لماذا نريد أن نعرف؟


2015-01-13    |   

لماذا نريد أن نعرف؟

أول رد فعل واجهته عندما وصلت إلى لبنان من قبل الأشخاص الذين التقيت بهم كان “ماذا جئت تفعلين هنا؟ عودي إلى سويسرا. لديك جواز سفر سويسري. انسي الماضي، فأنت محظوظة جداً؛ اشكري الله على ما حدث لك”. أدركت عندها أنني سأضطر إلى البدء بشرح بعض الأمور الأساسية. والعكس أيضاً: أن أفهم بعض الأمور الأساسية الأخرى عن البلد الذي كنت اخترت أن أعيش فيه آنذاك.

المشكلة الأولى:
كانت مشكلتي أنني لم أكن أعرف أين ولدت. لم أكن أعرف حتى إذا حصل ذلك في لبنان. بدأت أشك في كل شيء. حتى في ما أخبرني به والداي بالتبني. فكان بالإمكان أن أكون من أي مكان. وكانت مشكلتي أنني لم أكن أعرف متى ولدت تحديداً؛ ربما في شهر نيسان؛ ربما في أيار أو حزيران؛ لا أحد يهتم على أي حال. كانت مشكلتي أنني لم أكن أعرف كيف أجيب عن سؤال الأطباء عندما كنت في سويسرا وكان يتحتم علي ملء الفراغ: “هل هناك أي مرض وراثي في العائلة؟”. كانت مشكلتي أنني كنت أسمع نداءً داخلياً غريباً كل ليلة عندما كنت أنظر إلى القمر الأوروبي المتجمد. كانت مشكلتي أنني لم أكن أعرف بأي لغة أود الغناء. كانت مشاكلي… أنا، نحن…
لم تكن مشكلتنا إذاً في أي يوم من الأيام أننا أردنا عائلة أخرى أو أننا كنا نرغب في الهرب أو نبحث عن أم أخرى. أو أي شيء آخر، في المحصلة، لا أحد منا يرغب في ذلك.
كانت مشكلتنا مع الفراغات في الأوراق. مع عبارات معينة مثل “غير شرعي” أو ما هو أسوأ: “الترك”. ولاحقاً، عند السؤال للحصول على معلومات: “إنها الحرب، كما تعلمين”.
مشكلة مع الكذب. مشكلة مع غياب الحقيقة. وقد ساهمت بعض الأسر و/أو مؤسسات التبني في تفاقم الكذبة. أولاً، بالقول إننا أبناؤهم (أي الأهل المتبنّون) البيولوجيون وثانياً بإخبارنا أسوأ سيناريو على الإطلاق، معتقدين أن أحداً لن يتجرأ تبعاً لذلك على طرح أي سؤال في لحظات جميلة من المراهقة أو الرشد. وبالطبع، غالباً ما تحدو إجاباتٍ من هذا النوع آمالٌ بإنهاء حال الاضطراب الذي يعتمرنا، باستعادة شيء من السكينة، من السلام… السلام الذي لا أحد من المعنيين يؤمن باحتمال حصوله مجدداً. ولعله من الأصح القول، آمال في إرجاء الحرب إرجاءً متواصلاً.
نعم، إننا نتحدث عن الحقيقة، عن كذبة وعن قصة حقيقية لا بد من روايتها. هذا كل شيء لدي. لا مزيد من الفراغات. فطمس الحقيقة وفقدان الذاكرة لا يفيدان أحداً. والجسم سينطق في يوم من الأيام على أي حال.

في إجابة المشكلة الأولى:
فهمت أنهم كتبوا “غير شرعي” لأن الأب لم يكن الأب المثالي: المتزوج من الأم والثري والحاضر. كان يمكن أن يكون أي شخص آخر. المحبوب أو المكروه. مع نقطة واحدة مشتركة وهي أنه لم يكن حاضراً بكل بساطة في يوم ميلادنا. هل يجوز شرعاً أن تُترك امرأة وحدها وهي حامل؟ هل يجوز شرعاً الشعور بالخوف من الأب والإخوة و”الجيران” لدرجة كتمان سر معين مدى الحياة؟ أليس ذلك بالضبط ما هو غير شرعي؟ أن يتم إرسالنا، نحن ثمرة هذه العلاقات، وبسبب عبء الأخلاقيات المتخلفة في ما يُعرف بعاصمة الشرق الأوسط، أن يتم إرسالنا نحن أبناء الأرز إلى المنفى ونُحرم من دماء أهلنا وثقافتهم إلى الأبد…؟! دعونا نقتلع هذه الكلمة (غير شرعي) من رؤوسنا وملفاتنا ولساننا.
فهمت إذاً أنها كانت خائفة. خائفة من أن تُقتل، ربما، أو من أي شيء آخر. أن تُنفى بدورها. أن تجد نفسها مرغمة على التسول في الشارع… أن تكون نكرة … مصير ليس مثالياً في هذا البلد الشاسع. فهمت إذاً أن مواطني لبنان الذين يخشون فقدان حقوقهم الأساسية ويناضلون للدفاع عنها هم أشخاص في خطر في علاقتهم مع السلطة وأن السلطات تعرف ذلك. وكم أود التخلص من كل ذلك. الحمد لله أن بعضكم لا يزال هنا يستمع إلينا اليوم؛ أعلم أن الوقت غير مناسب الآن للتوجه بالشكر، إلا أنني أشعر برغبة عميقة في ذلك. فلو كنتم قد اختفيتم بدوركم، من كان ليرحب بنا؟ أشباح؟

المشكلة الثانية: أي حقوق أساسية؟
عندما يغيب الاسم وتاريخ الميلاد والجنسية وهوية الآباء؛ فعلى أي أساس يُفترض بنا بدء حياتنا؟ على أساس كذبة؟ عالم وهمي؟ تكهنات؟ يمكنني التحدث لساعات متواصلة… أقسم بذلك؛ ولكنني سأعفيكم من هذا اليوم. سأحاول بالأحرى الإجابة عن سؤال طرحه عليّ ناشط حقوقي عندما كنت جالسة أمامه للمرة الأولى وأمام الجميع: “ماذا تريدين منا إذاً؟”
أيها الوطن والمجتمع الدولي العزيزان،
نحن نريد اسماً، اسمنا الحقيقي.
نريد تاريخ ميلاد، يوماً حقيقياً.
نريد معرفة خصائصنا الصحية، خصائصنا الوراثية.
نريد أسماء أمهاتنا وآبائنا، بغض النظر عن قصصهم. إننا مستعدون للأسوأ ولكننا نريد الحقيقة.
نريد جنسيتنا الأصلية.
لا نريد أن يعمل لبنان فقط على تلك الحقوق الإنسانية الأساسية بل أيضاً سائر الهيئات الأجنبية التي قبلت هذا النوع من حالات الفصل غير القانوني وتعاونت على تسهيله.
نريد أن نعمل على الماضي والمستقبل للتمكن من التصالح مع الحياة الحاضرة.

عملياً، كيف نتعامل مع الواقع؟

كيف نتعامل مع الماضي، تعويضاً عما فاتنا؟
هنا، نطالب بمجموعة من حقوق نراها بديهية:

·          حقنا بالوصول إلى الوثائق الخاصة بنا (لدى المستشفيات، الأديرة، المحامين، المؤسسات الخاصة، وزارة الخارجية، وزارة الداخلية، المخاتير)،
·          حقنا في الجنسية اللبنانية (بقدر ما قد يبدو ذلك مجنوناً بالنسبة إليكم)،
·          حقنا بمواكبة متخصصة للتمكن من رصد خيوط قصتنا إذ إننا نبقى في حال صدمة،
·          حقنا بجبر الضرر من قبل السلطات المحلية والأجنبية والمحامين وسائر السفارات والجهات التي تعاونت من أجل تسهيل هوياتنا المزيفة والانفصال القسري وحجب الحقيقة وإلحاق الضرر بأمهاتنا البيولوجيات مدى الحياة، مع إرغامنا نحن، أمهات وأطفالاً، على دفع الثمن.

أي مقترحات للمستقبل؟
ما نطلبه هنا هو منع تكرار ما تكبدناه من وجع وثمن باهظ.
هنا، نطلب:
·          إنشاء مركز لمرافقة الأمهات العازبات،
·          وضع قانون مدني ينظم عمليات الانفصال (شهادات ميلاد حقيقية بالتنسيق مع وزارة الداخلية + موافقة حقيقية ووضع في عهدة أطر الرعاية البديلة بناءً على قرار واعٍ عند الحاجة)،
·          حظر استخدام كلمة “التخلي” في الخطاب الدولي. نقترح استخدام “إيداع”،
·          وضع مشاريع اتفاقيات جديدة للرعاية البديلة في لبنان،
·          العمل بما يخدم “المصلحة الفضلى للطفل والأم”،
·          تحديد هذه المصالح.

عملنا اليوم: البدء أخيراً بعيش حياة كريمة من جديد.

*ناشطة في مجال البحث عن الجذور، جمعية بدائل

نشر هذا المقال في العدد | 24 |كانون الثاني /يناير/  2015 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

حق المعرفة لألشخاص المٌتبنّين

انشر المقال

متوفر من خلال:

مساواة ، قضايا ، الحق في الحياة ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، لا مساواة وتمييز وتهميش



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني