“لو يذكُر الزيتون غارسه لصار الزيت دمعًا” ياسر جرادي وحكاية الإنسان الذي غيّرته أغنية وبيت شعر


2024-11-23    |   

“لو يذكُر الزيتون غارسه لصار الزيت دمعًا” ياسر جرادي وحكاية الإنسان الذي غيّرته أغنية وبيت شعر

لم يَكُن ياسر جرادي محتاجًا إلى أكثر من قيثارة وهِرمونيكا وحبال صوتية مُشبَعة بعَرَق الأرض وكَرَم الفؤاد كي يَصنع أسطورته وكي يبقى. “أنا إنسان اكتشَفت طريقا غاية في الجمال، وبدأت أستمتع بهذه الرحلة والهدف ليس الوصول إلى محطّة بل الاستمتاع قدر الإمكان بالرحلة، وخاصة أن أتقاسم هذه المتعة مع أشخاص آخرين”.[1]

في شَرْع ياسر لا حاجة للذهاب إلى الخارج وإلى البهرج، لأنّ الله موجود فينا. يكفي أن تتأمّل قطعة من سحابٍ يحملها الهواء يتبدّل لونها إذ تَعبُرَ بين الشمس، أو أن تتأمّل أصابعكَ وما فيها من عَضل ومن قدرة على الإحساس.

في كلمات أغانيه يتدفّق الإحساس  على رِسله، والفكرة تَحضر كما تَحضُر “الشّمس والريح والسّْحَاب” دافئة خفيفة مُثقَلَة بنورها الخاص. يُحَوِّل ما يصل إلى القلب من إشارات إلى أغنيات، ولعلّه وصل إلى حيث يرغب قلبه وتَلمّس أو عرف هذا الذي “لا نراه” وأراد أن يدلّنا إلى وجوده. “شيء ما في الداخل، غير ملموس ولكنّه حيّ، شيء ما لم أكن أعرف أنّه حيّ، إنّه البشر الذين في داخلك”.

يَقوده التأمّل إلى الجمال والتوازن، على شاكلة “صُوفي معاصر” يَشتغل على كَنسِ الكرُه أينما وجَدَه ويرى الحب عنوانا للوجود. كان “يَعلم” بهذه المقولة لابن عربي “لن تبلغ من الدين شيئا حتّى توقّر كلّ الخلائق”، و”يعمل” بها.

يَظهَر في أحد الفيديوهات التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، عقب وفاته، في حانوته “فضاء ابن عربي” بالمدينة العتيقة في سوق الشواشين يتحدّث وقوفا عن الشيخ الأكبر أمام ضيوف عرب ببساطة ومن دون تعقيد أو ادّعاء. “ابن عربي بحر كبير وأنا بالكاد قد بلَلت ساقيّ فيه”.

“عَندو كْلاَمْ.. عَندُو أحلاَمْ”، هكذا تقول إحدى أغنياته، لذلك اختار ياسر جرادي الطّرق التي تنتمي إليها خُطاه. اختارَ الدّوائر التي يُنشئها، إذا ما استعَرنا من معجم شيخه الذي يحبّه؛ أنشأ دائرة في جماليات الحرف العربي وأراد أن يتخصّص في نقطة ممّا كان يراه محيطا من الجماليات: الخط المغربي، عارفا أنّ “الجزء يصلك بالكلّ”. مدينته الأصلية قابس تصله بتونس، وتصله بفلسطين، وتصله بالعالم كأنّها كلّ العالم. درّاجته تشدّه إلى التراب وتخترق به هواء يصله بالمجرّات البعيدة، والنجمة تقوده إلى واحات وشاطئ الطفولة؛ “شاطئ السلام” الذي تلوّثَ بسبب التصنيع الجائر الذي جعل منه “لاجئا بيئيّا”. لا يخدَعه السراب، وهو يُجهِد بأنفاسه كي يصل إلى أيّما نقطة يختارها ويجعل منها مركزا يبدأ منه كأن تكون النقطة شطّ الجريد بحثا عن حافلة غرقت.[2] كفاه أنّه حيّ وكلّ شيء يدور به، حيّ يقتسم معه أنفاس الخلق.

بالخطّ المغربي رَسمَ قصائد ونصوصًا لابن عربي ومحمود درويش، كما لو أنّه يَرسم نهودا، قِبابًا، لمدينة مُشتهاة. في رسوماته سواء كانت على جلد دفّ أو على حديد بارد أو على رقّ أصفر قديم، تحضر الدوائر واضحة وضوح قلبه، غامضة غموض أبجديّة الخلق المستعصية على القراءة. كان يقول “مع الدائرة ليس المهمّ قراءة المعنى بل القراءة التشكيليّة”، بمعنى أنّها تُقرأ قراءة إشاريّة بلغة المتصوّفة. وفي أحيان أخرى يرسم الكلمات متزاحمة، يتّكئ بعضها على بعض كما لو أنّه يرغب في محو ما علق بها من معان، ليُعيد إليها بكارتها الأولى حين كانت جسدا واحدا مع الأشياء، كأنّ به شوق للعودة إلى الرحم الأول، إلى ما هو حميمي خالص. تُغريه صورة  النبي الذي آواه ربّه في “بطن الحوت” كاستعارة وتجربة مستحيلة، لأنّها تحدث في “الباطن”، في “خصوصيّة الخصوصيّة”، عند تُخوم الغيب، حيث يقيم الآن، حيث يعيش حياته الأخرى ويحلم بمحبوبته، التي يقول عنها في إحدى أغنياته: “نتفكر أوّل مَا رِيتك، كايني عرفتكْ عندي سنينْ، في دنيا أخرى حبّيتكْ، نحبْ نحبّك مرتينْ، مرّهْ نحبْ روحكْ وخيالكْ، وصوتكْ وغزرة العينْ، مرّهْ نحبْ يدكْ وشعركْ، وشفايفْ حمرا كالرمانْ، نحبْ نهديلكْ يا روحي، ذهبْ ومرجانْ وياقوتْ، وأحلى ما شافتْ عيني، جبلْ وصحرا وبْحُوراتْ، ملّي ريتكْ ناسي روحي، وأنا فقيرْ وما عندي قصوراتْ، عندي كان قلبي اللي حبّكْ، ومعاهْ شويهْ غْناياتْ”.

يقول في نفس الفيديو: “أحاول أن أحرّر الخطّ من سجن المعنى، لأنّني أحسّ أنّ الخطّ أسير للمعنى لأنّه مجعول لتأديته، في حين أنّ الخطّ له جماليته وشخصيته ووجوده”. كان ياسر يَرى في الخطّ العربي الفن التشكيلي العربي الإسلامي الأول الذي لم نتقدّم فيه خطوة واحدة منذ خمسة قرون. وهو ينتبه إلى “أهميّة هذه الموسيقى الخارجة من تناغم هذه الحروف مع بعضها البعض”، وإلى الإمكانات التشكيليّة للخطّ العربي، كان يبحث عن “حَرفِه الخاص”. هكذا هو دائما: يبدأ من نقطة ويتّسع فيها، يتأمّل “الخارج”، فلا يُغريه بُهرجه، يشتغل على “الداخل” كي يَحفَظ توازنه.

أفكار الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي ورؤيته للوجود باعتباره قرآنا حَيّا تتحوّل معه إلى أحاسيس وإلى نبض حيّ. يغرف ياسر من هذا البحر بيدين مُحبّتين، وإذا ما كان ثمّة ما يختزل الشيخ عنده،  فهو “الحب ..أنّى توجّهت ركائبه”، وإذا ما كان ثمّة وصف يليق به ويصف وجوده فلن يكون إلا “أغنية حبّ إلى تونس”،  تطرد الذباب (له أغنية ساخرة عنوانها ” الذّبان” أي الذباب) الذي يملأ تونس جنّته وجنّتنا الممكنة، كي تصبح أكثر جمالا وعدلا. الكلمات التي حيّا بها شكري بلعيد، تَصدق عليه، لأنّهما هو وشكري بلعيد يصدران من نفس السلالة التي تقيم ما “بين الوجع والروح”: “ماشي من بلادْ لبلادْ، في قلبه الزادْ والزوّادْ، معبّي بمحبّة الخضرا، معبّي بمحبّة لعبادْ”. هكذا يقول في أغنية له.

“لا يَعرف كيف بدأ الغرام: من حُلم طفولة أو سطر في كتاب”. طِينَتَه من طينة هذه الأرض. عنيد مثل النخل والصبّار. تقول أغنيته الأكثر وقعا: “نِحلِفْ بعرَق البَنّايَهْ يَهبط علْ الحجرْ يذوبْ، اللي رِجْلِيهم حْفَايه واللّي تِعبوا من المكتوبْ، نِحلف بْيمِين البَحّارَه، بِالشّمس والرّيح والسْحَاب، نِحلف بالمُوجَه الغدّاره، لا لاَ عن حُبّك ما نتوبْ، لا لا ما نملْ مِن صُعبِك عليّا، نْكتب اسمك بالدم في يديّا، ونَرجَعلك ديما، مهما زَرْعُولي الشّوك في الثنيّهْ، مهمَا الأيام حبّت تًهرُب  بيّ، ونَرجَعلك ديما، نِسقي زرعك بدموع عِينيّا، مهما خُنتيني إنت عزيزهْ عليّ، نحلف بيدين الفلاحهْ، اللّي توَلّت في الشّوك والتراب، اللي صوابِعها المجروحهْ غلبت ها الوقت الكذّاب، نِحلف بلْيَالي الكنّاسهْ، خَدّام الحْزام والحطّاب، أولاد المَنجِم والخمّاسهْ، لا لا عن حُبّك ما نْتُوبْ، لا لا ما نملْ من صعبك عليّ…”.

شرَع في طريق الموسيقى لمّا أسمعته أستاذة الإنكليزية أغنية “تَخيّل” لجون لينون. يقول في الحوار الذي أجرته معه المفكّرة القانونية: “أنا مولود في قابس في عائلة لا علاقة لها بالثقافة والفنون. كنت ألعب الكرة، وحين لا تكون مصحوبة بحدّ أدنى من الثقافة قد تتحوّل إلى نوع من التطرّف، ودرست في شعبة علمية لا تُوجد الفلسفة ضمن موادها. أتذكّر مثلا أنني عندما كنت أذهب إلى الصلاة ويدعو الإمام على الكفار أحسّ بنوع من الاضطراب عندما أرى سائحا. في سنة الباكالوريا رياضيات تقنيّة وفي مادة الإنكليزية التي كان ضاربها ضعيفا أسمَعتنا الأستاذة أغنية “تخيّل” لجون لينون قائد مجموعة البيتلز. وكان ذلك نقطة تحوّل في حياتي. لأول مرّة أسمع أغنية تَدفعني إلى التفكير”.

بدأ الموسيقى في سن السادسة والعشرين عندما رأى في مدرسة الفنون الجميلة أحدهم يعزف في الساحة لأول مرة أمامه، فاشترى قيتارا بـ70 دينارا من المنحة الجامعية (80 دينارا آنذاك)، باعَه بعد مدّة لأنه أفلَسَ، ليشتري بعد ذلك قيتارا آخر ويتدرّب عليه مأخوذا بسحر الموسيقى، كشكل فنّي حيّ يجمع بين المجرّد والمحسوس، بين الأبدي والزائل. وسـتقُوده فلسطين إلى أول الطريق. ليست فلسطين بالنسبة إلى ياسر مجرّد وطن مسلوب، بل هي اختبار لما يُبقي على الإنسان إنسانا، وفيها يتكثّف  التاريخ ليشفّ عن مفارقاته ومعضلاته. هي جزء من تاريخه الشخصي، جزء من كونيته.

في نفس الحوار مع المفكّرة يروي كيف أنّ اسمه قاده إلى فلسطين: “أنا لي حكاية خاصة مع فلسطين. أسمَاني أبي على اسم ياسر عرفات، لأنّه شارك في حرب 1948. فقد ذهب مع 14 من رفاقه في قابس، حين فزع للقتال في فلسطين 12 ألف تونسي. غضب جدّي وأرسل عمّي للحاق بهم، فتركوه نائما في بن قردان (ولاية مدنين الحدودية مع ليبيا) وأكملوا طريقهم الذي لم يكن سهلا؛ على الأقدام، ومنهم من مات في الصحراء. بقيَ أبي عامًا كاملا هناك، وأنا الوحيد بين إخوتي من سماّه باسم زعيم فلسطيني ولا أعرف لماذا؟ كان كثيرا ما يُحدّثني عن القضية الفلسطينية، وأنا كنت منغلقا ولا أجد هوَى إلا في كرة القدم. في ذكرى يوم الأرض الذي كان يحتفل به اتحاد الطلبة، عرفت وقتها الشاعر الفلسطيني محمود درويش وأذهلني هذا البيت: “لو يَذكر الزيتون غارسه لصار الزيت دمعا”، وما عَجزَ عنه أبي صنعَه محمود درويش ببيت شعري. وهنا تكمن قدرة الفن الرهيبة على التغيير، لأنّه لا يكتفي بملامسة العقل والأفكار، بل يذهب أبعد إلى الروح. تلك الصورة وذلك التركيب لا تستطيع قراءتهما سوى الروح. العقل يفكّك شفرتها ولكن الروح تستسيغها، حالها حال أغنية أو مشهد مصنوع بالضوء في فيلم، الروح والذوق هما من يستوعبان. لم نُعطِ اهتماما لصناعة ذوق (يأتي من التأمّل واستسَاغة الجمال في الطبيعة) يَجعل من يذهب إلى الشاطئ لا يلوّثه طوعا، وليس خوفا من زجر القانون.

ويواصل: “كنت أكتفي بترديد أغاني الآخرين، حتى شاهدت مشهد اغتيال محمد الدرّة، أثناء الانتفاضة الفلسطينية عام 2000، ومن سذاجتي كنت أعتقد أن فلسطين ستُحرّر في الغد لأنّ الجميع صار لهم الآن وعي بما يحدث. لم يقع شيء، فمَرضت. ولم أعرف ماذا أفعل. فكتبت أوّل أغنية لي “سكاتْ” ولم أكن أدري هل هي أغنية أم لا، وبقيت ثلاثة أشهر من دون أن أغنيها لأحد، حتى  تشجعّت وأسمَعتها لصديق، فتأثر وسألني لمن الأغنية؟ ووَقتها فهمت أنّها قد تكون أغنية. فلسطين لها الفضل في أنني تخطيت تلك الخطوة الصعبة: من مجرد مردّد لأغاني الآخرين إلى شخص آخر يكتب ويجلب شيئا من العدم إلى الممكن”.

جَلب ياسر من العدم إلى الوجود أشياء كثيرة، والأهمّ أنّه خرج إلى هذا الوجود التونسي وأنشأ دوائرِه في الموسيقى وفي الفن التشكيلي وفي الحراك المدني، ليبقى جوهرا كريما يلمع في “ليل الذئاب”.[3]


[1] مقتطفات من حوار أجراه ياسر جرادي مع قناة “كيف ديلر بودكاست” على اليوتيوب. وستكرر المقتطفات من هذا الحوار طيلة المقال.

[2] يمن الأنسب العودة إلى  فيلم “نرجعلك ديما” لرفيق العمراني الذي بثته قناة الجزيرة الوثائقية عن ياسر ورِحلته التي قطع فيها أكثر من 1600 كيلومتر وشقّ بدراجته 16 ولاية بحثا عن اللقاء مع الناس بعد أيّام الحظر الصحّي.

[3] الاستعارة هنا من عنوان كتاب سركون بولص “حامل الفانوس في ليل الذئاب”

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني