“
في انتظار تحديد موعد الدورة الثانية من الإنتخابات الرئاسيّة السابقة لأوانها، ما يزال الشارع التونسيّ يعيش على وقع نتيجة التصويت التي حصرت المنافسة بين أستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد وصاحب الأعمال ومالك قناة نسمة نبيل القروي الموقوف حاليّا في سجن المرناقيّة بالعاصمة تونس. حصيلة الدورة الأولى من السباق إلى قرطاج سلّطت الضوء على تبعثر المشهد السياسيّ وتوازناته المعهودة وفتحت فصلا جديدا للإصطفاف وراء كلا المرشّحيْن لرئاسة تونس في السنوات الخمس القادمة. إلاّ أنّ عمليّة الإصطفاف التّي تشهدها الساحة السياسيّة لا تبدو بنفس القدر من الأريحيّة بالنسبة للمعسكريْن. فبينما وجدت بعض الأحزاب الصغيرة والمتوسطة والشخصيات المستقلة مكانا لها في شعارات قيس سعيّد وخطه الداعي إلى إستكمال المسار الثوري وإعادة طرح الشعارات الكبرى ل14 جانفي 2011 على غرار مسألة السيادة وطبيعة منظومة الحكم وملفّ الثروات الطبيعية، ما تزال شظايا ما يُسمى “بالعائلة الوسطية الحداثية الديمقراطية” تتردّد في الاصطفاف وراء نبيل القروي القابع في السجن حاليا بتهم تتعلق بالفساد والتهرب الضريبي وترى فيه خيارا صعب البلْع. من جهة أخرى يبدو الباب مشرعا أمام موجة جديدة من المستقلين الذين افتكوا نصيبا مهما في الانتخابات البلدية الفارطة ويتهيؤون ليكونوا إحدى القوى المؤثرة في المشهد السياسي لاحقا خصوصا بعد النتائج التي حققها المترشح المستقل للانتخابات الرئاسية قيس سعيد.
فسيفساء حزبيّة تتجمّع تحت ظلّ قيس سعيّد
- الأحزاب تتهيأ لتشكيل حزام برلماني حامٍ لقيس سعيّد
لم تكد تمضي ساعات قليلة على إعلان نتيجة الدورة الأولى للإنتخابات الرئاسيّة السابقة لأوانها في 15 سبتمبر 2019، حتّى حسم عدد من الأحزاب موقفه وموقعه من المترشّحيْن إلى الدورة الثانية. أستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد الذي وجد نفسه في صدارة المتنافسين على المرور إلى الدور الثاني من السباق إلى قصر قرطاج، لن يكون وحيدا في المرحلة القادمة بعدما جمع حوله فسيفساء حزبيّة مهمّة وعددا من المستقلّين، الذين طرحواأنفسهم رافعة إضافيّة في باقي الطريق إلى منصب الرئاسة وحزاما برلمانيا حاميا له في الانتخابات التشريعيّة المُنتظرة في 06 أكتوبر 2019.
الصفّ الطويل الذي تكوّن وراء قيس سعيّد تصدّرته الأحزاب التي أصدرت مواقفها النهائيّة تباعا في 18 سبتمبر الجاري، على غرار حزب التيار الديمقراطي الذي غادر مرشّحه للانتخابات الرئاسيّة محمد عبّو السباق في الدورة الأولى. حيث دعا التونسيين إلى التصويت لقيس سعيّد على ضوء الخيارات المطروحة في الدور الثاني، مؤكّدا مواصلته الدفاع عن قيمه وتوجهاته واحترام الدستور وعلويّته، والدفاع عن الحريات العامة وحقوق كل التونسيين، والنضال من أجل كسب ثقتهم وتحقيق نتائج أفضل في الانتخابات التشريعية”، بحسب البيان الصادر عن المكتب السياسي للحزب. موقف تماهى معه المكتب السياسي للحزب الجمهوري، الذي سارع إلى عقد دورة استثنائية أسفرت عن إصدار بيان تضمّن دعوة الناخبين إلى التصويت لفائدة المترشح قيس سعيّد في الدورة الثانية “انتصارا لإعادة الاعتبار للعمل السياسي ولمصداقية مؤسسات الدولة والطرح الجاد للإصلاحات الملحّة التي تنتظرها تونس”.أمّا حركة الشعبالتي دعمت في الدورة الأولى المرشّح المستقلّ صافي سعيد، فأعلنت عن دعمها لقيس سعيّد في الدور الثّاني موجّهة خطابها إلى ما أسمته في بيانها “كل المجموعات الشبابيّة والقوى المؤمنة بقيم الثّورة والتّغيير، وبمحاربة الإرهاب والتّكفير والإقصاء والولاء للأجنبي” إلىالإلتفاف حول هذا الخيار. تواتر بيانات التأييد الحزبيّة التي تتالت في ذلك اليوم ليلتحق بالقائمة محمد لطفي المرايحي، مرشّح حزب الاتحاد الشعبي الجمهوري، الذي حلّ سابعا في ترتيب نتائج الدورة الأولى بنسبة 6.7% من أصوات الناخبين، مُعلنا انحيازه “للشق القاطع مع المنظومة ورموز فشلها” ومعبّرا عن “مساندته الصّريحة للأستاذ قيس سعيّد” بحسب البلاغ الصادر عن الأمانة العامة للحزب. هذا ولم يتخلّف حراك تونس الإرادةوحزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة؛ حزبا الرئيس التونسي الأسبق محمد المنصف المرزوقي عن إعلان “دعمهما الكامل” لقيس سعيّد في الدور الثاني داعيين الناخبين و”كل الأحزاب الوطنية ومكونات المجتمع المدني المنحازة لاستحقاقات الثورة وكل التونسيين المتطلعين إلى تغيير حقيقي بالبلاد إلى التصويت لفائدته”. كما أعلن حزب تيار المحبة، في بيان له، عن مساندته لقيس سعيّد فيما تبقى من السباق إلى القصر الرئاسيّ لقطع الطريق على ما أسماه بـ”أذيال الدكتاتورية ووجوه النظام الظالم”.
رغم فشل عبد الفتّاح مورو، مرشّح حركة النهضة في المرور إلى الدورة الثانية للإنتخابات الرئاسيّة بحلوله في المرتبة الثالثة بنسبة تقارب 13%، إلاّ أنّ عددا من قيادات الحركة سارعوافي غضون يومين من نشر النتائج الرسميّة إلى إعلان تأييدهم لقيس سعيّد على حساباتهم الشخصيّة في مواقع التوصل الإجتماعي. القائمة شملت الناطق الرسمي باسم الحركة عماد الخميري، ووزير الصحة السابق في عهد الترويكا عبد اللطيف المكي وعضو مجلس الشورى عامر العريّض. إلاّ أنّ رئيس حركة النهضة راشد الغنّوشي انتظر حتى يوم الجمعة 20 سبتمبر 2019، ليكشف موقفه الحذر من فوز قيس سعيّد ، حيث صرّح في إحدى الإذاعات الخاصّة أنّ الحركة وأمام الخيارات الموجودة بخصوص المترشحيّن للدور الثاني من الانتخابات الرئاسية ستناصر أستاذ القانون الدستوريّ الذي يُعتبر الأقرب إلى الثورة رغم عدم انتمائه لها. موجة التأييد الفردي انتهت بإعلان مجلس شورى حركة النهضة المنعقد في 24 سبتمبر 2019، “مساندة الأستاذ قيس سعيد في الدور الثاني للإنتخابات الرئاسية ودعوة عموم الناخبين إلى التصويت له”.
تأخّر الحركة في الكشف عن موقفها من قيس سعيّد، جاء كردّة فعل بدت طبيعيّة على ما اعتبره الكثيرون انتكاسة للحركة التي تآكلت كتلتها الإنتخابيّة من مليون ونصف المليون ناخب سنة 2011 إلى 947 ألف خلال الانتخابات الرئاسية والتشريعية سنة 2014 وأخيرا 434 ألف ممن صوّتوا للشيخ عبد الفتّاح مورو في الدور الأوّل للإنتخابات الرئاسيّة سنة 2019. وتكشف هذه الإحصائيّات الصادرة عن الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات عن خسارة حركّة النهضة لنصف مليون ناخب في كلّ محطّة إنتخابيّة. إنحسار يبدو مفهوما في ظلّ فشل حكومات الترويكا في معالجة الملفات الإقتصاديّة والإجتماعيّة بعد إنتخابات أكتوبر 2011 إضافةإلى ارتباط تلك الحقبة في أذهان التونسيّين بتصاعد الهجمات الإرهابيّة وعمليات الإغتيال. أمّا مرحلة التوافق بين حزبي نداء تونس وحركة النهضة بعد الإنتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة سنة 2014، فكانت العامل الثاني في خسارة الحركة الإسلاميّة للمزيد من مناصريها أمام ما اعتُبر مسايرة عمياء لخيارات حزب نداء تونس الإقتصاديّة والسياسيّة على غرار قوانين الماليّة المتتالية وتصويت نوّاب حركة النهضة في البرلمان على قانون المصالحة الإداريّة. إنكماش القاعدة الإنتخابية لحركة النهضة لم ينبع فقط من انخراطها في سياسة التوافق، بل كان لتنامي الدعوات بضرورة خوض مراجعات فكرية حقيقية وإعادة النظر في الخط السياسي للحركة وصولا إلى إقرار المؤتمر العاشر للحركة في 20 جوان 2016 الذي فصل العمل الدعوي عن السياسي، دور حاسم في فضّ المحافظين من حولها. هذا وقد تكون تصريحات رئيس الحركة بخصوص عدد من القضايا المحسومة بالنسبة لقواعدها قد صدمت الكثيرين من مريديها ومؤيديها.
- المستقلّون يصطفّون خلف مثالهم الناجح
موجة الإصطفاف وراء صاحب الصدارة في نتائج الدورة الأولى للانتخابات الرئاسيّة لم تقتصر على الأحزاب، فعباءة المرشّح المستقّل قيس سعيّد كان بها متّسع لعدد من المستقلّين الذين شاركوا في الانتخابات الرئاسيّة أو ممن يستعدّون لخوض غمار الانتخابات التشريعيّة المقبلة في 06 أكتوبر 2019. حيثأعلن الصافي سعيد الذي خاض السباق نحو قصر قرطاج بصفته مستقّلا،في تسجيل مصوّر دعمه المطلق لأستاذ القانون الدستوريّ قائلا؛”سأدعمه (قيس سعيّد) وأقدم له ما يمكن من الأفكار والحضور وأي شيء يُطلب مني في سبيل إنجاح خيار الشعب”. مضيفا: “الشعب تحرّر من انتخابات الخوف والتخويف لسنة 2014، وتسلّح بالوعي وعاد إلى المبادئ الأولى للثورة”. دعم سيكون له تأثيره الملحوظمن صاحب المرتبة السادسة في الإنتخابات الأخيرة والذي تحصّل على 7.11% من أصوات الناخبين. كما أكّد كلّ منائتلاف الكرامة، الذي يقوده المترشح الرئاسي في الدور الأول سيف الدّين مخلوف،وقائمات أمل وعمل المستقلّة والتي يقودها النائب ياسين العياري دعمهما لقيس سعيّد في مواجهة نبيل القروي في الدور الثاني. هذا ولم يشذّالمترشح المستقلّ في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسيّةوالقياديّ السابق في حركة النهضة، حمادي الجباليعن التوجّه العام للمستقلّين، ليعلن هو الآخر مساندته قيس سعيّد.
نبيل القروي: خيار بطعم العلقم أمام”العائلة الحداثية الديمقراطيّة”
ظهر مصطلح “العائلة الحداثية الوسطيّة الديمقراطيّة” للمرّة الأولى في مواجهة الترويكا الحاكمة وسيطرة الإسلاميّين وحلفائهم على المشهد السياسيّ عقب إنتخابات المجلس الوطني التأسيسي في أكتوبر 2011. ليتعزّز إستخدامه إبّان بلورة المشروع الحزبيّ للرئيس الراحل الباجي قائد السبسي الذي انتهى إلى تأسيس حزب نداء تونس في جوان 2012. لكنّ هذا العنوان السياسيّ عاد ليطفو على السطح من جديد بعد نتائج الدورة الأولى للإنتخابات الرئاسيّة في 15 سبتمبر 2019 في مواجهة صعود قيس سعيّد الذي وجد نفسه محاصرا باتهامات الولاء والإنتماء للتيّار السلفي واستقطاب المحافظين في مقابل هزيمة من يُعتبرون رموزا للعائلة الوسطية الديمقراطية. معسكريتكوّن في أغلبهممن يعلنون اليوم انتماءهم إلى المدرسة الدستورية، وكان لهم النصيب الأكبر في الترشّح إلى الانتخابات الرئاسيّة ليصل عددهم إلى تسعة، وهم كلّ من رئيس الحكومة المفوض لصلاحيّاته يوسف الشاهد، ووزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي، ووزيري الصحة والتربية السابقين سعيد العايدي وناجي جلول، يضاف إليهم كل من رئيس حزب البديل مهدي جمعة، وحزب مشروع تونس محسن مرزوق، ومستشارة رئيس الجمهورية السابق سلمى اللومي، ورئيسة الحزب الحر الدستوري عبير موسي وأخيرا نبيل القروي المنافس الذي نجح في المرور إلى الدور الثاني في السباق إلى رئاسة الجمهوريّة.
هذه العائلة، التي مزّقتها الصراعات والتجاذبات خلال السنوات الخمس الفارطة، تجد نفسها أمام خيار مرّ، ألا وهو دعم نبيل القروي. فهذا الأخير الذي كان أحد مؤسّسي حزب نداء تونس والمساهمين في تشكيل صورة الباجي قائد السبسي في رحلته نحو قصر قرطاج سنة 2014، سرعان ما انخرط في صراع “الإخوة الأعداء” بعد إلتحاقه بالهيئة التأسيسيّة للحزب في مارس 2015. ليلعب دورا مهمّا في معركة كسر العظام بين معسكر نجل الرئيس ومعسكر محسن مرزوق عبر تسخير قناته لضرب هذا الأخير. مجهودات لم تمرّ دون مكافأة، ليرتقي القروي صلب هياكل حزب نداء تونس وينال عضويّة الهيئة السياسيّة في جانفي 2016. لم يطل الوقت لتبدأ معركة جديدة بين مالك قناة نسمة وحافظ قائد السبسي، لتبلغ الأزمة بينهما أشدّها مع تقديم نبيل القروي استقالته النهائيّة من الحزب في 5أفريل 2017، معللاً في بيان الاستقالة بأنّ مسار «النداء» صار يتعارض مع قناعاته ورؤيته، إضافة إلى «الطابع الاستبدادي» لنجل الرئيس في تسيير الحزب. لكنّ شعرة معاوية بين الرجلين لم تنقطع، ليخوض القروي حربا بالوكالة ضدّ يوسف الشاهد الذي تفاقمت نزاعاته مع نجل الرئيس تزامنا مع إعلانه الحرب على الفساد، والتي جعلت نبيل القروي يتحسّس رأسه مع تتالي توجيه تهم مباشرة إليه بالفساد والتهرّب الجبائي. ورقة استخدمها يوسف الشاهد جيّدا لتغييب خصمه قبيل الحملة الإنتخابيّة والذي تم إيقافه في 23 أوت الفارط والإحتفاظ به حتّى هذه اللحظة.
توسّع جبهات الحروب التي خاضها نبيل القروي ضدّ الكلّ تقريبا، وسمعته السيّئة التي تصفه برجل العصابات في الشارع التونسيّ، إضافة إلى التسريبات الصوتية المتتالية لمحادثاته الخاصّة والتي عكست مستوى متدنّيا على الصعيد الأخلاقيّ، جعلت مختلف رموز هذه العائلة متردّدة حتّى هذه اللحظة في الإعلان بصريح العبارة عن دعمها لصديق الأمس في مواجهة عدوّ يعتبرونه مشتركا مكتفية ببعض الدعوات لإطلاق سراحه تحت ذريعة ضمان تكافؤ الفرص فيما تبقى من السباق نحو قصر قرطاج، عداحزب البديل الذي أسّسه مهدي جمعة والذي حسم موقفه بالحياد. غير أنّ الأمتار الأخيرة من الاستحقاق الإنتخابيّ، ونتائج الإنتخابات التشريعيّة بما ستحمله من آفاق وفرضيات لتشكيل التحالفات، قد تغيّر مواقف الجميع وتصنع اتفاق الدقائق الأخيرة لمصلحة نبيل القروي أو ضدّه.
لكن تبقى السمة الأبرز للمحطّة الإنتخابيّة الأولى صعود المستقلّين الذين وجدوا في أستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد مثالا ناجحا وبرهانا على قدرة القائمات والأسماء المستقّلة على الظفر بمكان في المشهد السياسيّ وهزيمة القائمات الحزبيّة المدعومة من حواضنها التنظيميّة. هؤلاء سيكونون حاضرين بقوّة في الإنتخابات التشريعيّة المقبلة ضمن 707 قائمة مستقلّة في مقابل 695 قائمة حزبية و190 ائتلافية. ولعلّ نتيجة الإنتخابات البلديّة سنة 2018 التي تصدّرتها القوائم المستقلة ب32.9% والتي تتقارب مع مجموع نتائج المترشحين المستقلين للانتخابات الرئاسية البالغة 31.7% (قيس سعيد والصافي سعيد وسيف الدين مخلوف)، قد تنذر بملامح المشهد السياسيّ القادم الذي سيكون عنوانهالأهمّ الإنعتاق من الأطر الكلاسيكيّة للتنظّم السياسيّ.
“