تكاد تمرّ سنتان على رحيل الناشطة الحقوقية والمدونة التونسية لينا بن مهني، وقد مرّت أكثر من سبع سنوات على وقوع الاعتداء الأمني عليها من دون أن تُكمل العدالة دورتها بعد. يوم الخميس 11 نوفمبر المنقضي، نظرت المحكمة الابتدائية بمدنين مجددا في قضية الاعتداء الأمني عليها، حيث ما زالتْ عائلة لينا وعدد من المنظمات الحقوقية المحلية والدولية تطالب بتحقيق العدالة ومحاسبة الجناة. رحلتْ لينا جسدا، ولكن معركتها ضدّ العنف البوليسي وسوء المعاملة والتعذيب ما تزال مستمرّة.
وكانت الدائرة الجناحية بالمحكمة الابتدائية بمدنين قضتْ في أواخر جون 2020 بإدانة عوني الأمن المُتّهمين غيابيا بسنة سجنا، وبالمليم الرمزي بتعويض معنوي و500 د تكاليف مقاضاة. وبخصوص هذه الإدانة لاحظت كل من المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب وجمعية لينا بن مهني، في بيان مشترك أنه “بعد ما يقارب ست سنوات من الأحداث، تم نظريًا تحقيق العدالة. نظرياً فقط لأن المتهمين أفلتا من المحاكمة وأدينَا غيابياً معتبريْن في حالة فرار في حين أنهما في الواقع ما زالا يعيشان وكأن شيئًا لم يحدث، كما لو أنه لم تتمّ إدانتهما بتهمة إساءة استخدام منصبهما كأمنيين، واعتدائهما على مواطنة تونسية”. ودعا البيان ذاته إلى “ضمان تحقيق العدالة بشكل فعّال للينا وعائلتها والعمل على تقديم المتهمين أمام العدالة بكل الأشكال، وأن يتم إيقافهم عن العمل في انتظار صدور قرار قضائي نهائي”.
يُذكر أن المتّهمَين تمت إحالتهم وفقا للفصل 101 من المجلة الجزائية، الذي يشير إلى أنه “يُعاقب بالسجن مدة خمسة أعوام وبخطية قدرها مائة وعشرون دينار الموظف العمومي أو شبَهَه الذي يرتكب بنفسه أو بواسطة الاعتداء بالعنف دون موجب على الناس حال مباشرته لوظيفته أو بمناسبة مباشرتها”.
ملامح الإفلات من العقاب
منذ أول سبتمبر 2014، تاريخ بداية فتح الأبحاث في واقعة الاعتداء على الراحلة لينا بن مهني، شهد مسار القضية الكثير من التعقيدات. في هذا السياق، أفاد المحامي مهدي بن حمودة لموقع المفكرة القانونية: “أذنت النيابة بفتح بحث تحقيقيّ عند مكتب التحقيق الأول، وأول الأمر وقع حفظ التهم بحجة عدم وجود متهم في القضية. ولكن تمّ استئناف هذا الحكم وقامتْ دائرة الاتهام بإرجاع الملف إلى قاضي التحقيق لاستكمال الأبحاث. وبعدها ارتأت إدانة عونيْ الأمن المتّهميْن طبقا للفصل 101 من المجلة الجزائية. وأحالت الملف على الدائرة الجناحية بالمحكمة الابتدائية بمدنين، التي أصدرت في سنة 2020 حكما غيابيا بالسجن لمدة سنة ضد المتّهَمَين، وبالمليم الرمزي بتعويض معنوي و500 د تكاليف مقاضاة. وهذا الحكم تمّ الاعتراض عليه من قبل المتّهمين. ومن المنتظر أن تتمّ المفاوضة والتصريح بالحكم يوم 02 ديسمبر المقبل”.
وأضاف بن حمودة قائلا: “ما زلنا نأمل حسن تطبيق القانون خاصة وأن التهم ثابتة ضد الجناة. وقد تعرّض المتّهمان إلى إجراءات تأديبية داخلية، من خلال سحب صفة الضابطة العدلية منهما ونقلهما إلى خطط وظيفية أخرى. ولم ينفِ تقرير التفقدية التابعة لوزارة الداخلية وجود سوء المعاملة الأمنية ضد الراحلة لينا بن مهني”.
تشكل قضية لينا بن مهنّي ملمحا للإفلات من العقاب في القضايا التي يكون فيها أعوان الأمن طرفا في الاعتداء. إذ ما زال عونا الأمن يواصلان مهامهما في السلك الأمني، رغم صدور حكم بالإدانة ضدهما. ولم يتم إلى حد الآن إيقافهما. وكغيرها من القضايا المماثلة حاول المتهمان التلاعب بالوقائع من خلال توجيه تهمة “هضم جانب موظف عمومي والاعتداء عليه بالقول والفعل” ضدّ الراحلة لينا بن مهني. ولكن قاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية بمدنين قام بحفظ التهم في القضية المذكورة.
لينا بن مهني: صوت لم يستطيعوا إسكاته
يوم السبت 30 أوت 2014، تاريخ الواقعة. كانت لينا بن مهني عائدة إلى مسقط رأسها بجزيرة جربة من أجل قضاء إجازة مرضية إثر عملية زرع كلا. ولم يكن في حسبانها أنها ستكون ضحية عنف بوليسي سافر، خاصة وأنها تخضع في تلك الفترة إلى نظام حماية أمنية خاصة، إثر تهديدات بالتصفية الجسدية طالتْها بعيد اغتيال القيادي في الجبهة الشعبية محمد البراهمي في 25 جويلية 2013.
قبل أكثر من سبع سنوات من الآن، هكذا أرادت الراحلة لينا بن مهني سرد الوقائع، قائلة:
“خرجت للتو من مركز الاستمرار بحومة السوق ووجب توضيح بعض النقاط حتى لا تتعدد الروايات. أنا متواجدة بجزيرة جربة منذ يومين وقد تحوّل معي مرافق أمني كما جرت عليه العادة وهذا المساء كنا قد خرجنا، وفي الطريق تحولنا الى منطقة الأمن بجربة لأسباب أمنية. وعند وصولنا، تركنا السيارة أمام المنطقة حتى أكون على مرأى الأمنيين المتواجدين أمامها. ودخل المُرافق بعد أن أعلم بذلك. وبقيت هناك لمدة 15 دقيقة ثم نزلت بعدما شعرتُ بالحرارة. وبعد قرابة الـ5 دقائق، توجّه إليّ أحد الأمنيين المتواجدين بالكلام سائلا عن صاحب السيارة فأجبته بأنني صاحبتها وأنني تحت الحماية الأمنية وأن مرافقي بالداخل. فتوجه إليّ ثانية بلهجة أكثر حدة وقال “شمعناها مرافقة أمنية”، “تي واشكونك أنت” (من أنت؟). ففسرت معنى مرافقة أمنية وفسرت أنني مهددة بالقتل وقد وُفِّرت لي حماية فواصل بنفس النبرة.
وقد التحق به زملاء آخرون وبدأوا بشتمي ودفعي والتحق بهم أعوان بالزيّ المدني وتطوّرت الأمور وخرج مرافقي راكضا وحاول حمايتي بعد أن عرّف بنفسه وبمهمته إلا أنهم قاموا بدفعه وإبعاده وحتى التعدي عليه لفظيا. ولن أدخل في التفاصيل بينما واصلت مجموعة أخرى تعنيفي والاعتداء عليّ لفظيا وأدخلوني إلى ساحة المنطقة وواصلوا ضربي وأنا على الارض وتواصل الاعتداء: ركل وصفع داخل المبنى. هذا ما وقع قبل أن يستقبلني رئيس المنطقة في مكتبه حيث قام للأمانة بالإجراءات اللازمة وتعامل معي بأسلوب محترم. وفي الأثناء، التحق بي والدي ومحام ووالدتي وقد تعرّض والدي إلى العنف المادي واللفظي وتعرضت أمي إلى العنف اللفظي. ومن ثم تنقلت إلى مركز الاستمرار بحومة السوق حيث تم فتح محضر في الغرض.
وقد رفضتُ في البداية أن يتمّ فتح المحضر هناك لأن من كان سيأخذ اقوالي هو أحد من عنفّوني. ولكن بعد أن تم استقدام شخص آخر، قمت بذلك وتعامل معي الأعوان بأسلوب محترم وهذا من باب إعطاء كل ذي حق حقه. وقد أكدت على تمسكي بالتتبع العدلي نظرا لخطورة ما وقع. البارحة مواطن آخر واليوم أنا -مواطنة أيضا وغدا مواطن آخر وستتواصل نفس الممارسات ونفس الأخطاء. في الأخير أشكر كل من تنقّل إلى المنطقة والمركز وساندني. أشكر أيضا من استقبلني في المستشفى. أشكر كل من هاتفني أو بعث لي برسالة. وربي يهدي ما خلق”.
هذه رواية الراحلة لينا بن مهني للأحداث، التي ما زالت تحاصر الجناة وتنشد الطريق إلى العدالة بعد سنوات من العناد والإصرار على مكافحة ظاهرة الإفلات من العقاب.