
في منتصف ليلة الاثنين 24 فيفري، أصدرت وزارة الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج بيانا للردّ على تصريح المفوض السامي لحقوق الإنسان حول الوضع الحقوقي في تونس. هذا الرد المتأخر بأسبوع عن ما قاله المفوّض السامي، قوبل بموجة حادّة من السخرية والانتقاد إعلاميا وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، وبشكل لم يصل إلى هذه الدرجة من الجرأة تجاه عدد من بيانات مؤسسات الدولة منذ فترة. ولم يُخطأ جلّ من إطلع على البيان ملاحظة “السمت” (الطابع) الرئاسي عليه شكلا ومضمونا، بدءًا من توقيت نشره المتزامن عادة مع البيانات الصادرة عن صفحة رئاسة الجمهورية، مرورا بلغته التي حملت شحنًا سياسيًّا حادًّا، وفي تعارض مع أصول الخطاب الدبلوماسي. ومما أذكى الاستغراب من هذا البيان أن الفرصة كانت متاحة للخارجية التونسية كي تقدّم وجهة نظرها من خلال كلمة وزير الشؤون الخارجية من دون الحاجة إلى تدبيج مثل هذا الموقف. إذ يبدو أن البيان قد صيغ على عجل باللغة العربية، ثم نُقل في ما بعد للغتين الفرنسية والإنجليزية، بعدما عمّ التساؤل عن عدم ظهور البيان باللغتين منذ البدء، والحال أن هذا البيان موجّه في الأصل للأوساط الدولية.
وبعد تواتر عدد من حالات الإفراج عن عددٍ من الموقوفين والمساجين خلال الأيام الأخيرة، ومن بينهم سهام بن سدرين ومحمد بوغلاب، في ما تأمّل فيه البعض نوعا من الانفراجة في صلب السياسة القمعية، أتى البيان ليُعبّر عن روح الممارسات الرّاسخة للسلطة في إدارة الفضاء السياسي، مُستحضرًا شحنةً معتادة من الخطاب السيادويّ للتجييش الداخلي، والقيام بإحالة على الصمت العالميّ عمّا يحدث في فلسطين، في محاولة للتهرّب من جدّية الاتهامات الموجهة للسلطة حول الوضع الحقوقي في تونس.
السياق: حملة حقوقية متواصلة وراء البيان
يوم 24 فيفري، أي في نفس اليوم الذي تم فيه إصدار البيان، أعلنت بعض منظمات المجتمع المدني عن حملة دولية للمطالبة ب”إطلاق المساجين السياسيين والصحفيين والمدوّنين القابعين في السجون التونسية على إثر أحكام قضائية افتقدت مقومات المحاكمة العادلة”، وذلك بالتزامن مع انطلاق الدورة 58 لمجلس حقوق الإنسان في جنيف. وقد شارك في هذه الحملة أكثر من 50 منظمة حقوقية بهدف مزيد إحاطة الرأي العام الدولي والمنتظم الحقوقي ب “المجازر القضائية التي استهدفت العشرات من الصف الأول المعارض لسلطة الأمر الواقع في تونس” (مأخوذة حرفيا من نص الإعلان). ومن أهداف هذه الحملة حسبما جاء في نصّ الإعلان عنها، التعريف بالأوضاع الحياتية الصعبة للمساجين السياسيّين وفضح التصفية السياسية التي تستهدفهم، والتعريف بالمضايقات التي تستهدف عائلاتهم. كما تسعى الحملة إلى التشبيك بشكل فعّال بين المنظّمات الحقوقيّة المهتمّة بأوضاع المساجين السياسيّين في تونس وتقوية مجالات التنسيق في ما بينها ونشر وتوزيع مضامين الحملة الدولية من معلّقات وفيديوات وتفعيل الحضور في وسائل التواصل الاجتماعي والفضائيات الدولية.
ومن الواضح أن هذه الحملة الدولية كانت من بين أهم الأسباب التي عجّلت بإصدار بيان الخارجية وتُفسر كذلك جانبا من اللغة المتشنّجة والدفاعية التي ظهر بها. إضافة إلى السبب الرئيسي المعلن، المتمثل في دعوة مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان السلطات التونسية إلى وقف جميع أشكال الاضطهاد ضدّ المعارضين السياسيين، وإلى احترام الحق في حرية الرأي والتعبير والإفراج الفوري لأسباب إنسانية عمن هم في سن متقدمة وعن الذين يُعانون من مشاكل صحية كما ورد في بيان للمفوضية نُشر في 18 فيفري. وقد ذكّر المتحدث باسم مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان “ثمين الخيطان” في نفس البيان بحثّ تونس على إعادة النظر في تشريعاتها الجنائية وضمان توافقها مع قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان ومعاييره، ووجوب ضمان المحاكمة العادلة. هذا التذكير الأخير نجد ردّا له في بيان وزارة الشؤون الخارجية، وبخطاب مغرق في الاختزال السيادوي ب “أن تونس ليست في حاجة إلى تأكيد حرصها على حماية حقوق الإنسان إيمانا عميقا منها بهذه الحقوق، فضلا عن التزامها بما نصّ عليه دستورها وبما أقرّته قوانينها الوطنية”، مع التغاضي عن مقررات القانون الدوليّ الذي تمّ الاكتفاء بإشارة عامّة حوله عبر الإقرار المُحتشم ب “ما التزمت به (تونس) على الصعيد الدوليّ في المستويين الإقليمي والعالمي”، دون التوسّع في طرح طبيعة هذه الالتزامات ومدى جدية الدولة نفسها في تطبيقها.
صدى الداخلية في بيان الخارجية
من جهة أخرى، تحمّس البيان في الدفاع عن المؤسسة الأمنية والتبرير لممارساتها حيث صرّح من باب الاستطراد بأنه “من المُفيد التذكير بأن قوات الأمن التونسي تتولّى حين تنظم مظاهرات، لا ملاحقة المتظاهرين، بل تقوم بتأمينهم وحمايتهم وتوفر لعدد من الأشخاص المعارضين حماية خاصة حتى لا يتعرضوا لأيّ اعتداء”. هذا الإقرار يصطدم ببعض الشهادات عن تجاوزات أمنية حصلت في عدد من المظاهرات، والمفارقة هنا أن هذا التصريح يأتي على إثر الذكرى الثالثة تحديدا من وفاة الناشط في حركة النهضة رضا بوزيان يوم 19 جانفي 2022 الذي شارك في مظاهرات 14 جانفي 2022. حيث حمّلت حركة النهضة في بيان نعيه مسؤولية وفاته إلى الأمن التونسي، مشيرة إلى أنه قد توُفي “متأثرا بإصابته بعد تعرضه للعنف الشديد من طرف أعوان الأمن أثناء مشاركته في تظاهرة الاحتفال بعيد الثورة…مما انجرّ عنه نزيف حاد في الدماغ”، مُضيفة أن السلطات قد “تعمدت إخفاء وضعيته عن أهله” حيث “لم تعلمهم طيلة 5 أيام قضاها الشهيد في قسم الإنعاش بمستشفى الحبيب ثامر” حسب نفس البيان. ولم يقتصر الدفاع عن المؤسسة الأمنية ضمن بيان الخارجية التونسية على الإشادة ب “دورها” في حماية المظاهرات، بل تعدّاه في مستوى آخر إلى التبنّي الرسمي لبعض التصريحات القديمة المنسوبة لجهة نقابية أمنية دون البت في مدى صحتها أو وجاهتها، حيث تمت الإشارة إلى أن هناك من أعدّ مائة ألف انتحاري للقيام بعمليات إرهابية دون وجود سند واقعي حول الموضوع. بل يبدو هذا الإقرار إعادة لمحتوى تصريح أدلى به الكاتب العام المساعد لنقابة الأمن الجمهوري (حينذاك) وليد زروق في سنة 2013، في نقاش سابق له مع وزير العدل الأسبق نور الدين البحيري دون التثبّت من مدى صحة الرواية. كما زجّ البيان بشكل مفتعل ببعض القضايا الإرهابية مثل زرع الألغام وذبح الجنود محاولا ربطها بعدد من القضايا الأخرى ذات الطابع السياسي بشكل غير مباشر.
وفي مستوى لا يقل خطورة، توجّه البيان إلى تبني صيغة الحسم في قضايا ما زالت معروضة أمام القضاء مع ادّعائه في نفس الوقت ب “عدم تدخّل أيّ جهة غير قضائية في ما يتّخذه القضاة من إجراءات في إطار تطبيق القانون الذي يفرض توفير كل الضمانات القضائية من معاملة لا تمس بالكرامة الإنسانية ومن حق الدفاع”. وهي تصريحات يناقضها كشف رئيس الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب فتحي الجراي عن ارتفاع عدد المساجين بنسبة 50% بين سنتي 2021 و2024 وما تدلّ عليه من سياسة واضحة في تغليب العقوبات السجنية واستسهال الالتجاء إليها، يُضاف إلى ذلك تفاقم حالات الإيقاف التحفظي خلال نفس هذه الفترة كما تُشير إليها بعض الأرقام من الرابطة التونسية لحقوق الإنسان التي تقدر نسبة حالات الإيقاف التحفظي ب 60% من المودعين في السجون.
في المحصلة، جاءت لغة البيان المشحونة والمرتبِكة لتؤكّد كل ما كانت حريصة على نفيه ولتُصدّر نفس طريقة الخطاب الداخلي إلى المجال الدولي دونما ارتباط بنواميس الخطاب الدبلوماسي الذي يُفترض فيه الدقّة والوضوح. ويأتي هذا البيان استباقًا لأولى جلسات قضية ما يُعرف ب “التآمر على أمن الدولة” يوم الرابع من مارس وما سترشح عنه من نقاشات وردود فعل على المستويين الوطني والدولي.
متوفر من خلال: