بثباته وبساطته المعتادَيْن، استطاع وائل الدحدوح، مراسل الجزيرة ومدير مكتبها في غزّة، أن يؤلّف حوله مختلف داعمي القضية الفلسطينية، هو الصحافي المكلوم الّذي فُجع في عائلته وأبنائه وزوجته، لكنّه واصل رسالته الإعلامية، وأصبحت كلمة “مَعلِش” التي نطقَ بها حين وصله نبأ مقتل أفراد من عائلته، علامةً للثبات والصمود. جاء وائل إلى تونس يوم 27 ماي، واختارها وجهةً أولى بعد انتقاله إلى قطر للعلاج منذ 16 جانفي الماضي، ليجد في استقباله لدى وصوله مطار قرطاج الدولي عددًا كبيرًا من المرحّبين. كانت هذه الزيارة، التي ستمتدّ لأسبوع، بدعوة من النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين. بدأت بعقد ندوة صحفيّة في مقرّ النقابة، ومن ثمّ ندوة ثانية بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار. ومن المنتظر أن يعقد الدحدوح يوم الجمعة القادم لقاءً شعبيا في قصر المؤتمرات وسط العاصمة، بتنظيم من المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ونقابة الصحفيين.
عرفَ وائل الدّحدوح كيف يرسم الحدود بشكل لا لُبس فيه بين المهنيّة في نقل الحدث، وبين وجع الفقد وشدّة الخطوب، حتّى يكون نموذجًا يُحتذى به في عدم المساومة بلقمة العيش وسلامة الأهل أمام واجب نقل الخبر وتأمين نفاذ كلّ الناس إلى المعلومة. واستطاع بذلك أن يكون درسًا في الصّمود والثّبات رغم آلة الاحتلال المجرمة التي لم تنفكّ تستهدف الصحافيين وذويهم.
ثنائية الموضوعيّة والألم
فقدَ وائل الدّحدوح أكثر من 13 فردًا من عائلته النواتية والموسّعة، بما فيهم زوجته وابنه وابنته وحفيدته، في مجزرة استهدفت مخيّم النصيرات الواقع في جنوب قطاع غزّة يوم 25 أكتوبر 2023، حيث نزحتْ العائلة التي كانت تقيم بمدينة غزّة إلى المخيّم بطلب من قوات الاحتلال الّتي أمرت بالتوجّه نحو الجنوب، على اعتبار أنّه منطقة “آمنة” ولن يطالها سلاح الاحتلال. استهدف الكيان وائل الدحدوح مرة ثانية مع حلول العام الجديد، ليفِقد ابنه البكر حمزة الذي كان ينقل الأحداث رفقة زميله مصطفى الثريا، وهما على متن سيّارة في منطقة خان يونس جنوب قطاع غزّة. حمزة الّذي قال والده في رثائه أمام الكاميرا: “ليس أصعب من آلام ووجع الفقد، فكيف إذا كان الفقد الولد البكر فلذة الكبد. حمزة ليس بضعة مني حمزة كان كلي. روح الروح وكل شيء”.
استهدفت جرائم الاحتلال وائل الدحدوح في 15 ديسمبر 2023، عندما كان برفقة زميله المصوّر سامر أبو دقّة بعد تصوير الدّمار الّذي خلّفه الاحتلال في إحدى المدارس في منطقة خان يونس. توفّي المصوّر بعد ست ساعات من النزيف المتواصل الناجم عن منع وصول سيارات الإسعاف إليه، فيما بقي وائل إلى الآن يعاني تبعات ذلك الهجوم، وهو لا يقوى الآن على تحريك ذراعه اليمنى.
يروي وائل أمام الحضور في معهد الصحافة وعلوم الإخبار، بألم يحاول مداراته بشيء من الحياد، تفاصيل تلك المجزرة، مذكّرًا بفزع الأهل عن أطفالهم في الظروف العاديّة عندما يتعرّضون إلى الأذى أو عندما ترتفع درجة حرارتهم، فيقضون الليل يتفقّدونهم أو يسرعون بهم إلى المستشفى. ولكن للحرب إكراهات لا يدركها إلا من عايشها مثل وائل الدحدوح وغيره من المصورين والصحافيين الميدانيّين. يقول وسط القاعة الغاصّة بالحاضرين: “ليس من السهل أن يكون الصحافي هو الحدث، وعنوان الخبر والصورة. إنّه أمر يفوق طاقة البشر. عندما قُتل أهلنا في النصيرات، لم نجد سوى دير البلح لدفنهم، وظلّت بقية البنات مصابات. لم أكن قادرًا على اتّخاذ أي قرار، ولكنّني صارحت بناتي وقلت لهنّ إنّني سأعود إلى عملي ويجب أن يأتين معي إلى غزّة. هكذا حتّمت الظروف”، ليضيف لاحقًا: أخذناهنّ إلى مستشفى الشفاء وأمنّاهنّ في شقّة، لتتصل بهنّ الاستخبارات الإسرائيلية وتطلب منهنّ العودة إلى الجنوب. لكنّي هربت إلى الأمام واصطحبتهنّ معي إلى المكتب. فإمّا أن نموت معًا أو نحيا معا. ثمّ حاولنا تهريبهنّ ثانية إلى المنطقة الوسطى سيرًا على الأقدام”، ليستنتج قائلا: “القرار هنا هو إمّا أن تواصل أو ألّا تواصل في ظل هذا الوضع الهستيري. هذا الحدث المفجع أخرج وائل الدحدوح من المشهد، ولكنّه ليس من المقبول بالنسبة إليّ أن أُغادر، ولا بدّ من الصمود أمام الكاميرا”.
الصحافة قضيّة لا وظيفة
تَقاسم وائل الدحدوح تجربته وسط حضور كثيف من الصحافيين المحترفين وطلبة معهد الصحافة وموظّفيه، وكان يسرد تفاصيل مأساته الإنسانيّة كصحافيّ فلسطيني فقدَ عائلته ولكنّه ظلّ ملتزمًا بحرفيّة عالية أمام مُصابه، مشدّدًا على أنّ الصحافة ليست مجرّد عمل نتقاضى لقاءه مرتَّبًا شهريًّا، بل هي “مَهمّة ورسالة إنسانية نبيلة ومقدسة”: “لا بدّ من الخروج من مربّع الوظيفة. إسرائيل لا تستهدف الصحافي الموظّف ولكنّها تحاول قتل النموذج الصحفي الملهم”، هكذا قال وائل الدحدوح أمام طلبة معهد الصّحافة. ليضيف: “عندما يبرز في الساحة نموذج ملهم على مستوى الصبر والشجاعة فهو أمر غير مسموح به في هذا العالم المجرم. صحيح أن الثمن باهظ، ولكنّ الأهداف الكبيرة ثمنها كبير”. وهي رسالة مهمّة وجّهها صحافي ميدانيّ فقد عائلته ليدفع ثمن تغطيته الحرب وكشفه فظاعة جرائم الاحتلال، مذكِّرًا بحصيلة القتلى من الصحافيين والمصوّرين والتقنيين وذويهم الّتي بلغت، بعد ثمانية أشهر من الحرب، ما يُناهز 150 قتيلاً. بالنسبة إلى وائل الدحدوح، هذا الأمر يعكس أمرَين: أوّلا، أهمية الصحافي ودوره في التغطية، وثانيًا، خوف الكيان المحتلّ من دور الصحافي ومن اقترابه من الميدان الّذي ستُرتكَب فيه الجرائم. وتساءل في هذا السياق: لو لم يوجد هذا الدور للصحفيين، ماذا كان سيجري؟ لو لم توجد قناة الجزيرة وجيش الإعلاميين الفلسطينيين؟ والمواطن الصحفي؟ عندها، إسرائيل تقتل من تريد. هذا الدور دُفعت من أجله أثمان تفوق التوقعات، ولكنّ بذور التغيير بدأت تتغيّر، والدليل على ذلك ما حصل في الجامعات الأمريكية، وهو ما يعكس حجم التغيير وأهمّيته.
“الحرب الكاشفة”
بصعوبة كبيرة، تمكّنت المفكرة القانونية من الحصول على تصريح إعلامي من وائل الدحدوح، الّذي لم يُبد تبرّمًا أو انزعاجًا رغم علامات الإجهاد البادية عليه. طرحت عليه المفكرة أربعة أسئلة، فكانت هذه تفاعلاته معها:
سؤال: هل أعادت حرب الإبادة تشكيل شخصية الصحفي الفلسطيني، ودوره وموقعه ضمن الأحداث؟
جواب: هذه ليست أول حرب يغطّيها الصحافي الفلسطيني، تمّت تغطية سلسلة من الحروب على قطاع غزة، لكنّ هذه شكّلت الذروة الفارقة لكل هذه المسيرة والخبرة الطويلة. لدى الصحافيين الفلسطينيين خبرات في هذا السياق ولكن هذه الحرب فاَقت كل التوقعات والتصورات ولكن ما يُسلِينا هو أنّ هذه الجهود التي يبذلها الصحافيون في قطاع غزّة ارتقت إلى مستوى الحدث وخطورته وحساسيته.
سؤال: كل هذا الصمت والتواطؤ مع جرائم الإبادة والتجويع والحصار اليومي، كيف أعادت تشكيل رؤية الفلسطيني للعالم، وبخاصة قوى النفوذ الدولية؟
جواب: هناك منظومات كثيرة أُسّست على مدار عشرات السنين ولبسَت ثوبا كان برّاقًا وجميلا من وجهة نظر كثيرين، لكن هذه الحرب أطلقنا عليها تسمية الحرب الكاشفة لأنها كشفت الناس على حقيقتها، ونحن أُوجِعنا كثيرا من بعض المؤسسات التي كانت تسوّق لنفسها على أنها واحة الحرية والديمقراطية، ولكن عندما جاء هذا الاختبار سقطت فيه، وهذا كان أمرًا موجعا ومؤلما. نحن نُحاول التعالي قدر المستطاع على تجاربنا الشخصية وآلامنا وأوجاعنا حتى نؤسّس للنموذج المهني الحقيقي الملتصق بهذه الحقوق”،
سؤال: ما رأيك بخصوص التضييق على مراسلي الجزيرة في أكثر من مكان، وبخاصة غلق مكتبها في تونس؟
جواب: نحن بشكل عامّ دائما نسعى ونعمل ونؤيّد بكل ما أوتينا من قوّة حرية الصحافة وحرية الرأي والتعبير وحرية الحق في المعرفة. وكصحفي ضمن شبكة الجزيرة وكصحفي بشكل عام وكإنسان دائما ننادي بحرية الصحافة والتعبير لأنّها حقوق مكتسبة وحقوق طبيعية ليس فقط في هذا البلد ولكن في كلّ البلدان.
سؤال: كيف يتخيل وائل الدحدوح مستقبل الحياة في غزة بعد كل هذا الدمار؟
جواب: الحياة في غزّة ما زالت صعبة والحرب لم تتوقف، فهي في كل ساعة وفي كل يوم تزداد صعوبتها.