قابلت “المفكرة القانونية” الخبير الإقتصادي توفيق كسبار في محاولة لتحديد جذور الأزمة في أبعادها الأربعة (النقدية والمالية والاقتصادية والاجتماعية) والمسؤوليات المتّصلة بها. وقد خرجنا بالحصيلة التي آثرنا تبويبها ضمن عناوين، بدل اتباع أسلوب السؤال والجواب.
وكسبار، دكتور في الاقتصاد، بريطانيا. شغل منصب كبير مستشاري وزير المالية في لبنان، وعمل كمستشار في صندوق النقد الدولي في واشنطن وكمصرفي في نيويورك وبروكسل وبيروت، وفي مصرف لبنان. حاضر في الاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت وجامعة القديس يوسف. صدر له عام 2004 كتاب بالانكيزية تحت عنوان: “اقتصاد لبنان السياسي 1948-2002: في حدود الليبرالية الاقتصادية”، عن دار بريل للنشر. وصَدَرَت ترجمة باللغة العربية عن دار النهار، بيروت.
“الفوائد المجرمة”
إن أخطر تجلّيات الأزمة الحالية بحسب توفيق كسبار، ليس انهيار سعر الصرف، بل خطر انهيار القطاع المصرفي برمّته، مع ما يستتبع ذلك من تداعيات اجتماعية وأمنية خطيرة. والإشكاليّتان مختلفتان، ولا تنسحب الأولى على الثانية بالضرورة، بدليل أنّّ لبنان عرف أزمات سابقة، خلال 1985-1992، انهار خلالها سعر صرف العملة الوطنية من دون أن يؤدّي ذلك إلى زعزعة القطاع المصرفي.
ولا صعوبة مطلقاً، وفق كسبار، في تحديد أسباب الأزمة وتحديد المسؤوليات. فالمسؤولية الكاملة والواضحة عن انهيار القطاع المصرفي اليوم، يتحمّلها المصرف المركزي والمصارف الخاصة. والمسبّب الرئيسي هي السياسة النقدية التي انتهجها المصرف المركزي و”هندساته المالية المجرمة” تحديداً منذ 2010 على الأقرب، إذ سدّد المصرف المركزي فوائد خيالية وغير منطقية بحسب المعايير المرجعية وأكثر بكثير مما كان عليه دفعه. فسوق الإستدانة بين المصارف ترعاها مؤشرات مرجعية أبرزها مؤشر LIBOR، وهو المعدّل الأساسي للفائدة (متوسّط معدلات الفوائد خلال فترة معيّنة في أسواق لندن المصرفية) الذي يضيف إليها كل مصرف هامشاً يقاس عادة بالكسور، لتحديد الفائدة التي يقرض على أساسها مصرفاً آخر[1]. وعادة ما تكون معدّلات الفوائد بين المصارف أدنى بكثير من تلك المفروضة على المستدينين من غير المصارف، ومن باب أولى تلك التي يستدين على أساسها مصرف مركزي.
ويؤكد كسبار أنه وبدل دفع معدل فوائد يزيد بنسبة كسور 1% أو 1% كحدّ أقصى – وهي تعدّ معدلات سخية جداً – بالنسبة للمؤشرات المرجعية، سدّد المصرف المركزي، وعلى مدة سنوات عدّة، نسبة فوائد توازي 5 و7% ووصلت حتى أكثر من 9%.
هنا يكمن إذاً لب الإشكالية: قيام المصرف المركزي بالإستدانة لسنوات طويلة من المصارف الخاصة، بفوائد فاحشة وغير مبررة.
وإن كان ممكناً تفهّم إضطرار المصرف المركزي إلى دفع فوائد سخيّة لفترة قصيرة محددة بسبب ظروف معيّنة، لم يعد هذا الخيار مفهوماً مطلقاً خلال السنوات العشرة الماضية على الأقل، وبخاصة حين وصلت الهندسات المالية إلى ذروتها في صيف عام 2016.
جشع المصارف وانحسار وظيفتها الإقتصادية
حملت هذه الفوائد المرتفعة جداً بطبيعة الحال المصارف المستفيدة إلى توظيف أموالها في المصرف المركزي طمعاً بوفر سريع وفاحش. وعليه، وصل توظيف المصارف بالدولار لدى المصرف المركزي إلى أكثر من 85 مليار دولار مقابل أقل من 10 مليارات دولار في المصارف الخارجية الكبرى. ولو كان نصف أو ثلث هذه النسبة موظفاً لدى المصارف خارج لبنان، لما شهدنا الأزمة الحالية في القطاع المصرفي، بحسب كسبار. وعليه، ارتكبت المصارف “جريمة حقيقية” إذ لم تعرف كيف تحمي السيولة المتوفّرة لديها وودائعها.
حتى خلال فترات الحرب الأهلية (1975-1990) وانهيار سعر صرف الليرة بقوة (1986-1988) كانت نسبة سيولة المصارف الموظّفة خارج لبنان تتعدّى 90% من الإيداعات بالدولار. كما لم تعرف فترة الحرب الأهلية أية قيود على حركة الرساميل وعلى التصرّف بالودائع أو على شراء العملات الأجنبية.
وقد أدّى انحسار سيولة المصارف بطبيعة الحال إلى تقليص دورها في الإقتصاد اللبناني، فبحسب الأرقام المنشورة، بلغت حصة ميزانيات المصارف الدائنة للمصرف المركزي 55%، بينما انحسرت الحصّة المتعلّقة بتمويل القطاع الخاص إلى 19%. وقد حملت الفوائد السخية المصارف إلى زيادة الضغط على القطاع الخاص لسداد قيمة القروض التي استفاد منها، بهدف توظيف هذه الرساميل في المصرف المركزي لقاء الفوائد العالية. فتم على إثر ذلك سحب ما بين 10 إلى 12 مليار دولار من القطاع الخاص خلال سنوات قليلة لإيداعها في المصرف المركزي. فأدّت هذه السياسة في نهاية المطاف إلى تحقيق أرباح كبيرة وغير اعتيادية للمصارف في ظل غياب أية ضوابط، كما إلى انحسار وظيفة المصارف الأساسية كوسيط في النشاط الإقتصادي عامة، وتحديداً تمويل نشاط القطاع الخاص.
سياسة مصرف لبنان النقدية
يتابع كسبار أنه بعد الحرب العالمية الثانية، اتجهت السياسات النقدية العالمية (تحت إشراف صندوق النقد الدولي) بين 1948 و1972 نحو تثبيت سعر الصرف، مع تدخّل الصندوق عند حاجة دولة ما تعاني ضغوطاً نقدية إلى ذلك. إلّا أنّ لبنان كان من الدول القليلة في العالم التي اعتمدت نظام تعويم سعر الصرف، وكانت العملة الوطنية اللبنانية تعتبر من أقوى العملات في العالم.
بعد تخلّي أكثرية الدول تدريجياً عن نظام تثبيت سعر الصرف، اتّجه المصرف المركزي مع نهاية التسعينيات عكس التيار العالمي، في اتجاه اعتماد سياسة تثبيت سعر الصرف. وتفرض هذه السياسة، وبخاصة إذا كان الإقتصاد حراً وحجمه صغيراً كما في لبنان، الإبقاء على احتياطٍ كافٍ بالعملات الأجنبية، مما يسمح للمصرف المركزي بالتدخل في السوق متى كان هنالك حاجة إلى ذلك للإبقاء على سعر الصرف ثابتاً. كما يفرض تثبيت سعر الصرف سياسات اقتصادية ومالية وضريبية متّسقة. إلّا أنّ تعاظم الدين العام في لبنان وعجز ميزان المدفوعات (أي حساب لبنان مع باقي العالم: الفارق بين ما يدخل إلى لبنان وما يخرج منه من عملات أجنبية) المستمرّ فيه، لا يتماشى مع سياسة تثبيت سعر الصرف، إذ يخلق حاجة مستمرة إلى استجلاب عملات أجنبية (الدولار تحديداً في لبنان) للدفاع عن سعر الصرف.
حتى الثمانينيات، أي حتى خلال فترة الحرب الأهلية، بقي ميزان المدفوعات يسجل فائضاً. ومنذ الاستقلال وحتى 2010، لم يسجل ميزان المدفوعات عجزاً لأكثر من سنتين متتاليتين. غير أنّه وابتداءً من 2010، سجّل هذا الميزان عجزاً متواصلاً أي مدّة 10 سنوات متتالية (ما عدا عام 2016). وأسباب العجز عديدة بحسب كسبار، منها نمط حياة اللبنانيين الذي يتخطّى إنتاجية الاقتصاد وإمكانياتهم الحقيقية بحيث ترتفع فاتورتهم الإستيرادية، واعتمادهم الكبير على اليد العاملة الأجنبية التي ترسل الأموال إلى دولها، مما يتسبّب بضغط إضافي على ميزان المدفوعات، وتآكل الثقة في النظام السياسي والاقتصادي اللبناني.
والخطورة في ذلك أن مؤشرات الأزمة، أو الـRed flags كانت واضحة منذ 2010، إلّا أنّ أحداً لم يحرّك ساكناً… مما يظهر بوضوح بحسب كسبار، أنّ النظام السياسي والاقتصادي عامة في لبنان كان ولا يزال يترافق مع التعطيل الفعلي لجميع آليات المراقبة والضبط والمحاسبة.
تعطيل آليات المراقبة والضبط: سياسة كمّ الأفواه
تساءل كسبار في ظل وضوح مؤشرات الأزمة، أقلّه خلال السنوات العشر الأخيرة، عن أسباب انكفاء جميع آليّات الرقابة والضبط والصمت والجمود المريبين اللذين التزم بهما جميع من كان مسؤولاً خلال تلك الحقبة. فماذا كان يفعل المجلس المركزي في مصرف لبنان[2]؟ وماذا كانت تفعل لجنة الرقابة على المصارف[3] التي كان عليها تسليط الضوء على المخاطر الكبيرة على وضعية المصارف، وتحديداً سيولتها التي بلغت 7% قبيل انفجار الأزمة والتي أدّت إليها السياسة النقدية للمصرف المركزي؟ وماذا فعلت وزارة المالية وهي سلطة الوصاية على المصرف المركزي، ومجلس الوزراء ومجلس النواب؟… وذكّر كسبار أنه عندما كان يعمل لدى المصرف المركزي أيام الحاكم إدمون نعيم، تمّ استدعاء الأخير عدة مرّات أمام المجلس النيابي للمساءلة بشكل اعتيادي، وأعطى الحاكم نعيم كل التفاصيل عن سياسته وقرارته وتعليلها، وكانت الحرب الأهلية آنذاك لا تزال قائمة…
كما أشار كسبار إلى دور الإعلام كسلطة رقابة. وتساءل: هل من صحيفة واحدة أو وسيلة إعلامية واحدة، خارج قلّة ضئيلة جداً[4]، ساءلت سياسات مصرف لبنان النقدية في آخر 20 سنة؟ ويأتي الجواب بالنفي، بل على العكس تماماً، عمد الإعلام إلى التبجيل بالحاكم وخلق هالة لا تُمسّ حوله.
وهنا تحدّث كسبار عن الهجوم والضغوط التي تعرّض لها عقب نشره دراسته الشهيرة ضمن أعمال مؤسسة “بيت المستقبل” البحثية[5] في آب/أغسطس 2017 بعنوان “الأزمة المالية في لبنان”، والتي أشار فيها إلى مؤشرات واضحة لأزمة تلوح في الأفق. فعلى الرغم من وضوح بوادر الأزمة وحجمها، ودقّ كسبار ناقوس الخطر في دراسته، لم تتعالَ الأصوات سوى للدعوة إلى محاكمته لمسّه بـ”الأمن الإقتصادي”! كما تعاظمت الضغوط على مؤسسة “بيت المستقبل” لإلغاء الندوة التي خُصّصت لعرض الورقة البحثية ومناقشتها وهذا ما حصل.
وكان كسبار كتب في مطلع الورقة صراحة أنه “من المرجّح أنّ لبنان يتجه نحو أزمة مالية خطيرة ستتخذ شكل انخفاض في قيمة العملة الوطنية، والأخطر من ذلك أنها ستؤدي إلى زعزعة إستقرار القطاع المصرفي”. كما حذّر من أنّ “عواقـب هـذه الأزمـة الماليـة يمكـن أن تكـون مدمّـرة علـى جميع المسـتويات وتتخطى بشـكل كبـير عواقـب الأزمـة الماليـة الـتي شــهددتها البــلاد منتصـف ثمانينيّات القــرن الماضي إثـر الإنخفاض الكبـيـر في قيمة اللـيـرة اللبنانية. وستشـمل هـذه العواقـب انخفاضاً حاداً في دخل معظم الأسـر في البلاد وثرواتها وزيادة حـادّة في حالات الإفـلاس والبطالة، وضبابية واسـعة النطاق حول المسـتقبل (…)”.
وتضمّنت الدراسة تظهيراً لعجز المصرف المركزي في احتياطي النقد الأجنبي (أي التباين بين حجم الاحتياطات بالدولار التي يعلن المصرف المركزي توفّرها لديه وديونه بالدولار). وبدأ العجز بالظهور بحسب الدراسة عام 2015 حيث بلغ 5.4 مليار دولار وظل يتصاعد ليصل إلى 12.6 مليار عام 2016 و12.8 مليار عام 2017 (أي بعد “الهندسات المالية”!). وبحسب كسبار أصبح هذا العجز يناهز اليوم 50 مليار دولار.
وتابع كسبار: “لمن أراد من المسؤولين أن يرى، كانت الصورة في غاية الوضوح والمعطيات فاقعة”. والأزمة غير مفاجئة البتّة، وهذا ما يجعل المسؤولية أخطر بكثير فالمعطيات كانت دوماً متوفّرة في حين كان المصرف المركزي يُمعن في السياسة نفسها.
سبل النهوض من الأزمة
أشار كسبار إلى أن الـ”هيركات” Haircut قائم اليوم في الواقع، بسبب ما تمارسه المصارف من إجراءات. فهي لا تسدد الودائع بالدولار وتدفعها بالليرة اللبنانية على سعر صرف المصرف المركزي (1515 ليرة لبنانية) في حين أنّ سعر السوق الموازية بلغ حينها 2200 ليرة لبنانية وأحياناً أكثر، مما يؤدي إلى خسارة المودع نحو 35% على الأقل من قيمة ودائعه. وأكّد أنّ ذلك كما جميع الإجراءات القائمة اليوم لا تؤمن حلاً، بل تكتفي بتحميل جميع الأكلاف عن الخسائر التي رتّبتها هذه السياسات للمودعين وللفئات الأكثر هشاشة.
ومن الضروري للنهوض من الأزمة بشكل أكثر عدالة بأن تتدخّل الدولة وتتحمل مسؤولياتها، من خلال إقرار موازنة على ثلاث سنوات تقلّص العجز المالي تدريجياً مما يعزز ثقة الأسواق المحلية والعالمية بجدية التصحيح المالي، وإرغام المصارف على زيادة رساميلها بشكل ملموس وكما تفرض القوانين والممارسات في كل البلدان، وتعويم سعر الصرف مما يؤدي إلى دخول الرساميل من جديد إلى لبنان، وهذا هو الهدف الأول والأهم حالياً. فاعتماد سعر صرف جامد لا يهدف، بحسب كسبار، سوى إلى تأمين مصلحة المصارف حتى خلال الأزمة الحادة التي تسبّبت بها بمشاركة مصرف لبنان.
- نشر هذا المقال في العدد | 64 | نيسان 2020، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
قبح النظام في مرآة المصارف
[1] وتستخدم هذه المؤشرات كذلك لتحديد نسبة الفوائد المحدّدة بالنسبة لقروض المستدينين الآخرين من غير المصارف.
[2] وهو يتألف من الحاكم ونائبيه اللذين يعيّنان بناء على اقتراحه ومدير عام وزارة المالية ومدير عام وزارة الإقتصاد، ويناط به دور أساسي في تحديد سياسة المصرف النقدية والتسليفية كما يضع أنظمة تطبيق قانون النقد والتسليف.
[3] وهي تتألف من 5 أعضاء يعيّنون بمرسوم بناء على اقتراح وزير المالية، وتشرف على تطبيق النظام المصرفي المنصوص عنه في قانون النقد والتسليف من محظورات وموجبات وقواعد المهنة والرقابة على مفوّضي المراقبة.
[4] مثلاً ملحق “رأس المال” الصادر مع صحيفة “الأخبار” (المحرّر).
[5] وهي مؤسسة ثقافية بحثية تعنى بوضع أبحاث ودراسات لرسم سياسات مستقبلية عامة في العالم العربي.