، ورغم أن ملفّ الهجرة كان محلّ اهتمام وزارة الداخلية -على الأقل ظاهريًا- إلا أن التشكيلات المسلّحة هي التي سيطرت على ملفّ المهاجرين، من دون قانون يمثل مرجعية أو حصانة  لحقوق المهاجرين وطالبي اللجوء، وذلك حتى تاريخ إصدار القرار رقم (386) لسنة 2014 لمجلس الوزراء  بشأن إنشاء جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية، الذي يتمتع بالشخصية الاعتبارية والذمة المالية المستقلة، ويتبع وزارة الداخلية، ومقرّه في طرابلس، مع إمكانية إنشاء فروع له في المناطق التي تتطلب ذلك.

عهد لهذا الجهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية، بما في ذلك إعداد وتنفيذ الخطط الأمنية الاستراتيجية التي من شأنها الحدّ من ظاهرة الهجرة غير النظامية في ليبيا، ومكافحة جرائم تهريب الأشخاص والتسلل، وضبط المهاجرين غير “الشرعيين” ووضعهم في مراكز الإيواء. إلا أن هذه الأهداف ظلّت “حبرا على ورق” بخاصة بعدما رفض المسؤولون الاعتراف بحقّ اللاجئين الفارّين من جحيم الحروب من دارفور وسوريا والصومال وإثيوبيا، ووجهوا لهم جميعا تهمة الهجرة غير الشرعية.

يتبع هذا الجهاز أكثر من  24  مركزًا، منها المسخرة للاحتجاز وأخرى للتحرّي والقبض، تتوزع على طول الشريط الساحلي والجنوب الليبي، أما الشرق فتقلّ فيه المراكز، بخاصّة بعد اندلاع الحرب في بنغازي في 2014، حيث توجد مراكز احتجاز تتبع حكومة شرق ليبيا والتي توصف بأنها حكومة موازية وغير معترف بها دوليا. 

 ورغم تأكيد المجلس الانتقالي الليبي في الإعلان الدستوري المادة (10)[6]على حق اللجوء السياسي وعدم إرجاع أي لاجئ، إلا أنه حتى الآن لا توجد أي ترجمة حقيقية لهذا النص، فالكثير من المهاجرين المحتجزين في مراكز الاحتجاز تتوفر فيهم شروط اللجوء السياسي كما توثقه عديد الشهادات التي جمعتها منظمات حقوقية محلية، تمّ التعامل معهم باعتبارهم مهاجرين عاديين. وتعدّ مهمة حصر أماكن مراكز الاحتجاز الخاصة بالمهاجرين غير النظاميين في ليبيا مهمة شديدة التعقيد، وذلك بسبب انتشار التشكيلات المسلحة التي تعتمد على المهاجرين كمصدر للدخل، أو للعمالة قبل السماح لهم بالخروج، فضلا عن أن الانقسام والنزاعات في ليبيا جعل قضية احتجاز المهاجرين واستغلالهم في ذيل قائمة اهتمامات السلطات، ناهيك عن أن توالي الحكومات المتعاقبة أدى إلى صعوبة تحديد المسؤول عن مراكز الاحتجاز. فالحكومة تكلف وزارة الداخلية التي توكل بدورها الأمر لجهاز مستقل.

من داخل مركز احتجاز طريق السكة

مركز الاحتجاز في شرق ليبيا

في الغرب يفوق عدد مراكز الاحتجاز تلك الواقعة في الشرق  بحكم توفر بيئة ملائمة للهجرة من ذلك قرب   الشواطئ الإيطالية وتوفر المسارات البحرية. إلا أن الشرق الليبي لم يسلم من وجود عدد من مراكز الاحتجاز انطلاقا من مدينة طبرق بالقرب من الحدود المصرية الليبية إلى مدينة أجدابيا، أبرز المراكز الموجودة في الشرق الليبي غالبية  المحتجزين فيها هم من العمالة المصرية والسودانية والكثير منهم قدموا إلى ليبيا بغرض العمل وليس للهجرة عبر البحر. كما أن غالبية العمال المصريين دخلوا البلاد بتأشيرات مزوّرة مما يعرّضهم للاحتجاز والابتزاز من قبل عصابات  التهريب , عشرات الشهادات يتمّ توثيقها من قبل منظمات حقوقية ليبية تثبت الضرر الواقع على هؤلاء المهاجرين من قبل عديد الأطراف منها جهات حكومية تقوم باستخدام الكثير منهم في أعمال النظافة والبناء قبل عملية ترحيلهم . استمرّ هذا الوضع حتى عام 2019. وبعد فتح  خطوط طيران بين شرق ليبيا وسوريا، تنامتْ أعداد طالبي اللجوء الوافدين على الشرق بشكل ملفت. كما فتحت ممرات بحرية جديدة للخروج خصوصا من طبرق باتجاه اليونان وإيطاليا ومالطا.

ومع فتح مطار بنغازي، تكاثرت أعداد الوافدين من سوريا ولبنان وفلسطين وغيرها من الجنسيات وذلك في أعقاب إنشاء ما سمي بجهاز الاستثمار العسكري من قبل السلطات العسكرية في الشرق والذي أوكلت له مهمة إصدار تصاريح الدخول الى ليبيا بحجّة العمل. ثم سمح لمكاتب سياحية أن تصدر بدورها تصاريح السفر إلى ليبيا مقابل بعض المال والحصول على موافقة أمنية، تمنح بموجبها تأشيرة بثلاثة أشهر. وغالبية من دخلوا عبر هذا المنفذ كان مقصدهم العبور إلى أوروبا بما فيهم مئات الأطفال القصّر بدون مرافقين يقبع إلى اليوم العشرات منهم في سجون جهاز الهجرة.

طريق الكفرة إجدابيا ثم بنغازي

كان هذا الخط، منذ أكثر من 20عامًا، الطريق المفضل للمهربين. حيث يصل المهاجرون من الجنوب إلى بنغازي ويسلكون طريق الكفرة متّجهين إلى مدينة إجدابيا، على بعد 160 كيلومتر من مدينة بنغازي، حيث يتمّ ايداعهم مستودعات “المنطقة الصناعية”. ومن إجدابيا لمنطقة بني وليد، حيث يسهل التنقّل تجاه بنغازي أو المنطقة الوسطى وطرابلس. وقد أستمرّ العمل بهذا المسلك منذ 2011 وحتى أواخر 2014 حين انتقلت الحرب إلى مدينة إجدابيا. لكن ظلت منطقة بني وليد نقطة توزيع مهمة للمهاجرين القادمين من الجنوب أو من مصر.

الطريق الصحراوي طبرق

 رحلة تهريب المهاجرين من مصر إلى ليبيا تبدأ من منطقة سيوة في مصر، ثم لمنطقة الجغبوب جنوب غرب طبرق، ومنها إلى إجدابيا عبر الطريق الصحراوي شبه الخالي من نقاط التفتيش. يدفع المهاجر مقابل ذلك مبلغ 500 دولار أمريكي أو 1500 دينار ليبي. وبحسب شهادات مهاجرين مصريين، دفع بعضهم قرابة 7000 جنية مصري مقابل القدوم لليبيا عبر هذا الخط. ولازال هذا الخط يعمل، لكن بعد تعزيز مراقبة الجيش المصري لرصد تحركات مقاتلين في سيناء أو عمليات تهريب السلاح من ليبيا لمصر، أصبح التهريب على هذا الطريق صعبا.

شبكة قبيلة “أولاد على”

قبيلة “أولاد علىلها امتداد في الأراضي المصرية والليبية، وأغلب مهربيها في منطقة أمساعد لهم علاقات قويّة بضباط وجنود المنفذ البريّ ومطارات الإسكندرية وبنغازي ومطار الأبرق. ومنهم الشيخ صالح من مرسى مطروح، الذي تعامل معه الكثير من المصريين حتى أواخر 2016. وقد عبر العديد من المصريين من خلاله من مصر إلى طرابلس بالتنسيق مع ضباط مطار الأبرق أو من مطار الأبرق لطرابلس. وبشكل عام تعمل جميع خطوط التهريب من مصر إلى ليبيا عبر البر والجو، وتختلف وتيرتها من فترة إلى أخرى بحسب الأوضاع الأمنية والظروف المناخية. إذ أنّ تنسيق شبكات التهريب يزداد تطورًا وذكاءً خاصة بفعل تعزيز قدراتها على اختراق المنظومة الأمنية واستغلال ضعفها، وشراء الذمم بدفع الأموال.

طريق المهاجرين إلى صبراتة وزوارة

يعتبر الوصول إلى مدينة صبراتة ومدينة زوارة حلم كل مهاجر أراد عبور البحر متّجهًا إلى أوروبا. فزوارة التي تقع على شاطئ البحر، تبعد عن العاصمة طرابلس حوالي 120 كم غرباً. جميع الرحلات التي تأتي من الجنوب الليبي تمر عبر مدينة بني وليد ثم طرابلس. ومن طرابلس ينتقل المهاجرون حسب الظروف الأمنية – بشكل فردي بسيارات الأجرة العادية أو سيارة خاصة أو بشكل جماعي في شاحنات – عبر طرق مختلفة بعيدة عن أعين المجموعات المسلحة إلى صبراتة ومنها إلى زوارة.

أماكن تجمع المهاجرين

أماكن التجمّع ليست هي مراكز الاحتجاز وإن كانت لا تختلف عنها إلا في سريّة وجود الأولى وعلنية الثانية. فأماكن التجمع في الغالب عبارة عن مستودعات تقع وسط مزارع أو بيوت مهجورة تتركز معظمها في مدينة صبراتة، القريبة من البحر حيث نقاط انطلاق مراكب الهجرة. وفي بعض الأحيان، كان يتمّ تجميع المهاجرين في فنادق صغيرة قريبة من البحر بمدينة صبراتة، يتعاقد معها المهرب. لكن تراجع في الآونة الأخيرة اللجوء إليها بسبب التركيز عليها. كذلك توجد بيوت ومستودعات في منطقة قرقارش في العاصمة طرابلس كانت تستعمل لتجميع المهاجرين، حيث يتم نقلهم لاحقا إلى صبراتة عبر قوارب صغيرة تفاديا لرقابة رجال الأمن على الطريق البري. أما في المنطقة الوسطى فتوجد مخازن في مدينة إجدابيا وكذلك مدينة بني وليد يتمّ نقل المهاجرين منها إلى شواطئ غرب العاصمة طرابلس.

مسارات الهجرة غير النظامية وعلاقته بالمجموعات المسلحة

منذ بداية الحرب في ليبيا وبالتحديد أواخر 2011، أصبح لدى أغلب التشكيلات فصيل مسلح ومقر، يتم استغلال مجموعات من المهاجرين لبنائه، وتجهيزه، وتنظيفه، وتوسيعه. فبحسب شهادات موثقة أدلى بها سجناء أكدوا أن مهاجرين غير نظاميين اعتقلوا لشهور – وبعضهم لازال رهن الاعتقال – هم من قاموا ببناء السجن. وفي بنغازي وطرابلس والزاوية وورشفانة، توسعت العديد من السجون التي يقبع فيها بالخصوص مهاجرون أغلبهم وافدون من مصر والتشاد وسوريا. وكذلك الحال مع المهاجرين في طرابلس الذين قاموا ببناء سجون ومعتقلات تتبع الدولة الليبية والإشراف عليها. إلا أنه لم يثبت تورّط المهاجرين غير النظاميين في حمل السلاح والانضمام لصفوف المليشيات المسلحة على الأقل في الشريط الساحلي. أما في الجنوب الليبي، فتشير تقارير دولية، منها تقرير لجنة الخبراء الصادر في 2015،[7] إلى انخراط مجموعات تابعة للمعارضة التشادية و”العدالة والمساواة” ضمن صفوف قوات تابعة لعملية الكرامة في الشرق الليبي. كما ذكر التقرير أن ثمة مساعي من قبل مجموعات مسلحة تتبع “فجر ليبيا” لاستغلال المجموعات نفسها في القتال معهم، فضلاً عن رئيس بعثة الأمم المتحدة سابقا مارتن كوبلر الذي أعرب في تصريح له عن قلقه إزاء أخبار تؤكد مشاركة أجانب في القتال مع قوات الكرامة في الشرق الليبي، وكذلك تقرير لجنة الخبراء المعني بالسودان[8] المؤرخ في يناير 2017 أكد تورط المجموعات نفسها في القتال في ليبيا.

تورط الأجهزة الآمنة في ملف الهجرة غير النظامية

تعمل معظم الأجهزة الأمنية على ملف الهجرة لما فيه من مكاسب مادية وحتى سياسية، الأمر الذي يحول دون تحديد المسؤولية فيما بينها، فضلا عن تورّط أغلبها في استغلال وتشغيل المهاجرين والاستفادة منهم ليس في المقرات الحكومية فحسب، بل يصل الأمر لتشغيلهم في البيوت والمزارع والمصانع، بالإضافة لاستغلالهم على الصعيد السياسيي[1] . إذ أن ملفّ الهجرة أصبح ضمن ملفّات المساومة في الاتفاقيات السياسية، ولم يعدْ خفيا تورّط العديد من الأجهزة الأمنية – خصوصا المنوط بعهدتها القبض على المهاجرين، أو حراسة أماكن احتجازهم – في إخراجهم من هذه المراكز مقابل مبالغ مالية. بل وصل الأمر حدّ السماح لأفراد يدّعون أنهم ممثلو سفارات وقنصليات بزيارة أماكن احتجاز المهاجرين، لعقد صفقات تهريب. هذا بالإضافة إلى تقارير حقوقية وصحفية تحدثت عن تورّط أجهزة أمنية – ومنها أفراد من خفر السواحل – في تسهيل تهريب البشر وتقاضي أموال مقابل السماح لهم بالخروج، كما أن هناك تشكيلات مسلحة تتمركز على شواطئ غرب طرابلس بالقرب من مناطق انطلاق قوارب المهاجرين ثبت عبر العديد من شهادات المهاجرين ضلوعهم في عمليات التهريب بمقابل.

الأمر الذي يثبت على نحو واضح أنّ مديري مراكز الاحتجاز وبعض العاملين فيها، المكلفين من الحكومة، هم المسؤولون عن خروج المهاجرين عبر البحر، أو احتجازهم واعتراضهم في البحر في بعض الأحيان بهدف ابتزازهم. فقد ثبت، على سبيل المثال لا الحصر، أن مركز احتجاز شهداء النصر والذي تسيطر عليه عائلة “القصب” كان ولا زال يمارس الاحتجاز، ثم السماح بالمغادرة عبر البحر، ثم الاعتراض والاحتجاز من جديد للمهاجرين غير النظاميين.

الاستغلال الجنسي في مراكز احتجاز تتبع السلطات الليبية

ثمة نوعان من مراكز تجميع المهاجرين. الأولى يجمع فيها المهربون المهاجرين، استعدادًا لنقلهم إلى مقر ثانٍ ومرحلة أخرى من رحلتهم. وهي عبارة عن مستودعات أو بيوت مهجورة أو مزارع ومصانع قديمة، يتمّ في أغلب الأحيان نقل المهاجرين منها إلى مراكز تجميع أخرى في مدينتيْ زوارة وصبراتة، باعتبارهما أهمّ نقاط العبور إلى أوروبا. أما النوع الثاني، فهو مراكز احتجاز وإيواء. إذ وفي أحيان كثيرة، يتمّ القبض على المهاجرين أثناء مرورهم ببعض المدن أو خلال رحلتهم في البحر، حيث تجبرهم السلطات الأمنية على العودة إلى ليبيا، محتجزة إياهم في مراكز احتجاز تعرف بـ”مراكز الإيواء”.

ولا يختلف أحد في اعتبار أن مراكز التجميع خصوصا الواقعة في الجنوب الليبي في مدينة الكفرة وضواحيها ومدينة سبها تشهد العديد من الانتهاكات والاستغلال الجنسي للنساء، خاصة في حال تعذر عليهن دفع الأموال كي يصلن للساحل الليبي. أما مراكز الاحتجاز الواقعة تحت سيطرة الدولة ولو اسميًا، فإن مستوى الانتهاكات والاستغلال الجنسي فيها لم يصل لمستوى مراكز التجميع التي يشرف عليها مجرمون وعصابات.

هذا لا ينفي رصد العديد من وقائع الاستغلال الجنسي للمهاجرات في مراكز الاحتجاز التي تتبع الدولة الليبية بينها مركز احتجاز مدينة صرمان، غرب مدينة طرابلس والذي يضم أكثر من 200 سيدة مع أطفالهن. حيث أكدت العديد من المحتجزات أنهن يتعرضن للتحرش والاغتصاب من قبل حارس السجن الذي لا يتوانى عن دعوة رفاقه للحضور للمركز ومشاركته ابتزاز المحتجزات. وخلال زيارات ميدانية حقوقية لهذا المقر أكّدت المحتجزات وبشكل متواتر تعرضهن للتعذيب والاغتصاب من نفس الشخص. بعدها تمّ غلق المركز ونقل النساء إلى مدينة صبراتة، في انتظار انتهاء إجراءات العودة لبلدانهم، بعد تسجيل أسمائِهن في برنامج العودة الطوعية، تحت إشراف المنظمة الدولية للهجرة.

هذا بالإضافة إلى ما تؤكده الزيارات الميدانية، من أنه وعلى مدى ستّ سنوات، شهدت مراكز الاحتجاز التي تقع على الشريط الساحلي الليبي حالات اعتداء واستغلال جنسيّ فردية في كل المراكز تقريبا، ولكنها ارتفعت بشكل ملحوظ مؤخّرا لتصبح أشبه بنمط ثابت في مركزين على الأقل. إلا أن وعود السّلطات المحليّة بالتحقيق، لم تأتِ بأية نتائج.[9] 

تسود حالة من الإحباط اليوم الأوساط الحقوقية والقانونية التي ما فتئت تقدّم التوصيات للجهات المسؤولة من أجل تحسين أوضاع المهاجرين وطالبي اللجوء ودفاعا عن كرامتهم.أسباب عديدة تفسّر هذا الوضع لعلّ أهمّها استفادة الحكومات المتعاقبة والمجموعات المسلحة من ملفّ المهاجرين وطالبي اللجوء.

يبقى أن النساء والأطفال والرجال المرضى هم الفئات الأكثر هشاشة اليوم من بين المهاجرين وطالبي اللجوء الذين يشكلون أولى ضحايا العصابات المسلحة وفشل الحكومات المتعاقبة وغياب تضامن والمجتمع الليبي معهم.


[1] للمزيد راجع: https://drive.google.com/file/d/0Bz9sUHOxDRMOUzRfOEk5bndoUUU/view

[2] المهاجرون، واللاجئون، وطالبو اللجوء , تقرر هيومن رايتس  وواتش لعام 2023

[3] النصوص القانونية المتعلقة بالقطاع الأمني في ليبيا. قانون رقم 19 تجدونه على الرابط:

[4] اتفاقية الوحدة الأفريقية حول اللاجئين: http://www.pal-monitor.org/UpLoad/uploads/dce4f24c2c.pdf

[5] اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان http://www.achpr.org/ar/instruments/refugee-convention/ratification/

[6] نص الإعلان الدستوري تجدونه على: https://www.constituteproject.org/constitution/Libya_2012.pdf?lang=ar

[7] للإطلاع على تقرير فريق الخبراء الصادر في 2015، راجع: https://issuu.com/sawyelsawy2/docs/1736376

[8] للاطلاع على تقرير فريق الخبراء المعني بالسودان، راجع: https://reliefweb.int/sites/reliefweb.int/files/resources/N1700564.pdf

[9] الجنس مقابل الغذاء تقرير منظمة العفو الدولية


انشر المقال

متوفر من خلال:

لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، مقالات ، ليبيا



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني