عاشت مدينة الفنيدق شمال المغرب نهاية أسبوع استثنائية بعد تدفق المئات من المهاجرين المغاربة غالبيتهم من القاصرين غير المرافقين من مدن مغربية مختلفة قصد محاولة اجتياز الحدود الفاصلة بينها وبين مدينة سبتة المحتلة.
وكانت مواقع التواصل الاجتماعي قد عرفت في الآونة الأخيرة إطلاق دعوات لهجرة جماعية نحو المدينة التي تقع تحت النفوذ الإسباني فيما بات يعرف إعلاميا بالإعداد لليلة الهروب الكبير، وذلك تزامنا مع مشروع إسباني لنقل المهاجرين القاصرين الوافدين على مراكز حماية الطفولة بمدن سبتة ومليلية وجزر الكناري إلى داخل التراب الإسباني لتحقيق توزيع أكثر عدالة للقاصرين الأجانب غير المصحوبين بذويهم.
دعوة لهجرة جماعية “سرية” و”معلنة” إلى سبتة.. خطوة في طريق الحلم الأوروبي
عرف الموسم الصيفي الحالي عدّة محاولات لاقتحام السياج الحدودي الذي يفصل مدينة الفنيدق عن مدينة سبتة الخاضعة للنفوذ الإسباني، وذلك عن طريق السباحة بحرا، وقد تمكن عدد من القاصرين من الوصول الى الضفة الأخرى حيث تم وضعهم في مراكز حماية الطفولة. وخلال أواخر شهر غشت من العام الجاري شهدت مواقع التواصل الاجتماعي تداول عدد كبير من المنشورات الداعية إلى هجرة جماعية سرية نحو إسبانيا انطلاقا من مدينة سبتة المحتلة.
وحددت هذه التدوينات ليلة 15 سبتمبر كموعد لانطلاق عملية النزوح الجماعي، وهي الفكرة التي انتشرت على نطاق واسع في صفوف الشباب والقاصرين الذين عملوا بدورهم على ترويج المنشورات عبر الفضاء الرقمي، خاصة وأن التاريخ المحدد سيصادف فترة عطل، وفترة اضطرابات جوية وضباب.
وابتداء من تاريخ 13 سبتمبر 2015 بدأ المئات من الشباب والقاصرين يتدفقون بشكل منظم على مدن شمال المغرب استعدادا لليلة الهروب الكبير في محاولة للوصول إلى مدينة سبتة سباحة، وهو ما جعل السلطات الأمنية المغربية تتدخل لمحاولة منعهم من التنقل عبر تفتيش السيارات ووضع سدود أمنية في بوابة محطات القطارات ووسائل النقل العمومي.
إنزال أمني ومواجهات وإفشال مخطط الهروب الكبير
عاشت مدينة الفنيدق خلال نهاية هذا الأسبوع حالة من الكر والفر بين القوات العمومية وبين عدد من الراغبين بالهجرة السرية الحالمين بالوصول الى أوروبا عبر مدينة سبتة، وغالبيتهم من الشباب واليافعين.
وأظهرت مقاطع فيديو مجموعات صغيرة من المراهقين وهم يتجهون الى مدينة الفنيدق الحدودية مشيا على الأقدام، في الوقت الذي حاول فيه آخرون تجاوز الحواجز الأمنيّة عبر السير في مسالك جبليّة وعرة أو دخول المدينة عبر أحياء ثانوية.
وتمكّنت السلطات من توقيف عدد من المرشّحين للهجرة حيث عملت على إبعاد حوالي 2400 شخصا خلال الأيام الثلاثة الماضية، إلى مدن في وسط وجنوب المغرب في عدة حافلات. كما تمّ الإعلان عن توقيف 60 شخصا، من بينهم قاصرين، وذلك للاشتباه في تورّطهم في فبركة ونشر أخبار زائفة على شبكات التواصل الاجتماعي تحرض على تنظيم عمليات جماعية للهجرة غير المشروعة، وذلك خلال الفترة الممتدة ما بين 09 و11 سبتمبر الجاري.
وشهدت المنطقة الحدودية في وقت مبكر من صبيحة الأحد 15 سبتمبر مواجهات بين قوات الأمن وعدد من المهاجرين السريين الذين قاموا بإضرام النار وإلقاء الحجارة، حيث استعملت الشرطة الغاز المسيّل للدموع، وقد أسفرت هذه المواجهات عن جرح خمسة عناصر من قوات التدخل في الجانب المغربي، في الوقت الذي تمّ فيه نشر الحرس المدني الإسباني على الجانب الآخر من الحدود.
وكانت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان قد أصدرت بلاغا أكدت فيه أنها تتابع بقلق شديد عمليّات الهجرة السرية غير النظامية للشباب والقاصرين الى سبتة المحتلة، وأوردت أن “الأمر يتعلق بتعبير جديد ومتكرر عن فشل السياسات العمومية في الإدماج السوسيواقتصادي للشباب إلى جانب عدم إيجاد بدائل حقيقية توفر فرص الشغل بعد إغلاق المعبر الحدودي”. وسجلت الجمعية وجود ظروف مأساوية تتم فيها عمليات محاولات العبور للشباب والقاصرين بحرا، بالرغم من الإجراءات الأمنية المشددة التي تقوم بها السلطات المغربية بتعاون مع نظيرتها الإسبانية”. منتقدة تغليب”المقاربة الأمنية التي تخرق القانون والمواثيق الدولية وتغيب المعاملة الإنسانية، ولا توفر الحماية القانونية للأطفال غير المصاحبين”.
أطفال جاثمون على الأرض ونصف عراة: إشكالية مضمون الصورة أم تاريخها؟
مع بداية الأسبوع الحالي تداولت مواقع التواصل الاجتماعي صورا لقاصرين وشباب نصف عراة يرفعون أياديهم فوق رؤوسهم وآثار العنف بادية على ظهورهم إلى جانب سيارات للقوات العمومية. وسرعان ما خرجت مصادر محلية بعمالة المضيق الفنيدق لتوضح أن الصورة والمقطع المرتبط بها قديمان يعودان إلى أحد التدخّلات الناجحة للقوات العمومية التي تمكنت في وقت سابق من “إحباط عملية هجرة غير مشروعة سباحة نحو ثغر سبتة المحتلة، حيث تم إنقاذ أولئك الشباب وانتشالهم من مياه البحر، وهو ما يفسر ظهور هؤلاء الأشخاص شبه عراة إلا من ملابس السباحة التي كانوا يرتدونها حين تمّ ضبطهم من قبل القوات العمومية”.
واجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي تعليقات وتدوينات غاضبة من مضمون الصور. وفي هذا الصدد قالت الناشطة الحقوقية سارة سوجار : “سواء كانت الصور قديمة أو حديثة فهي صورة حقيقية -حسب توضيحات المصدر الرسمي في عمالة الفنيدق- وهي تثبت تعنيف أطفال و إهانة كرامتهم وآدميتهم …وتستدعي وقفة إدانة حقيقية للطريقة التي يعامل بها المغاربة و أطفالهم فوق ترابهم الوطني”، وأضافت “السلطة اليوم تستمر بنفس منطقها الأمني في تعاطيها مع هذا الملف ….وتعتبر أن الحفاظ على الأمن و على النظام العام …يمكن أن يكون مبررا لانتهاك حق مواطن أو كرامته”، كما أن “ردة فعل الإسبان و اعتبارهم أن عدم دخول أي مغربي لترابهم …و تحيتهم للتعاون المغربي معهم في إحباط محاولات الهجرة ….دليل آخر على الهوس الأمني للدول في تدبير ملف الهجرة على حساب حقوق الإنسان ….و أن الحدود المادية و الترابية أصبحت أكثر قداسة من حياة الناس، حريتهم وكرامتهم”.
تفاعلا مع هذا الجدل، أعلن الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بتطوان أن “النيابة العامة أمرت بفتح بحث قضائي بخصوص تداول بعض مواقع التواصل الاجتماعي لصور بعض الأشخاص بلباس السباحة يجلسون على الأرض و بعضهم الآخر قبالة حائط إسمنتي، وذلك للوقوف على مدى صحة هذه الوقائع وخلفيات نشر تلك الصور، حيث سيتم ترتيب الآثار القانونية اللازمة على ذلك فور انتهاء الأبحاث مع إشعار الرأي العام بنتائجه”.
محاولة الهروب الكبير.. حلم أوروبا، أو فشل السياسات الحكومية في الإجابة على قضايا الطفولة والشباب
تعتبر محاولة الهجرة الجماعية إلى سبتة واحدة من عشرات المحاولات التي تعرفها المنطقة كل يوم، حيث تشير تقارير إعلامية إسبانية إلى تسجيل 50 محاولة لاقتحام السياج الحدودي خلال شهر يوليوز الفارط، إلا أن ما يميز هذه الواقعة هو الضجة الإعلامية التي صاحبتها، إذ تعتبر أول محاولة للهجرة السرية بشكل علني. كما أن ارتباطها بفئة القاصرين يعيد إلى الواجهة ملف القاصرين المغاربة بسبتة وأوروبا، والذين يتجاوز عددهم 20 ألف طفل يتواجد أغلبهم بإسبانيا وفرنسا.
كان لافتا مند رصد السلطات الأمنية للمنشورات الرقمية المتداولة تدخلها بشكل استباقي من خلال توقيف عدد من الأشخاص المشتبه في ترويجهم لأخبار زائفة والتحريض على الهجرة غير السرية، ونشر بلاغات رسمية حول هذا الموضوع، وتداولها في وسائل الإعلام الرسمية، في الوقت الذي تمّ فيه معالجة أسباب الظاهرة وجذورها الاجتماعية والاقتصادية، وفي هذا السياق، يقول رئيس مرصد الشمال لحقوق الإنسان محمد بنعيسى: “إذا كنا نتحدث عن العوامل التي تدفع الشباب ومنهم القاصرين نحو الهجرة فهي أسباب مركبة تجمع بين الهشاشة الاجتماعية وغياب فرص العمل وانعدام الثقة في المستقبل، هذه الأسباب الدافعة. أما الأسباب الجاذبة فهي هي الحلم بالوصول الأوروبي، وتحقيق الذات، والمحاكاة وتقليد الآخرين من الأصدقاء وأبناء الحي والمدينة”.
ويضيف :”إن ما سبق ذكره، تغذيه عوامل سياق ترتبط أساسا بدور شبكات التواصل الاجتماعي التي يبث فيها من تكمنوا من النجاح في تحفيز الآخرين من خلال قصص الهجرة من جهة، والمعطى الطبيعي الناتج عن الضباب وهدوء البحر خلال هذه الفترة… علما أن ما يحفز أكثر هو أن تجربة الهجرة سباحة بين الفنيدق وسبتة المحتلة غير مكلفة ماديا لكنها قد تكلف حياة المهاجر”.
ويرى نوفل بعمري المحامي بهيئة تطوان والناشط الحقوقي أن “ما يحدث في الفنيدق عنوان لفشل تدبيري الحكومة في قضايا الشباب و الملفات الاجتماعية، هو فشل تدبيري و فشل اجتماعي وفشل أدى و يغذي اليأس، و أخطر ما يهدد التماسك الاجتماعي هو يأس شبابه”.
ويضيف: “على الحكومة أن تراجع سياستها الاجتماعية وسياستها الموجهة لهذه المناطق التي حورب فيها التهريب المعيشي دون أن يكون هناك بديل اقتصادي حقيقي، قار يوفر الحياة الكريمة لأبناء المنطقة” .
من جهته يقول المحامي والناشط الحقوقي إسحاق شارية : “ما يجري اليوم والبارحة في مدينة الفنيدق مهول ومحزن كثيرا، ويحتاج أكثر من دراسة وتحليل، آلاف القاصرين يمشون على الأقدام من دواويرهم ومدنهم البعيدة متجهين نحو المدينة الحدودية مع سبتة المحتلة في منظر يستوجب أن يندى له جبين كل مسؤول مغربي خصوصا أمام المجتمع الأوروبي والدول الغربية التي تراقب الوضع عن كثب وتتساءل عن الأسباب الحقيقية لحالة اليأس العام التي أصبح عليها الشعب”.
ويضيف تعليقا على آخر المناظر التي تصل من الفنيدق : “شعب يريد أن يهرب من سطوة الحكومة التي حاصرته في معيشته وضيقت عليه في حريته، وقيدت حقوقه في العدالة القضائية والاجتماعية، شباب وشابات في مقتبل العمر شعارهم المرفوع يقول لقد تركنا لكم الجمل بما حمل لا نريد حقنا في العدل ولا نريد حرية ولا نريد تعليما ولا صحة ولا ثروات ولا ديمقراطية ولا شغل، اتركونا فقط نموت بسلام وحافظوا أنتم على امتيازاتكم وشططكم وعيشوا أنتم وأبناءكم بسلام في وطن لم يضمن حتى الحق في الحياة لأبنائه عسى أن يضمن باقي الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، إنها قمة القمة في حالة اليأس وانعدام الأفق التي أوصلتنا إليها الحكومة”.
وتجدر الإشارة إلى أن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بالمغرب كان قد نشر في وقت سابق تقريرا مثيرا للجدل يحمل عنوان شباب لا يشتغلون، ليسوا بالمدرسة، ولا يتابعون أي تكوين “NEET”: أي آفاق للإدماج الاقتصادي والاجتماعي ؟ لفت فيه الانتباه إلى ظهور أفواج جديدة من الشباب المغاربة الذين لا يشتغلون وليسوا بالمدرسة ولا يتابعون أي تكوين؛ وهي فئة تتراوح أعمارها بين 15 و24 سنة، ويقدر عددهم بأزيد من مليون ونصف شابا وشابة، وقد يرتفع هذا العدد إلى ما يقارب أربعة ملايين ونصف إذا ما تم احتساب الفئة العمرية ما بين 15 و34 سنة .. وقد أكد التقرير أن هذه الظاهرة تبرز محدودية السياسات العمومية الرامية لتحقيق الإدماج الاجتماعي والاقتصادي للشباب عموما ولاسيما بالنسبة لهذه الفئة الهشة.
مواضيع ذات صلة
المغرب يتسلم 116 مهاجرا إفريقيا بعد ترحيلهم من إسبانيا: اتفاقية 1992 حول الهجرة بين المغرب وإسبانيا تعود إلى الواجهة
الشباب التونسي والهجرة غير النظامية: بين ثنائية الجوع في الداخل والأبواب الأوروبية الموصدة
الهجرة غير الشرعية.. القوانين والإجراءات التركية غير كافية
على خطى الحكومة الإيطالية إسبانيا تحتجز 800 تونسيا استعدادا لترحيلهم
الخطاب حول قوارب الموت: جلد للذات في جنوب المتوسط تقابلها أنانية مفرطة في شماله
المهاجرون الأحياء منهم والأموات من دون أرقام ولا بيانات
“البؤساء” وتجّار الحدود: أو تسليع البشر في أبشع أشكاله
قفزٌ فوق الحدود