“أنا علقان بالقنطرة ما معي سيارة، ناطر أهل الشهدا بس يجوا يدفنوا أولادهم بنزل معهم”، يقول يوسف الصغير (50 عامًا) من أبناء بلدة القنطرة الجنوبية قضاء مرجعيون. نبرة صوته تحمل مزيجًا من القلق والسخرية من قدره، هو الذي رفض طيلة الأشهر السابقة الخروج من القرية، على اعتبار أنّ الأهداف الإسرائيلية في المنطقة “محدّدة” و”ضمن قواعد الاشتباك”. باغته انفلات الإجرام الإسرائيلي واشتداد حدّة الغارات وسيل القذائف المتساقط على القرية منذ الأحد الفائت. وفي صباح يوم الإثنين الباكر (23 أيلول الجاري) اكتشف أنّ جميع من كانوا في القرية ومن يملكون السيارات غادروا، فيما بقي هو وحيدًا “فلّوا وتركوني وما في سيارات حتى موقّفة حتى دوّرها وفل”.
يقتات يوسف من معلّبات الحصص الغذائية التي كانت تصله والتي تخوّله الصمود لحوالي عشرة أيام لا أكثر، وأنّه في الليل لا يتجرّأ على إضاءة الأنوار وحتى السيجارة يخاف من إشعالها. وبات نشاطه اليومي يقتصر على تفقّد المنازل الذي يطالها القصف ليلًا “كلّ يوم الصبح بروح بتفقّد البيوت لي تهدّمت بالليل”. ويضيف أنّ حدّة الغارات ازدادت وباتت عشوائية.
هجّر العدو الإسرائيلي المزيد من الجنوبيين قسرًا كما يفعل دائمًا، مع توسيع غاراته على جنوب لبنان والبقاع وتشديدها بحصيلة مؤلمة من مئات الشهداء وجلّهم من المدنيين. وتجاوز عدد النازحين نصف مليون شخص بحسب وزير الخارجية عبد الله بوحبيب، منذ توسّع العدوان نهار الإثنين الواقع في 23 أيلول 2024، وحتى اليوم ما زال هناك عدد من الناس في قراهم التي تتعرّض للعدوان، منهم من اختاروا الصمود في أرضهم متحدّين آلة الحرب الإسرائيلية، ومنهم من أجبرهم غياب أيّ خطة إجلاء في إطار خطة طوارئ على البقاء في منازلهم، ومنهم من باغتهم توسّع العدوان وباتوا عالقين لا يملكون وسيلة نقل للخروج من القرية والنزوح مثل يوسف. هذا عدا عمّن علقوا لأيّام في بلداتهم ولم يستطيعوا اللحاق بركب النازحين لعدم توفّر وسائل نقل لديهم أو لتواجدهم في أماكن تتعرّض لقصف شديد، قبل أن يتدبّروا أمورهم ويخرجوا.
أديب عالق في بلدة الضهيرة
بخفّة دم يمازحنا أديب فنش عبر الهاتف قائلًا: “أنا علقت هون وهلّق ناطر بس يخلصوا دخاناتي بركب عالحمار بحمل علم لبنان وبنزل”. كان أديب رافضًا مغادرة قريته الضهيرة طيلة فترة العدوان إلّا أنّه اليوم ومع توسّع الحرب لم يجد من يقلّه من القرية، “بالفترة السابقة ضلّيت دير بالي على الرزق والبستان بسقي بشحّل بزرع، بس هلق الضرب عن بو جنب، بدّي فلّ مش قادر”.
يقول فنش إنّ صاحب البستان كان يأتي إليه كلّ أربعة أيام من بلدة الناقورة حاملًا إليه ما يحتاجه من مواد غذائية وسجائر ووقود للمولّد الكهربائي الذي يستعمله لضخ المياه من البئر الارتوازي، إلّا أنّه مع اشتداد الحرب ما عاد قادرًا على المجيء. ويضيف أنّه اليوم مع ارتفاع حدة الخطر، انتقل للعيش مع صديقه الراعي بالقرب من مركز قوّات حفظ السلام، حيث يتشاركان الطعام “رفيقي بيأمّن الحليب واللبن وأنا بيكون عندي رز أو معكرونة منطبخ ومناكل”.
يؤكّد أديب فنش أنّ القرية خلَت إلّا من سيّدة تعيش وحيدة تدعى رضيّة سويد لم تتمكّن من النزوح، ولكنّه لا يعرف شيئًا عن أحوالها، وكانت قوّات اليونيفيل والجيش اللبناني غالبًا ما يزوّدونها بالخبز وبعض المواد الغذائية، إلّا أنّ أحدًا لم يخرج من مقرّه في الأيام الماضية، على حد قوله.
وكان فنش قد نُقل إلى المستشفى قبل حوالي أربعة أشهر بعدما قصف منزله وأصيب بجروح، ما اضطرّه إلى الابتعاد عن القرية حوالي الشهر.
ويقوم أديب بمساعدة عناصر الدفاع المدني عبر تزويدهم بالمياه من البئر “الحرايق كثيرة عنّا بالضيعة، بيجوا عناصر الدفاع المدني بعبّيلهم ميّ من البير، إذا فلّيت كيف بدّهم يطفّوا الحرايق”.
نادر مُجبر على البقاء “شو أمّنتلي الدولة حتى إضهر من بيتي”
وفيما أديب عالق في الضهيرة كذلك شقيقه نادر الذي نزح قبل سبعة أشهر إلى منطقة صور، مجبر على البقاء، يقول في اتصال مع”المفكرة” إنّه لا يملك أي وسيلة نقل خاصّة به تقلّه إلى بيروت، وهو لا يعلم حتى إلى أين سيتوجّه خصوصًا أنّه يرفض النزوح إلى مركز إيواء: “هربت أوّل مرّة من الضيعة وبصور نقّلت 3 بيوت حتى استقرّيت، هلق إرجع أهرب؟ شو مأمّنتلي الدولة تحت”.
وازداد إصراره على البقاء في منزله بعد متابعته عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي ما حلّ بالنازحين، الذين قضوا ساعات في السيارات أو لم يجدوا منازل تأويهم، “أنا معي خمس أولاد وما معي سيارة وين بدي روح فيهم، انزل بالفان؟ رح يزتّني عالطريق، وإذا ما لقيت بيت وين بدّي روح؟ بنام عالشارع”. ويتابع أنّ مؤسّسات الدولة كما في كلّ مرّة مقصّرة في واجباتها تجاه مواطنيها.
يقول نادر فنش إنّه يصبّر نفسه بأنّ منزله قريب من مستشفى جبل عامل التي لم يضربها العدو في جميع الحروب السابقة. ويتابع أنّه في حال ازداد الخطر فإنّه سيلجأ إلى “حارة المسيحية” في صيدا كونها آمنة نسبيًا برأيه، أما بالنسبة للغذاء يضيف أنّ لديه من التمويل حاليًا ما يكفيه.
سنيّة بقيت في حولا وأربع أو خمس أشخاص غيرها
على الرّغم من سيل القذائف والصواريخ التي تنهمر على قريتها الحدودية حولا منذ بدء العدوان الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر وبعد توسّعه في 23 أيلول، ترفض سنيّة قطيش (60 عامًا) إقفال دكّانها والنزوح عن منزلها، وتقول لنا إنّها باقية وإنْ استشهدت فيكون هذا قدرها. فسنيّة لم تغادر حولا يومًا في كلّ الإعتداءات الإسرائيلية السابقة لذلك لن تفعلها اليوم، كما تقول. وهي صامدة في حولا مع أربعة أو خمسة أشخاص فقط في القرية منهم راعٍ يأبى ترك قطيعه.
لا تخاف سنيّة على نفسها بقدر انشغالها على عناصر كتيبة الجيش اللبناني المتمركزة بالقرب منها، فهم يعتمدون على دكّانها لشراء حاجيّاتهم الأساسية، وتعيش مع حيواناتها الأليفة، “عندي أربع كلاب وشي عشرين بسينة بطبخ برغل وبطعميهم”. إلّا أنّها تخاف من الكلاب إن جاعت إذا ما طالت الحرب، “البسينات بيمشي حالهم بس الكلاب إذا جاعوا بيصيروا شرسين وممكن يهاجموني”. وتضيف أنّ أحد المتطوّعين كان يزوّدها بالطعام للكلاب إلّا أنّه ما عاد قادرًا على الوصول إلى القرية اليوم.
بالنسبة إلى سنيّة، أهم احتياجات الصمود هي المأكل والمشرب والدواء، وهي لديها ما يكفيها لأربعة أشهر على حد قولها “أنا قادرة أصمد أربعة أشهر، بيكون صرنا على أبواب الربيع”.
تتحسر سنيّة على أبناء قريتها الذين نزحوا واستشهدوا في بلدة المعيصرة يوم الأربعاء 25 أيلول، وتفكّر “إذا هربت يمكن موت عالطريق أو ببيت غريب، لا موت واندفن ببيتي أشرف لي”، وهو قلق مشروع فإسرائيل لحقت الجنوبيين إلى بيوت نزوحهم.
علاء وجواهر وطفلاهما باقون في كفركلا
“بس تطلع غارة بالليل بينقزوا الأولاد، بيخافوا، منقوم منهدّيهم قد ما فينا”، يقول علاء سليمان الذي ما زال وعائلته المكوّنة من زوجة وطفلين، واحد بعمر السنتين وأخرى لا تتجاوز ثمانية أشهر، في كفركلا. “ما معي مصاري استأجر بيت، وين بدي روح، لا، بضلّ بالضيعة مع أولادي أشرف إلي”، يقول لـ “المفكرة”. وبعد أن حسم أمره بالبقاء فكّر أنّه ما زال قادرًا على توفير جميع احتياجاته من بلدة مرجعيون القريبة التي ما زالت محالها مفتوحة. أمّا مياه الشرب والخدمة فيؤمّنها من “عين الماء” التي ينتظر كهرباء “الدولة” ليشغّل مضخّتها ويسارع إلى تعبئة الغالونات.
يدرك سليمان خطورة بقائه في القرية وخصوصًا لجهة التنقّل على الطرقات، ويقول إنّ أصعب اللحظات التي يعيشها هي حين يضطرّ للابتعاد عن المنزل لشراء احتياجاتهم مخافة أن يقع مكروه في غيابه. “التنقّل صعب بس بقول خلص هيدا قدرنا”. زوجته جواهر تقول إنّها مصرّة على البقاء وأطفالها في القرية “لأنّنا شفنا شو صار بالعالم على الطريق، كيف بدي إنزل مع ولدين”. وتتابع أنّها خلال القصف تحاول تهدئة أطفالها قدر الإمكان عبر اشغالهم بالألعاب.
بضعة صامدين في قرية علما الشعب
وفي قافلة واحدة نزح نهار الأربعاء 25-11-2024 حوالي 125 شخصًا من قرية علما الشعب، بعدما اشتدّت حدة العدوان على القرية فيما بقي 35 شخصًا لبنانيًا وثلاث عائلات سورية بحسب عضو البلدية وليام حداد. ويقول حداد في اتصالٍ مع “المفكرة” أنّ صمود الأهالي بات صعبًا جدًا، وما عادت البلدية قادرة على تزويد المولّد الكهربائي بالوقود.
تقول المختارة زهر توباي التي لا تزال أيضًا في القرية لـ “المفكرة”، إنّ من بقي في القرية هم الذين لا يملكون بيوتًا تأويهم خارج الجنوب وهم أغلبهم من المزارعين الذين لا يحبّذون ترك أراضيهم ومنازلهم. وتؤكّد أنّ الظروف المعيشية تزداد سوءً فليس هناك صيدلية، وحتى الدكّان يفتقر إلى الكثير من المواد الأساسية. وتضيف أنّه في الأشهر السابقة كان أبناء القرية الصامدون يتعاونون على توفير احتياجاتهم، أما اليوم فالتنقّل بات مستحيلًا. “قبل كان حدا يقدر يروح ويجي، لي نازل يجيب خبز أو ماي للعالم، هلّق ما حدا قادر يتحرّك”.
وتؤكّد توباي أنّ الأوضاع خلال حرب تموز كانت أسهل من اليوم “حرب تموز كانت قاسية بس سريعة يعني 33 يوم تحمّلت الناس، بس هلق صرلها الحرب سنة”، مضيفةً أنّه نظرًا لحدة القذائف المنهمرة، من لم يخرج من القرية بات عالقًا وهناك خطورة على خروجه، هذا ويلجأ الأهالي إلى كنيسة البلدة في بعض الأحيان لفترات قصيرة حين يشتدّ القصف.
يقول مسنّون، سواء من الصامدين أم الذين أرغموا على النزوح، إنّهم كعادتهم منذ سبعين عامًا، تاريخ اغتصاب الكيان الصهيوني أرض فلسطين المحتلّة، سيتخطّون ما يحدث، وإنّ الناجين سيخبرون كيف صمدت سنيّة في حولا طيلة 12 شهرًا وأكثر، وحيدةً تطعم القطط والكلاب الشاردة، وكيف أبى قاسم حمدون (90 عامًا) ترك منزله في قرية فرون كعادته في جميع الحروب، وسيحكون قصص منازل شيّدها أجدادهم وكانت لها رائحة الطين وحجارة الأرض.
سيعودون من جديد إلى قراهم، يؤكّدون، ليزرعوا أرضهم قمحًا وتبغًا وزيتونًا. وكالعادة أيضًا سيصير هذا العدوان ذكرى أليمة، وستغدو جميع قصص الشهداء المؤلمة المبكية التي يعيشها اللبنانيون حزنًا على أحبّائهم وأهلهم اليوم، قصص نجاة أطفال وأحفاد الغد.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.