“لمن القانون؟” سؤال يفرض نفسه على أيّ مجتمع يرغب في قياس منسوب الديمقراطية فيه. (1) فمن يصنع القاعدة القانونية بمعناها الواسع وما هي صفته التمثيلية؟ وما هي الضوابط التي تحكم عمله؟ و(2) بما لا يقلّ أهمية، ما هي القوى القادرة على التأثير في صنّاع القاعدة القانونية، سواء في اتجاه دفعهم أو حثهم على وضعها أو ثنيهم أو منعهم من اتخاذها؟ و(3) أخيرا، ما هي المجالات المتاحة لاستخدام القاعدة القانونية في مواجهة صانعيها؟
من يصنع القاعدة القانونية؟
من أبرز أحداث 2018 حصول الانتخابات التشريعية للمرة الأولى منذ 2009. وقد حصلت هذه الانتخابات على أساس قانون انتخاب جديد، زاوج ووازن عمليا بين الأنظمة الانتخابية النسبي والتفضيلي والأكثري. فالنسبي مكّن كل لائحة من الحصول على عدد من المقاعد وفق نسبة الأصوات التي حصلت عليها في الدائرة الانتخابية المعنية، وذلك بخلاف النظام المعمول به سابقا حيث كانت القوة السياسية التي تحظى بأكثرية الأصوات في دائرة معينة تحصد جميع مقاعدها. النظام التفضيلي مكّن الناخب من إعطاء صوت تفضيلي واحد لأحد المرشحين من ضمن اللائحة التي انتخبها، بحيث يحصد المقاعد المكتسبة من اللائحة المرشحون الذين حصلوا على أكبر عدد من الأصوات التفضيلية. وقد أدى منح هذا الصوت الواحد إلى شخصنة الخيار الانتخابي وتطييفه وعموما إلى تغليب كفة الأقوى والأثرى والأكثر قدرة على استثارة الحس الطائفي. الأكثري بقي حاضرا بفعل تصغير الدوائر الانتخابية (إحداها اقتصر عدد المقاعد فيها على 5 مقاعد)، بحيث ضمن هذا العامل عموما للقوى السياسية الكبرى تقاسم المقاعد فيما بينها، مع تهميش القوى السياسية المعترضة أو الناشئة. وبنتيجة ذلك، تمكنت القوى السياسية المهيمنة على مجلس النواب (2009-2018) من إعادة تقاسم المقاعد فيما بينها بشكل أو بآخر، مع استثناءات بقيت جدّ محدودة. وقد أسهم في هذه النتيجة، توجّه وزارة الداخلية إلى الحدّ من صلاحيات هيئة الإشراف على الانتخابات وبالأخص من مواردها، على نحو منعها عمليا من فرض رقابة جدية على أعمال صرف النفوذ أو الإنفاق أو الإعلان الانتخابيين.
ومن أبرز الاستثناءات على تحكم القوى السياسية المهيمنة على نتائج الانتخابات، انتخاب النائبة بولا يعقوبيان تبعا لترشحها عن القوى المعترضة في بيروت. كما مكّن النظام الانتخابي النائب أسامة سعد من اكتساب استقلالية معينة. كما برز خطاب متمايز لعدد من الوجوه الجديدة ضمن الكتل الأخرى وفي مقدمتهم النواب شامل روكز وجورج عقيص وألبير منصور. كما نجح حزب الكتائب المنتقل منذ حين إلى صفوف المعارضة في الحفاظ على ثلاثة مقاعد، على نحو ضمن التعبير عن آراء مخالفة إضافية في العديد من القضايا العامة.
ومن دون التقليل من أثر حضور النواب المعترضين في الخطاب والعمل البرلمانيين، تبقى وجهة العملية التشريعية، وبخاصة بما يتصل بإقرار القوانين الأكثر تأثيرا في الحياة العامة، مرتبطة بدرجة كبيرة باعتبارات النظام التوافقي، أي النظام القائم على التوافق بين القوى الطائفية الحاكمة أو ما يصح تسميته نظام “الزعماء” أو “الأقطاب”. وخير دليل على ذلك هي الأسس التي قامت عليها الحكومة المنبثقة عن هذه الانتخابات، والتي لم ترَ النور إلا بعد قرابة تسعة أشهر من المفاوضات والمساومات بين القوى الحاكمة، والتي بقيت هي نفسها من بعد الانتخابات كما من قبلها.
ومن أبرز عيوب هذا النظام، المرونة الفائقة للسلطة السياسية في تغليب التوافقات الحاصلة بين أعيانها على أي قاعدة قانونية أخرى، مهما سمَتْ في الهرمية القانونية، بما فيها القاعدة الدستورية. وعليه، وفيما كان مجلس النواب في هيئته السابقة قد أقرّ قانون الموازنة العامّة لسنة 2018 بمخالفة صريحة للدستور وتحديدا للمادة 87 منه التي تفرض استباقه بإقرار قانون قطع حساب للسنة السابقة، فإنّ المجلس في هيئته الحاضرة عاد وسمح بمخالفة المواد الدستورية الخاصة بالموازنة العامة من خلال إقرار قانون يجيز للحكومة العمل وفق القاعدة الإثنتي عشرية حتى أيار 2019. ولم يجد وزير المالية علي حسن الخليل ولا رئيس الحكومة سعد الحريري حرجا في مطالبة النواب –الذين سارعوا إلى الموافقة- بإقرار قانون غير دستوري نظرا للضرورة.
وبما لا يقلّ خطورة عن ذلك هو تبرير المخالفات القانونية الكبرى باعتبارات السياسة التي تعني في عمقها اعتبارات المحاصصة. وهذا ما نستشفّه من إجابات رئيس الحكومة على الأسئلة النيابية الموجّهة إليه بخصوص التوظيف العشوائي الحاصل قبيل الانتخابات ومن دون مباراة في مقابل الامتناع عن توظيف الناجحين في المباريات، أو بخصوص طول المحاكمات والتوقيف الاحتياطي وما يستتبعهما من مطالبات بالعفو العام عن جرائم جد خطيرة. فرغم اتصال هذه المسائل بمجموعة من القواعد الدستورية والقانونية، لم يتوانَ الحريري عن القول بأنها كلها غير قانونية إنما سياسية. وعليه، يصبح السؤال المبحوث في هذا المقال: “لمن القانون في لبنان؟” مرادفا إلى حد بعيد لسؤال أكثر وضوحا مفاده: “لمن السلطة السياسية في لبنان؟”، طالما أن امتلاك هذه السلطة يسمح لأصحابها بالتنصّل من مجمل الضوابط الدستورية والقانونية التي تكون في أحسن الأحوال إحدى أوراق التفاوض يستخدمها هذا الفريق أو ذاك في المساومات الحاصلة، من دون أن يجد حرجا في التخلي عنها تماما لمصلحة ما ينتهي التوافق إليه.
وما يزيد من هيمنة هذا النظام على صناعة القانون وتاليا تحديد الجهات المستفيدة منه، هو سعيها إلى مركزة صناعة القانون ومعها السلطة فيها. وهذا ما يتأتى عن مجموعة من المعطيات: منها بطء اللجنة الفرعية المنبثقة عن لجنة الإدارة والعدل في درس مشروع قانون اللامركزية العالق منذ سنوات لديها، والتأخير المتعمد في إرساء أو تفعيل عدد من الهيئات المنشأة بحكم قوانين، والتي يفترض بها أن تشارك في اقتراح المادة القانونية أو إنتاجها أو تنفيذها أو مراقبة تنفيذها، ومن أهمها الهيئة الوطنية لسلامة الغذاء والهيئات الناظمة للكهرباء أو الاتصالات والهيئة الوطنية للكشف عن مصائر المفقودين والمخفيين قسرا.
وفيما تم تعيين أعضاء الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان في أيار 2018، فإن أعضاءها لم يدعوا حتى الآن إلى أداء اليمين. كما لم يصدر مرسوم بتحديد رواتبهم، رغم أن القانون يفرض عليهم التفرغ لأعمالهم في الهيئة. والأهم، لم يحدد مرسوم تعيينهم من بينهم، لجنة الوقاية من التعذيب.
الأسوأ هو صدور قانونين في 2018 و2019 لتمديد مهلة الترشح للمجلس الدستوري الذي يتولى تقييم مدى دستورية القوانين، بحجة أن قائمة المرشحين لا تضمّ عددا كافيا من المرشحين من طوائف معينة. وعدا أن صدور هذين القانونين يشكل دليلا على نية السلطة الحاكمة في إخضاع التعيينات في المجلس لمعايير المناصفة الطائفية وما يستتبعها من تحاصص فيما بين أعيانها، فإنه يولّد مخاوف مشروعة من وجود نوايا اجتذاب مرشحين بأعينهم خدمة لهم وضمانا لولائهم في الآن نفسه.
القوى القادرة على التأثير في صنّاع القاعدة القانونية؟
عند استعراض النتاج التشريعي لسنة 2018، نتبين بوضوح أن أكثر القوى تأثيرا في صناعته، هي القوى المقرضة أو المانحة، وذلك من خلال الاشتراطات المفروضة في مشروع “سيدر”. وتتأتى قوة التأثير هذه من الفرصة التي يتيحها هذا المشروع للحكومة باقتراض ما يتجاوز عشرة مليارات دولارا أميركيا لتنفيذ مشاريع خدماتية أو تنموية. فبتأثير من الدول المشاركة في هذا المشروع، تم إقرار قوانين هامة وبسرعة قياسية نسبيا بهدف إيجاد إطار قانوني للمشاريع، منها قوانين الماء والهواء ومعالجة النفايات الصلبة، وقوانين لا تقل أهمية بهدف مكافحة الفساد ومنها قانون كاشفي الفساد وأيضا قانون دعم الشفافية في قطاع البترول أو قانون تعديل الإجراءات الضريبية. ولإقرار بعض هذه القوانين (وخصوصا بعد انتخابات أيار 2018)، تم فتح دورات استثنائية للتشريع رغم الفراغ الحكومي الذي ساد طوال 8 أشهر بعد هذه الانتخابات وبخلاف الأعراف السابقة بعدم عقد جلسات تشريعية بغياب الحكومة. وقد تم تبرير هذا الأمر تماما كما حصل في سنوات الفراغ الرئاسي، بما سمي “تشريع الضرورة” الذي هو التشريع الضروري للاستجابة لشروط مشروع سيدر.
من جهته، برز تأثير أصحاب النفوذ الاقتصادي بما فيهم المتعهدين والأوقاف، في عدد من القوانين الأخرى. وقد تجلى هذا التأثير بشكل خاص في قانون الموازنة العامة لسنة 2018، حيث تم إعفاء العديد من المكلفين من الغرامات أو حتى من الضريبة نفسها بما يناقض مبدأ المساواة بين المكلفين ويشجع على مخالفة القانون، وكل ذلك من دون أي أسباب موجبة. كما استعاد المشرع القواعد المعتمدة في احتساب الضريبة على الأملاك المبنية، بحيث تحتسب انطلاقا من عائدات كل عقار على حدة، وعلى نحو يؤدي عمليا إلى انحسار مجال تطبيق الضريبة التصاعدية عن مالكي العقارات. كما تم تضمين الموازنة مادة تجيز تسوية مخالفات البناء، وإن عاد المجلس الدستوري وأبطل هذه المادة بحجة أنها من فرسان الموازنة.
بالمقابل، ما تزال تأثيرات القوى الاجتماعية الأخرى جدّ محدودة. فباستثناء إقرار قانون المفقودين والمخفيين قسرا والذي يعكس نجاحا للحراك العام وبخاصة لحراك ذوي المفقودين طوال عقود ويبقى مشروطا بوضع آليات سليمة لنفاذه، لم يسجل في سنة 2018 أي نجاح للمطالب والطموحات الاجتماعية الأخرى، سواء في فرض قانون معين أو منع إقراره. إنما، تجدر الإشارة هنا إلى أن متابعة الحراكات العامة أظهرت تناميا هاما للحراكات الحقوقية في مسائل حماية البيئة أو الدفاع عن استقلال القضاء (نشوء نادي قضاة لبنان وتبني اقتراح قانون استقلال القضاء وشفافيته من عدد من الكتل النيابية)، مؤشرات يؤمل منها تحقيق مكاسب معينة في سنة 2019 أو ما يتبعها.
أي استخدام للقاعدة القانونية لإنصاف المعنيين بها أو في مواجهة صانعيها؟
أخيرا، نتساءل عن مدى نجاح الحراكات في استخدام القاعدة القانونية لمواجهة السلطة السياسية أو لتعزيز حقوقها. وبالطبع، المجال الأكثر خصبا في هذا المجال هو عمل القضاء وهيئات الرقابة التقليدية وغير التقليدية، في اختصاصاتها المختلفة.
في هذا المجال، يبقى اللجوء إلى المجلس الدستوري مُتاحا فقط للنواب (مجموعة من عشرة نواب) والرؤساء ورؤساء الطوائف بما يتصل بقوانين الأحوال الشخصية وحقوق الطوائف. كما ينحصر حق هؤلاء بالطعن بالقوانين الصادرة حديثا، وخلال 15 يوما من نشرها في الجريدة الرسمية. بالمقابل، تبقى أبواب المجلس الدستوري موصدةً في وجه المواطنين، الذين يُمنع عليهم إثارة الدفع بعدم دستورية القوانين. وفيما نجح نواب حزب الكتائب في تكوين مجموعة من 10 نواب للطعن في قانون الموازنة العامة لسنة 2018، واصلت المفكرة في موازاة هذا الطعن جهدها لفتح ولو باب ضيق للقوى الاجتماعية لولوج المجلس الدستوري، من خلال تقديم مذكرة ضمنتها تقييمها للقانون المطعون فيه.
وقد حققت “المفكرة” بفعل التقاضي الاستراتيجي، نتائج هامة في عدد من الميادين، في 2018. من أهم نجاحاتها في هذا المجال، الحكم الصادر في قضية نقابيي سبينس والذي انتهى إلى اعتبار المس بالحرية النقابية جرما جزائيا، وأيضا الحكم القاضي بوجوب حماية بل تشجيع حرية التعبير وبخاصة حرية فضح الفساد سندا للمادة 13 من اتفاقية مناهضة التعذيب وأيضا الحكمين الاستئنافيين برفض تجريم العلاقات المثلية الحاصلة في الحيز الخاص. كما أبطل مجلس شورى الدولة التعليمات الصادرة عن المديرية العامة للأمن العام بخصوص دخول السوريين إلى لبنان وإقامتهم فيه، وإن ما برحت الحكومة متقاعسة عن تطبيقه. بالمقابل، تبقى نتائج التقاضي الاستراتيجي محدودة في مجال صون الأملاك العامة وحماية البيئة، وإن يؤمل حصول تحول بنتيجة تنامي الحراكات في هذا المجال.
أخيرا، لا بدّ من لفت النظر إلى التجربة الهامة التي باشرتها مصلحة الليطاني في ملاحقة ملوثي النهر أمام القضاء، والتي يؤمل أن تشكل نموذجا يحتذى لتنظيف سائر الأنهار وأيضا… البحر.
- نشر هذا المقال في العدد | 59 | نيسان 2019، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
لمن القانون في لبنان؟
- لقراءة المقال باللغة الانجليزية اضغطوا على الرابط أدناه:
In 2018, Whom Did the Law Serve in Lebanon?