يدلّك الدخان المتصاعد إلى موقع الغارة الإسرائيليّة في حارة حريك، في قلب الضاحية الجنوبيّة لبيروت. في موقع الاستهداف، تمامًا بمحاذاة مستشفى “بهمن”، دمار كبير وتجمّعٌ لمئات الأشخاص. فقبل دقائق، هزّ انفجار ضخم المنطقة وتحديدًا عند الساعة 7:40 دقيقة من مساء أمس الثلاثاء، نتيجة استهداف مسيّرة إسرائيلية مبنى سكنيًا ملاصقًا للمستشفى، في عدوان يمثّل تصعيدًا نوعيًّا في الحرب المستمرّة منذ 10 أشهر على الجبهة الجنوبيّة للبنان، تزامنًا مع حرب الإبادة الجماعيّة في غزّة. وتضرّر المستشفى بشدّة، ودمّرت أجزاء من مخازنه حيث يتم الاحتفاظ باحتياط اللوازم الطبيّة. وينسجم إلحاق الأضرار بإحدى أكبر مستشفيات المنطقة مع النهج الإسرائيليّ الذي لم يوفّر المستشفيات والمراكز الطبيّة في الجنوب من هجماته، وتعمّد تدميرها بشكل ممنهج في غزّة.
أوقع استهداف الضاحية الجنوبية حصيلة ثقيلة من المدنيّين بأكثر من 80 جريحًا و5 شهداء هم 3 سيدات وطفلان، إضافة إلى عدد مجهول تحت الأنقاض. حصيلة هي الأكبر لاستهداف واحد منذ اندلاع المعارك في الجهة اللبنانيّة. كما تشكّل الغارة الإسرائيليّة توسيعًا غير مسبوق في جغرافيّة المعركة، وكسرًا للمعادلات التي كانت تسري في الميدان، وتنذر باحتمال تصعيد جديد ستحسمه الأيّام المقبلة.
وتتداخل على الأرض أصوات سيّدات يسألن عن اسم فرد يردن الاطمئنان عنه، مع صياح أخريات بفتح الطريق من أجل عمليات الإنقاذ. وفي الزاوية أب يناجي المسعفين أن يسرعوا في إيجاد ابنه الذي أضاعه مع سماع صوت الغارة.
وعلى الفور، أعلن الجيش الإسرائيليّ مسؤوليّته عن الضربة والتي استهدفت وفقه اغتيال القياديّ في حزب الله فؤاد شكر. لاحقًا، ومع صباح اليوم الأربعاء، أكّد “بيان أوّليّ” صادر عن العلاقات الإعلاميّة لحزب الله، تواجد القياديّ شكر في المبنى لحظة الاستهداف، معلنًا انتظار عمليّات الإنقاذ قبل إعلان مصيره.
في حارة حريك، كان المواطنون يتوافدون إلى المكان، وأعداد الجرحى ترتفع مع تقدّم الدقائق، وتدفّق المزيد منهم إلى المستشفيات. وكانت الجهات الرسميّة تعلن أسماء الشهداء مع العثور على جثامينهم.
حصيلة عالية وغير نهائيّة من السكّان
وصلت فرق الإنقاذ إلى الشهيدة وسيلة بيضون بعد فترة وجيزة من الضربة، وتصدّرت صورتها شاشات الهواتف فيما تناقل الجيران خبر استشهادها بحزن بادٍ. وقد نعتها بلدتها الشهابيّة في بيان رسميّ خاطبها بـ “يا طيّبة” و”يا شهيدة”. وكانت ليليان، إحدى ساكنات الحيّ، تعرف الشهيدة، وقد تلبّد وجهها الذي غطّاه بعض من الغبار. وتروي السيّدة الأربعينيّة أنها كانت على شرفة منزلها لحظة الضربة “حينما دوّى صوت الانفجار وملأ الدخان الجوّ وبدأ الناس بالركض، فعرفنا أنّ أمرًا عظيمًا قد حدث”.
وبين الركام، استمرّت فرق الإنقاذ بالبحث عن ناجين، وتقديم المعونة للجرحى والمصابين. وقد حضرت فرق من الصليب الأحمر اللبنانيّ والدفاع المدنيّ التابع لوزارة الداخليّة، والهيئة الصحيّة الإسلاميّة، جنبًا إلى جنب مع عناصر من الدفاع المدنيّ الفلسطينيّ.
ونفّذت الغارة بـ 3 صواريخ إسرائيليّة. وتركّز التدمير في الطوابق العلوية من المبنى المستهدف. وفي أحد منازل مبنى “الربيع” المستهدف، كان 7 أطفال من آل بيضون وفضل الله مجتمعين في زيارة عائليّة إلى بيت جدّهم، قبل أن يباغتهم العدوان. عثر على 5 من الأطفال أحياء فيما ظلّ الأهل، ولأكثر من 4 ساعات، ينتظرون خبرًا يطمئنهم عن ولديهم حسن (10 سنوات) وأميرة (6 سنوات)، قبل أن يتمّ العثور عليهما تحت الأنقاض. وانتشلت ليلًا الشهيدة وسيلة بيضون، وفي اليوم التالي تمّ انتشال سيّدتين هما الحاجة هناء بشير الحكيم وابنتها الدكتورة سلوى زهير البيطار، إلى جانب الجرحى الذين تجاوزون الثمانين. وتستمر عمليات البحث عن مفقودين تحت الأنقاض يتوقّع أن يكون من بينهم المسؤول في حزب الله فؤاد شكر، وفق ما أكّده اليوم البيان الأوّلي للحزب.
ونقل إلى مستشفى “بهمن” الملاصقة، العدد الأكبر من الإصابات، وعلى بعد شارعين، استقبلت مستشفى الساحل 9 جرحى، كما استقبلت مستشفى الرسول الأعظم 10 جرحى، وإلى خارج الضاحية، نقل ستّة مصابين إلى مستشفى الزهراء في الجناح، وجريحان إلى مستشفى السان جورج في الحدث، وجريح إلى قسم الحروق في مستشفى الجعيتاوي في بيروت. وقد أعلنت وزارة الصحّة اللبنانيّة خروج معظم الجرحى بعد تقديم الرعايّة الصحيّة اللازمة لهم، فيما لا يزال يمكث 9 مصابين بينهم 5 جرحى بحالة حرجة.
وأعلن الأمين العام للهيئة العليا للإغاثة اللواء محمد خير تضرّر 9 مباني نتيجة الاستهداف الإسرائيلي بينها 4 مباني متضرّرة بشكل كبير إضافة إلى ضرر لحق بمستشفى “بهمن”، مؤكّدًا أنّه سيتمّ التعويض عن الأضرار وتأمين بدائل للعائلات التي اضطرّت لترك منازلها بسبب الأضرار.
أحد الجرحى في مستشفى بهمن (تصوير حسين شعبان)
في مستشفى “بهمن”
وتضرّر مستشفى “بهمن” بفعل الغارة، لاسيّما مكان تخزين قوارير الأوكسيجين، ما استدعى تقييمًا على الأرض لضمان سلامة قوارير الأوكسيجين التي تضرّر ما حولها بشدّة، بما كان ليهدّد سلامة عامليه والجرحى. رغم ذلك، كان المستشفى أوّل من بدأ استقبال الجرحى. على المدخل، عشرات الأسر متجمّعة، وأقاربها في الأعلى. وتكرّر المشهد أمام سائر المستشفيات، مع توزيع الجرحى عليها.
من بين الجرحى الذين تمّ إجلاؤهم إلى “بهمن” محمّد عكّوش الذي كان في طريقه إلى منزل أسرة زوجته في المبنى المقابل للمبنى المستهدف، حينما وقعت الغارة. أصيب الرجل في قدمه ما استدعى إجلاءه فورًا إلى مستشفى “بهمن”، وقد رافقناه إليها.
ينهمك الأطبّاء بتضميد جراح محمّد. ورغم الألم الظاهر، يجد محمّد نفسه مدفوعًا للتعبير عن موقفه المبدئيّ، ويردّ على سؤالنا عن إصابته بعد الفراغ من تضميد جراحه: “إسرائيل بكبرها وتجبّرها لم تجبرنا على ترك منطقتنا والاستسلام لها خلال اجتياح عام 1982، إصابة في القدم لن تثنينا”.
وفي الطابق نفسه، مسنّ على كرسيّ متحرّك، تلقّى معظم الإصابات في رأسه، ويعمل الممرّضون على تضميد جراحه وقد غطّت الدماء معظم ملامحه. وأمام باب المختبر، طبيبة تنظّم المتبرّعين وتضمن ألّا ينتظر بالدور سوى الأشخاص أصحاب فئات الدم المطلوبة: O سلبيّ وA سلبيّ.
وطارق سرحان، شابّ من أبناء المنطقة، هو من أوّل الحاضرين: “نتضامن مع بعضنا، في وجه الوحوش على حدودنا”، يقول، ويستحضر في كلامه سياق المعركة من غزّة إلى الجنوب اللبنانيّ، واضعًا خطوته في سياق سياسيّ، لا إنسانيّ فقط: “ما حصل للتوّ عدوان غير مستغرب من كيان فصل عنصريّ ينفّذ جريمة إبادة جماعيّة في فلسطين”.
استعادت الضاحية الجنوبيّة ليلة الثلاثاء 30 تمّوز، مشهدًا من مشاهد عدوان تمّوز 2006. تركّزت الحصيلة الكبرى على المدنيّين. وتوسّعت حدود الحرب المستمرّة، والتي أفردت لها “المفكّرة” في عددها الأخير تحقيقًا خاصًّا، بيّن الاستهداف الممنهج للمدنيّين في الأشهر العشرة الماضية. وتضع التطوّرات الأخيرة الحرب المستمرّة هذه على مفترق طرق، سيكشفه الميدان. إسرائيل المرتكبة لجريمة الإبادة الجماعيّة في غزّة، تمارس سياسة الهروب إلى الأمام، وتجرّ لبنان والمنطقة إلى المزيد من الحرب والدم.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.