تبعا لنشر أفلام توثّق أعمال التعذيب في سجن روميه ضد موقوفين اسلاميين، باتت لغة النكران غير ممكنة. فأكّد وزيرا الداخلية نهاد المشنوق والعدل أشرف ريفي صحتها وعزمهما على محاسبة المتورّطين فيها. كما أعلنت المديرية العامة لقوى الأمن الداخليّ أنّ لها الشّجاعة الكافية للتحقيق في المسؤوليات الناتجة عنها. ورغم مسارعة الاعلام إلى التداول في هذه المسألة، فإن الاعتصامات الحاصلة احتجاجا على هذا التعذيب اقتصرت على عائلات هؤلاء ومحازبيهم في مواقف تغلب عليها العصبية في مناطق عكار والبقاع وطرابلس. وهذه الحادثة وما أعقبها من مواقف تفرض ملاحظات ثلاث:
– أولاً، أنها تشكّل مؤشّراً جديداً على مدى انتشار التعذيب في أماكن الاحتجاز وعلى تحوّله الى نهج معتمد. والدلائل على ذلك لا نجدها فقط في الأفلام المُسرَّبة، إنما أولاً في إنكار وزارة الداخلية لاتهامات التعذيب من دون أيّ تحقيق. فلم تقرّ بصحة هذه الاتهامات إلا بعدما سطعت الأدلة عليها كالشمس. وبالطّبع، في ظل انتهاج سياسة “الانكار” هذه، وما تفترضه من ابراء ذمة مبدئيّ، يصبح النظام حمّالاً للعديد من الانتهاكات المنهجية الجسيمة ومنها التعذيب. وإذ ذاك، يقتضي القول أنّ الكشف عن هذه الصور بفظاظتها وفظاعتها انّما يشكل عاملا هامّا للانتقال من مرحلة النكران الى مرحلة البحث عن سبل إصلاح أساليب عمل الأجهزة الأمنية. وتكون الحكومة بالمناسبة نفسها مدعوةً الى تصحيح ردّها على اللجنة الدولية للتعذيب، والذي تنصّلت من خلاله من تهمة اعتماد التعذيب المنهجي في لبنان. ويكون المجلس النيابي بالمناسبة نفسها مدعواً الى اقرار اقتراح القانون بمعاقبة التعذيب وفقا لاتفاقية مناهضة التعذيب التي صادق لبنان عليها في 2000. وكانت المفكرة انتقدت الاقتراح كما وضعته لجنة الادارة والعدل لجهة حصره بحالات التعذيب خلال التحقيقات القضائية من دون التعذيب الحاصل بمعزل عن هذه التحقيقات كما هي الحال في هذه القضية. كما يتوجب إنشاء اللجنة الوطنية المنصوص عليها في بروتوكول هذه الاتفاقية ضمن أقصر المهل.
– ثانياً، أن بشاعة التعذيب المرتكب تؤشّر مجدّداً على خطورة تسيُّب أعمال الأجهزة الأمنيّة وتمدُّد أذرعها بمنأى عن الرقابة والمساءلة. فالسنوات الأخيرة تزخر بقصص تكاد تصبح سريالية على هذا التمدد الذي يكاد يلتهم ما بقي من المنظومة الحقوقية. فمن أعطى فرع المعلومات ومكتب مكافحة جرائم المعلوماتية صلاحيّات الضابطة العدليّة، في ظلّ غياب مرسوم صريح بهذا الشأن؟ ومن خوّل الأمن العام إقامة مملكة مستقلّة، من خلال منظومة تعليماته الداخلية التي قاربت في بعض جوانبها أعمال التشريع؟ وما الى ذلك من أسئلة، أكثرها سريالية هو اعلان الأمن العام صلاحيته في مراقبة العلاقات الشخصية للأجانب العاملين في لبنان. ومن المفيد التذكير هنا أن وزير الداخلية كان سخّر الانجاز الأمني الحاصل في سجن روميه للإنقضاض على مكسب حقوقي أساسي وهو امكانية عقد زواج مدني على الأرض اللبنانية. وكأنه بذلك يعطي الإنجاز الأمني زخماً يُمهّد للتضحية بالمنظومة الحقوقية برمتها.
– ثالثاً: أن ردود الأفعال على هذا الانتهاك صوّرته وتصوّره في محلات عدة وكأنه يعني الاسلاميين وحدهم. فهم وحدهم اعتصموا احتجاجا على التعذيب. وقد يكون من واجب المنظمات الحقوقية اليوم العمل على توسيع هامش الاعتراض على أحداث روميه بهدف إخراج هذه القضية من مستنقع العصبية وإرجاعها الى دوائر الحقوق الأساسية، حقوق الانسان. وبهذا المعنى، يسوغ التساؤل: لماذا لا نعتصم جميعا ضدّ تعذيب الاسلاميين في “ساحة النور”؟
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.