“
البيان الذي صدر أمس عن الاجتماع الذي حضره قرابة مائتي وخمسين قاضيا في قصر العدل تداعوا فيما بينهم وبحثّ من نادي قضاة لبنان، على خلفية التعرض لصندوق تعاضد القضاة، جاء متميزا جدا. ولا نبالغ إذا اعتبرناه منعطفا هاما في تطوّر المؤسسات والسلطات في لبنان، وبالأخص في مسار استقلال القضاء اللبناني. وهذا التمايز يتأتى عن اجتماع ثلاثة معطيات أساسية:
1. مطلب القضاة الأساسي هو قانون استقلال القضاء
للمرة الأولى، يعلن القضاة بصريح العبارة أن معركتهم الأساسية ليست صون ضماناتهم المالية، إنما الاستقلال الحقيقي للقضاء وتحديدا إقرار قانون استقلال السلطة القضائية. وبخلاف العريضة التي وقعها أكثر من 350 قاضيا في آب 2017، فقد تضمن هذا المطلب تفاصيل لما اعتبره القضاة ضمانات حقيقية للاستقلال، أهمها تمكين القضاة من انتخاب مجالسهم وضمان الاستقلال المالي والإداري لجهة التشكيلات والتعيينات.
ومن دواعي فخر “المفكرة” أنها أنجزت اقتراح قانون لاستقلال القضاء وشفافيته ونجحت في كسب تأييد عدد من النواب له، لتصبح اليوم الكرة في عهدة لجنة الإدارة والعدل، وتحديدا في عهدة رئيسها النائب جورج عدوان. فهل يعلن اليوم قبل غدا الاستجابة لمطالب القضاة في وضع الاقتراح على جدول الأعمال ومباشرة درسه، وفق ما تعهد به، بحضور ممثلي نادي قضاة لبنان، حين أعلن سنة 2019 سنة استقلال القضاء؟
2. السلطة السياسية تعتدي على السلطة القضائية لمنع مكافحة الفساد
فضلا عن ذلك، وبما لا يقل أهمية، وللمرة الأولى، يتحرّر القضاة تماما من اللغة الخشبية ليعلنُوا هنا أيضا بصريح العبارة أن السلطة السياسية تعتدي على سلطتهم، وتعمل على غلّ أيديهم عن “المكافحة الحقيقية للفساد”. هذا الإعلان هائل بكلّ المقاييس من زوايا عدة.
فهو يقطع مع أسلوب الترجّي والتمنّي والمناشدة والمجاملة التي غالبا ما وصلت حدّ الممالقة، والذي كان دأب مجلس القضاء الأعلى عليه في مخاطبته للسلطات السياسية، ليرسي خطابا جديدا في مخاطبة هذه السلطات على أساس الندّية ومع التذكير بأن ثمة فصلا للسلطات، أي حدودا تمنع أيّا منها من التغوّل على أخرى. وينقل العديد من القضاة ممن حضروا الاجتماع للمفكرة، أن اتهام السلطات السياسية بالاعتداء على سلطة القضاء كانت حاضرة بقوة خلال مناقشاتهم. ففيما تدخّل رئيس مجلس القضاء الأعلى جان فهد ليثني القضاة عن المضي في الاعتكاف بحجة أن السلطة (القضائية) لا تعتكف في وجه سلطة أخرى (السلطة السياسية)، جاءه الردّ من عشرات القضاة الحاضرين بأن الأوْلى أن لا تعتدي سلطة (السلطة السياسية) على سلطة أخرى (سلطة القضاء)، وهو الاعتداء الذي يجعل الاعتكاف مشروعا. وهذا ما سارع النائب جورج عقيص إلى تأكيده في تغريدة صدرت بعد لحظات من صدور البيان.
والتمايز هنا عن الخطاب السابق لم يقتصر على اتهام السلطة السياسية بالاعتداء، إنما ذهب أبعد من ذلك في اتجاه اتهامها بأنها تفعل ذلك بهدف غلّ يد القضاء عن المكافحة الحقيقية للفساد أو أي غاية أخرى. وهذا الاتهام إنما يُفيد بأن المسألة ليست مسألة تسلُّط من قبل السلطة السياسية وحسب، إنما هي بالدرجة الأولى مسألة تحوير لهذه السلطة، لاستتباع القضاة واستباحة المال العامّ بمنأى عن أيّ مساءلة أو محاسبة، فضلا عن التلميح لوجود غايات أخرى، قد يكون من بينها استغلال المراكز القضائية لتحقيق مكاسب سياسية. وهو اتّهام يؤدي هنا أيضا إلى قلب الخطاب العامّ السائد حاليا: فالخطاب السائد، يتشكل في معظمه من وعود لوزراء عدل وسياسيين بإصلاح القضاء وتطهيره من عناصره المتورطين بالفساد وغير المنتجين؛ وهي وعود غالبا ما صوّرت السلطة السياسية على أنها سلطة خيِّرة تنتهج الإصلاح في مجمل سياساتها في موازاة تصوير القضاء على أنه بؤرة فساد وعدم إنتاجية. وغالبا ما اعتمد هذا الخطاب على كثرة المنابر المتاحة للسلطة السياسية أبرزها برامج “التوك شوو”، مقابل حبس القضاة في بوتقة العزلة والصمت. كما غالبا ما هدف هذا الخطاب إلى اجتذاب تأييد الرأي العام في موازاة تأليبه ضد القضاء بما يمثله من مرجعية مع تخويف هؤلاء تسهيلا لاستتباعهم، من دون أن تؤدي إلى أي نتيجة إصلاحية حقيقية. والمدهش أن هذه التصريحات ذات الطابع الديمغوجي غالبا ما صدرت عن أشخاص تحوم حولهم شبهات جدية جدا بالفساد أو على الأقل ينتمون إلى مجموعات سياسية تنتهج ممارسات الفساد.
وقد جاء البيان هنا ليقلب هذه المعادلة رأسا على عقب وليعلن رفض القضاة وضعهم كجسم في موقع المتهَّم وتهيؤهم على العكس من ذلك للانتقال إلى موقع المتهِّم: فمن دون أن يتبرأ القضاة من تورط العديد منهم في الفساد وفق ما تظهره التحقيقات الأخيرة (بدليل أنهم دعوا إلى استكمال “حملة تنقية الجسم القضائي وفق القوانين” علما أن غالبية الأسماء المسربة هم في غالبهم من أقرب المقربين للسلطة السياسية)، فإنهم ذكّروا وعن حقّ، أن الفساد الأساسي والأكبر، الفساد الذي يؤدي إلى انتهاك المال العام وتبديده وإفقار الشعب وتهديد كيان الدولة، هو فساد عدد من المسؤولين السياسيين والإداريين. وعليه، وعلى نقيض ما عمد العديد من أعيان السلطة السياسية على تصويره، فإن الفاعل الأساسي في مكافحة الفساد وفق البيان هو القضاء المتحرّر من غلاله، القضاء المستقل، فيما أن العائق الأساسي أمامه هي ممارسات السلطة السياسية في غلّ القضاء واستتباعه، ومنها سعيها الحالي إلى المس بالضمانات المالية للقضاء. وهذا ما عبّر عنه البيان ببلاغة حين سجّل اعتراضاً على تحميل القضاة نتائج هدر ونهب المال العام، بدلاً من تعزيز وضعهم وإطلاق يدهم للشروع في استرداد الأموال المنهوبة ومكافحة الفساد.
ولا ننسى هنا التشديد على استخدام عبارتين وردتا في البيان:
الأولى “المكافحة الحقيقية للفساد” وهي عبارة تحمل بذاتها اتهاما بأن خطاب مكافحة الفساد الصادر عن السلطة السياسية يبقى حتى اليوم خطابيا (ديماغوجيا) أكثر منه حقيقي، بخلاف ما يتعهد القضاة القيام به تبعا لتحررهم من غلالها.
والثانية، “استرداد الأموال المنهوبة”، بما يعكس موقفا متقدما في توعّد المعتدين على المال العام، والذين نفهم من البيان أن العديد منهم ينتمي إلى السلطة السياسية أو المحسوبين عليها، ليس فقط في وقف اعتدائهم إنما أيضا باسترداد الثروات التي ما فتئوا يكدسونها على حساب الشعب كلّه.
3. مطالبة الشعب بالدعم في معركة استقلال القضاء ومكافحة الفساد
ختاما، يُلحظ أن البيان تميّز أيضا في كيفية مخاطبته القوى الاجتماعية (الشعب حسب تعبير البيان). فقد ذهب البيان ليس فقط إلى الاحتكام إلى الشعب بصفته مصدر كل السلطات، إنما أيضا إلى مطالبته بدعمه في معركتي استقلال القضاء ومكافحة الفساد. ومن هذه الزاوية، اكتسى البيان هنا أيضا أبعادا هامّة لا يستهان بها.
فهو أولا يقطع بوضوح كلي مع الخطاب السّائد لمجلس القضاء الأعلى الذي غالبا ما كان يعتبر شؤون القضاء شأنا داخليا للقضاء يتولّى هو إدارته بالتنسيق مع السلطات السياسية عملا بمبادئ التعاون والتكامل فيما بينها، من دون أن يكون للقوى الاجتماعية أي دور فيه. فعدا عن أن مجلس القضاء الأعلى لم يتوجه يوما إلى الشعب ولم يستجِب لأي من المبادرات الاجتماعية لإصلاح القضاء، فهو ما برح يدير مهامه بسرية مطلقة فلا يعلن لا عن جدول أعماله ولا عن قراراته، رافضا التجاوب مع أي طلب معلومات في مخالفة واضحة لقانون حق الوصول إلى المعلومات، وكأنما “الشعب” غير معني بتنظيم القضاء أو استقلاله أو شفافيته. وعلى نقيض ذلك، جاء البيان ليُنبّه الشعب لدوره الأساسي وربما الحاسم في تعزيز استقلال القضاء، وليدعوه إلى اعتبار هذا الاستقلال أولوية اجتماعية، على أساس أن غايته الأساسية، ليست تحقيق مكاسب خاصة بالقضاة، إنما أولا حماية المصالح الشعب وتمكينه من حماية موارده واسترداد الثروات التي نهبت منه. ولعل أكثر ما يسجل للقضاة في هذا البيان هو أنهم التزموا باستثناء قضايا الموقوفين من اعتكافهم، بما يظهر حرصا منهم على الحرية الشخصية للمتقاضين واعتبارها خطا أحمر لا تبرره أي غاية.
كما أن البيان يعكس من جهة ثانية تنامي الخبرة والمعرفة لدى عموم القضاة في كيفية خوض المعارك مع السلطة السياسية. فمعركة استقلال القضاء ومكافحة الفساد لا تُخاض بالتذكير بالدستور وبمبادئ فصل السلطات واستقلال القضاء والقانون وبشكل أعم “ما يجب أن يكون”، بل هي تتطلب اعتماد رؤية أكثر واقعية وأقل سذاجة قوامها التعاطي الجدي مع ما “هو كائن”، وبكلمة أخرى مع المعطيات الاجتماعية كما هي والسعي إلى تعزيز القدرات التواصلية مع الرأي العام وحشد القوى الواقعية وصولا إلى تفعيل هذه المبادئ. وقد تعززت هذه الخبرة طبعا من خلال المعارك التي دُفع القضاة إلى خوضها بشكل متكرر في السنوات السابقة ومن خلال معاينتهم الدقيقة لكيفية تفاعل الرأي العام مع الخطوات المتخذة منهم وضمنا للعوامل التي أدت إلى نجاحهم أو فشلهم. كما تعززت بنجاحهم في تجاوز العقبات أمام تأسيس نادي قضاة لبنان والذي سرعان ما تحوّل إلى إطارٍ لتضامنهم الداخلي وفي الآن نفسه أداة للتحرر من بوتقة الصمت والعزلة والاستفراد. كما تعززت هذه الخبرة مع انفتاحهم لتجارب النوادي العربية والدولية، والذي تجلى من خلال دعم الاتحادين العربي والدولي لتحركاتهم. ولا يخفى تأثير خطاب نادي قضاة الجزائر الذي وضع نفسه في خدمة الشعب على البيان الحاضر.
وفيما طوّرت مجمل هذه العوامل خطاب القضاة وتطلعاتهم ومشاعرهم بالثقة بالذات ومشروعية مطالبهم، فإنها مهّدت بشكل طبيعي وشبه حتمي للإنفتاح على القوى الاجتماعية.
وما يزيد دعوة القوى الاجتماعية لمؤازرة القضاء أهمية هو أنها تفتح عمليا مجالات واسعة للتعاون والتشارك بين القضاء والقوى الاجتماعية، وتاليا للتقاضي الاستراتيجي لحماية الصالح العام في مواجهة تجاوزات السلطة السياسية أو تقاعسها في أداء دورها. ولعل أهم ما فيها هو واقعيتها وبعدها عن المثالية الساذجة. فبقدر ما يصعب توقّع أن يتصدى القضاء للقضايا الاجتماعية الشائكة، وفي مقدمتها قضايا الفساد، في حال اضمحلال ضمانات استقلاليته، بقدر ما تزداد قدرته على تطوير وظيفته كحام للحقوق والحريات في هذا المجال في حال نجحت القوى الاجتماعية في تعزيز ضماناته وعمليا في تكوين حصن اجتماعي له في مواجهة أي انتقام أو تدخّل. بهذا المعنى، لا تكون صناعة العدالة وقفا على القاضي وحده، إنما هي نتاج يتطور بقدر ما تتطور العوامل الاجتماعية الداعمة لاستقلال القضاء.
هذه هي الميزات الثلاث للبيان والتي تؤشر إلى انعطافة أساسية في مسار استقلال القضاء اللبناني وتجدده. “المفكرة” تعد القضاة أنها ستكون وفية لالتزامها الدائم في دعم هذا المسار، داعية بدورها شركاءها وكافة القوى الاجتماعية والسياسية التفاعل إيجابا مع دعوة قضاة لبنان. فمعا نستطيع.
“