ليستْ الحرب الأولى التي تشنها إسرائيل ضد غزة. لكن الحرب الأخيرة أخذت منحى أكثر خطورة في ظلّ حديث متزايد عن احتمال تدمير غزة وتهجير أهلها جميعا إلى سيناء. وفي حين أعرب البعض تخوفهم من “نكبة” جديدة مشابهة لنكبة 1948، سارع البعض إلى إعطاء التّوصيف القانونيّ الصّحيح للنكبة وهو التطهير العرقي، الذي يعني في حال حصوله نكبةً للعالم بأسره. هذا التخوّف بلغ أوجّه مع إنذار الجيش الإسرائيلي ساكني النصف الشمالي من غزة (أكثر من مليون ومائة ألف ساكن) بوجوب ترك منازلهم وأحياءهم للتوجّه إلى جنوب غزّة، كل ذلك وسط إشاعة شخصيات رفيعة إسرائيلية (داني عايلون) إمكانية تهجير مليوني نسمة من غزة إلى سيناء تيمّنا بتهجير ملايين السوريين من سورية. انطلاقا من ذلك، ستحاول المفكرة القانونية أن تتابع مسارات الجريمة المستمرة في غزة، في مختلف جوانبها، دفاعا عن أهل غزة وحقهم في تقرير المصير ولكن قبل كل شيء إيمانا منا بالقيم التي أعلن العالم إعلاء شأنها تبعا لأهوال الحرب العالمية الثانية، من دون أن يلتزم بها على أرض الواقع. في هذا المقال التوثيقي، نتناول ما ترتكبه إسرائيل لحرمان أهل غزة من حقهم بالصحة، وضمنا حرمان المدنيين الذين تنهال عليهم صواريخ إسرائيل من إمكانية الاستشفاء. يذكر أن الجيش الإسرائيلي ينذر منذ أمس مستشفى العودة الكائن في شمال غزة بوجوب إخلائه ضمن ساعات، في ظلّ تأكيد إدارته استحالة القيام بذلك (المحرر).
تتعرض المستشفيات والطواقم الطبية في قطاع غزّة لأشدّ الانتهاكات التي تبدأ من وسائل التضييق عليها وتصل إلى حدّ الاستهداف المباشر. يشكّل هذا الأمر مخالفات فظّة لأحكام القانون الدولي الإنساني، ترقى إلى مستوى جرائم الحرب. وبالفعل، فقد اشتدّ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في الأيام الستة السابقة، إلى أن وصل في اليوم السابع إلى توجيه إنذار لسكان الجزء الشمالي من قطاع غزة (أكثر من مليون ومائة ألف ساكن) بوجوب إخلاء منازلهم. إذّاك سارع الهلال الأحمر الفلسطيني إلى نشر بيان أطلق فيه نداء عاجلا لقادة العالم والمجتمع الدولي من أجل التدخّل الفوري لمنع حدوث كارثة إنسانية، لأن ليس للجمعية القدرة على إخلاء المرضى والجرحى من المستشفيات ولا كبار السن وذوي الإعاقة من المناطق المطلوب إخلاؤها. يأتي هذا التطوّر تبعا لعدد كبير من الانتهاكات والاعتداءات على القطاع الصحي في غزة.
العاملون في القطاع الصحي ضحايا العنف الإسرائيلي
أول ما سجل استهدافه منذ بداية الحرب الأخيرة، هو استهداف إسرائيل لسيارات الإسعاف والمستشفيات.[1] وبالفعل، تعددت التقارير عن تعرّض طواقم طبّية، من بينها طواقم لجنة داوود الحمراء وجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني[2]، التي تعمل معهم اللجنة الدولية للصليب الأحمر، للاعتداء. وقد دفع هذا الأمر اللجنة الدولية لإصدار بيانٍ شددت فيه رئيستها ميريانا سبولياريتش على “وجوب السماح للعاملين في المجال الإنساني بالتنقل بحرية لمساعدة المحتاجين وعلى وجوب عدم استهداف المرافق الطبية والعاملين في المجال الطبي على الإطلاق.” [3]
ومن أبرز هذه الحالات، قتل القصف الإسرائيلي ثلاثة مسعفين من جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني يوم الأربعاء في 11/10/2023 جرّاء إستهداف مركبة الإسعاف التي كانوا على متنها في شمال قطاع غزة، أمّا الرابع فقتل رشقاً في شرق غزة.
هذا فضلا عن إعلان منظمة أطباء بلا حدود عن حصول غارة جوية دمّرت سيارة إسعاف تنقل الجرحى أمام المستشفى الذي تعمل فيه منظمة أطباء بلا حدود.[4] وقد ذهب المنسق الطبي لمنظمة أطباء بلا حدود في غزة، داروين دياز، حدّ القول: “لا يمكن استخدام سيارات الإسعاف في الوقت الحالي لأنها تتعرض للغارات الجوية.”[5] فكأنما سيارات الإسعاف التي يوجب القانون الدولي للحروب تحييدها تحوّلت إلى أهدافٍ للعدوان الإسرائيلي. هذا بالإضافة إلى أن تنقلات فريق أطباء بلا حدود وخصوصًا طاقمه الطبي تحكمها قيود شديدة منذ يوم السبت، بفعل عجزهم عن إيجاد ممرّ آمن لدعم زملائهم الفلسطينيين في المجال الطبي، والذين يعملون ليلًا نهارًا لعلاج الجرحى.
المستشفيات ومراكز تقديم الرعاية الصحية أهداف للقصف الإسرائيلي
تعطي أطباء بلا حدود شهادة حيّة عن عدم استثناء المرافق الطبية من العدوان حيث أفادتْ بتعرّض أحد المستشفيات التي تدعمها إلى قصف جوي أوقع أضرارًا فيه. وقد اضطر فريق أطبّاء بلا حدود إلى مغادرة المستشفى سريعًا فيما كان يجري عمليّة جراحيّة لأحد المرضى فيها.[6] وقد تعرّض مستشفيان تدعمهما منظمة أطباء بلا حدود، وهما مستشفيا العودة والأندونيسي، لأضرار نتيجة الغارات الجوية، في حين تعرضت عيادة أطباء بلا حدود لبعض الأضرار خلال انفجار وقع يوم الإثنين.[7]
وبفعل غياب الملاذات الآمنة والملاجئ، لجأت آلاف العائلات إلى الطوابق السفلى في مستشفى الشفاء هربا من القصف، من دون أن تكون أدنى مقومات العيش مؤمنة فيها، بحسب الطبيب غسان أبو ستة عبر تويتر.
وقد بلغ الأمر أوجه مع توجيه الجيش الإسرائيلي إنذارا لمستشفى العودة يوم الجمعة الثالث عشر من تشرين الأول، بوجوب إخلاء المرضى منه خلال ساعين (تم تمديدها لاحقا إلى صباح السبت)، لما يشكّل خرقاً فادحا لقوانين الحرب. وقد نقلت الجزيرة عن إدارة المستشفى رفض طلب الإخلاء لاستحالة نقل المرضى ولرفض الطاقم الطبي المكوّن من 35 طبيبا ومساندًا تركهم من دون علاج.
وفي هذا الصباح، نقلت الجزيرة توجيه إنذار آخر إلى مستشفى كمال عدوان بوجوب إخلائه أيضا.
انقطاع الكهرباء والاتصالات يهدّد حياة الغزّاويين
فضلا عما تقدّم، حذّرت مؤسسات حقوق الإنسان الفلسطينية من كارثة إنسانية كبرى تمسّ بحياة نحو 2.3 مليون مواطن يعيشون في قطاع غزة مع الانقطاع التامّ للكهرباء نتيجة نفاد الوقود، بسبب قرار إسرائيل وقف إمداد القطاع بالوقود وجميع الاحتياجات الأخرى.[8] أمّا نتائج ذلك على القطاع الصحي فهي كارثية، حيث فقدت المستشفيات مصدر الطاقة، “ما يعرض للخطر حياة الأطفال حديثي الولادة في الحاضنات والمرضى المسنّين الذين يعتمدون على إمدادات الأكسجين.” [9]
ما قد يؤدي إلى “تحوّل المستشفيات إلى مشارح”[10]، بفعل عجزها عن تأمين الرعاية الصحية، فيصبح الموت حتميا ويقتصر دورها على تخزين الجثث.
من ناحية أخرى، يطال انعدام البنى التحتية شبكات الهواتف، التي تعرضت هي الأخرى لأضرار جسيمة، ما يعطّل إمكانية تنسيق عمليات الإنقاذ والوصول إلى الجرحى. [11]
ومع تهديد اسرائيل بقطع الإنترنت والاتّصالات عن قطاع غزة بدءا من صباح 14/10/2023، يوحي ذلك بقرب اشتداد الحملة العسكرية على غزّة وبخاصة على المدنيين في ظلّ رغبة إسرائيلية بإبقاء ما قد ينتج من فظائع إنسانية عن هذه الحملة تحت الركام وعدم تظهيره للعالم.
فقدان المعدّات الطبية
تعجّ المستشفيات بالمرضى المصابين، إلّا أنها تعاني من نقص في الأدوية والمواد الاستهلاكية. فأقلّ ما يقال عن الوضع في غزة أنه كارثي: المستشفيات مستنفذة والفرق الطبية منهكة، إذ تعمل على مدار الساعة لعلاج الجرحى، الذين يتدفقون عليها بأعداد هائلة كما قال رئيس بعثة منظمة أطباء بلا حدود في فلسطين ليو كانز.[12]
“أبسط” مثال على فقدان المستشفيات المواد الطبية، حتى الأولية والبدائية منها، شهادة الدكتور غسّان أبو ستة على حسابه الخاص عبر تويتر، حيث يخبر كيف اضطرّ الطاقم الطبي إلى تنظيف حروق غطّت سبعين بالمئة من جسد فتاة مراهقة بالصابون العادي، لأن المطهّر الطبي لم يعد متوفّرا في المستشفى.
“تفرض الحكومة الإسرائيلية حصارًا بلا ضمير على القطاع، يشمل منع الغذاء والمياه والوقود والكهرباء. وبعد 16 عامًا من الحصار العسكريّ على قطاع غزة، فإن المرافق الطبية هناك مستنزفة أساسًا؛ ولا يترك هذا الحصار أيّ متنفس للمرضى العالقين في دوامة القتال ولا للكوادر الطبية. فهو يمثّل منعًا متعمّدًا للمواد المنقذة للحياة.”[13]
وعليه، تعتمد الاستجابة الصحية في غزة اليوم بحسب منظمة الصحة العالمية على إيصال الإمدادات الجديدة والوقود إلى مرافق الرعاية الصحية في أسرع وقت ممكن.[14]
[1] منظمات المجتمع المدني الفلسطيني تدعو الى حماية الشعب الفلسطيني، مؤسسة ضمير
[2] استهداف المدنيين يؤدي الى تفاقم دوامة العنف والكراهية، بيان صحفي للجنة الدولية للصليب الأحمر، 10 تشرين الأول 2023
[3] اللجنة الدولية للصليب الأحمر عن قلقها البالغ إزاء التصاعد المثير للقلق للعنف المسلّح في اسرائيل والأراضي المحتلة هذا الصباح. 7 تشرين الأول 2023
[4] المرجع السابق
[5] المرجع السابق
[6] أطباء بلا حدود تجري عمليات جراحية وتتبرّع بالإمدادات الطبية في غزة وسط مرافق طبية مكتظة بالجرحى، أطباء بلا حدود، 8 تشرين الأول 2023
[7] أطباء بلا حدود: على العنف العشوائي والعقاب الجماعي لقطاع غزة أن يتوقف، بيان صحفي لأطباء بلا حدود، 13 تشرين الأول 2023
[8] اسرائيل تدمر أحياءً سكنية على رؤوس قاطنيها بغزة وتمعن في القتل الجماعي، مؤسسة الحق
[9] بيان من فابريزيو كاربوني، المدير الإقليمي للجنة الدولية للصليب الأحمر لمنطقة الشرق الأدنى والأوسط. 12 تشرين الأول 2023
[10] المرجع السابق
[11] المستشفيات مكتظة في الظل الوضع الكارثي في غزة، أطباء بلا حدود، 12 تشرين الأول 2023
[12] المرجع السابق
[13] طباء بلا حدود: على العنف العشوائي والعقاب الجماعي لقطاع غزة أن يتوقف، بيان صحفي لأطباء بلا حدود، 13 تشرين الأول 2023
[14] منظمة الصحة العالمية تدعو إلى إتاحة المساعدات الصحية والإنسانية في اليوم الرابع من النزاع في إسرائيل والأرض الفلسطينية المحتلة، 10 تشرين الأول 2023