في بداية لقائِهَا مع جمهور معرض تونس الدولي للكتاب، عشيّة الأحد 28 أفريل 2024، قالَت الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي: “صعب أن نحكي وأن نتخَيّل أنّ أيّ شكل أدبي يُمكن أن يُفيدنا في هذه اللحظات القاسية”. تَحدّثت عرضًا عن إلغَاء تكريمها في معرض فرانكفورت، مُعتبرة إيّاه “تشويشا” لا يرقىَ إلى مستوى الحدث: “أحيانا التشويش يزيد من التعب، ليس أكثر. لا يزيد من الألم وإنّما من التعب. لأنّ الأهمّ والأصعب هو ما يَحدث الآن في فلسطين”. وربّما هناك حاجة إلى الصمت، طالما أنّ اللغة تَعجز عن تسمية ما يحدث: “دمار، مجزرة، إبادة…”. تقول عدنية إنّه قد يحدث أن تَغيب اللغة أو تُفقَد أو حتّى تخون، لكنّ اللغة أيضا هي “محلّ للمقاومة”.
عن “لغة السلطة”، تقول عدنية بأنها “واضحة وغير مُتَلعثمة، رتيبة ومملّة، تُستعمَل بطريقة فيها قوّة، ولكي تُمارس سلطتها هي تحاول أنّ تقنعنا بمنطقيّتَها”، وهو ما يَبرز جليّا في الجزء الأول من رواية تفصيل ثانوي، في حين أنّ الضمير المتكلّم في الجزء الثاني يتعثّر دائما في التعبير عن نفسه.
قالت عدنية إنّها أدركت لأول مرّة معنى الأدب ومعنى الخوف منه، بمعنى أهميته ومركزيّته في حياتنا، بمناسبة الجدل الكبير الذي أثارته قصيدة محمود درويش “عابرون في كلام عابر” في الكنيست الإسرائيلي: “أتذكّر أنّه فصل الشتاء وكنّا جالِسِين في البيت حول النار وسَمعنَا دقّات على الباب. النّاس طبعُوا القصائد وبَلَّشُوا يْوَزّعُوها على الجميع. هذا فعل يرجع وسيرجع دائما: أيّة سلطة حين تَمنع كتابا، الناس سيجدون طريقة حتّى يتجاوزوا هذا المنع بنسخها وتوزيعها. هذه من اللحظات الأساسية في حياتي التي عايَنت فيها معنى اللغة وأهمية استمراريتها”.
في فلسطين يَكبرون على دَورٍ مختلف للغة، فهي ليست فقط وسيلة اتصال: “أوّل لقاء لنا كأطفال كان مع محو كلمة فلسطين من الأطلس. عندما كنّا نجهّز أغراضنا للمدرسة ونشتري الأقلام والدفاتر والممحاة وأطلس الخرائط، أوّل شيء كنّا كأطفال نركض للبحث عنه هو هل أنّ كلمة فلسطين موجودة على الأطلس أم لا؟ وفي كلّ مرّة وفي كلّ سنة، كانت لدينا نفس خيبة الأمل: عدم وجود فلسطين.
اللغة تَظهر لنا بشكل مختلف: اللغة تُخَبّئ وتَمنع، وفي الوقت نفسه الذي نعتمد فيه عليها ونؤمن بها تمحُونا. 485 قرية تمّ هدمها أثناء النكبة وأهالينا لا يزالون يعلّموننا أسماءها. نحن نكبر على مشهد في الطبيعة يحمل أسماء هذه القرى المختفية من الإشارات ومن الخرائط. ولكنها تظلّ في محلّ مختلف يحمل أهالينا روايته. نحن نعيش هذه الرواية. عندما كنّا صغارا كان أهلنا يحملوننا كي نجمع الثّمر من الشجر، لأنّه لو تُرك الثمر على الشجر فإنّ الشجر سيَموت. هذا نوع من العناية بالشجر الذي أُهمِل بعد أن طردوا أهله منه. طبعا كنّا أطفالا كسالى لا نرغب في الشغل. بينما كان أهلنا يجمعون العنب والتين والزيتون، كنّا نلعب أنا وإخوتي: نُمثّل دور أهالي هذه القرى ونمثّل أننا نعود إليها.
هذه من أهم المشاهد في حياتي التي اكتشفت فيها أهميّة الخيال. الخيال ليس فعلا برجوازيا نمارسه حين نكون قلقين، لأنه بإمكانه إرجاع الذكرى إلى مكان مُنعَت فيه استمرارية هذه الحياة. وممكن هذا أوّل درس في الأدب، بمعنى أنّ الأدب يمكن أن يكون مكانا لتواجد مُستحيل في الواقع.
كلّ هذه الأسئلة وكلّ هذه التجارب اللغوية جعلتني قريبة من النقطة التي اعتبر فيها الأدب وقراءته والكتابة الأدبية كشيء مركزيا في الحياة. الأدب شيء مركزي جدّا يُعيدنا إلى وجود يحاولون محوه”.
أثناء اللقاء، لم تفتأ عدنية شبلي عن التذكير دائما بخصوصيّة السياق الفلسطيني: “هناك محاولة لمنع السرد الفلسطيني وحتى استخدام اللغة العربية. في فلسطين وبسبب العنف الذي يُمَارس، ليس فقط من الجيش الإسرائيلي، إنما أيضا من المجتمع الاسرائيلي، يَخَاف الفلسطيني أن يتكلم باللغة العربية. طبعا التواجد الفلسطيني هو في كل مكان. في النهاية، نحن في وضع فيه هجوم على اللغة العربية. ونحن نُحاول أن نعيش مع هذا الخوف، لا نتحّدث عن هجوم فكري إنما نتحدّث عن هجوم جسدي: عندما يكتشفون فلسطينيا يمكن أن يكون هناك ضرب بغاية القتل والسّحل.
نحن في حالة عكسية، بينمَا شهرزاد كانت تحكي كي تستمرّ في العيش، نحن أحيانا مضطرّون للصّمت كي نستمر في العيش. دائما هناك إشكاليات نواجهها بشكل دائم مع اللغة.
مع محادثات أوسلوـ أصبح هناك تحوّل في شكل الاحتلال وليس نهايته. أصبح هناك نوع مختلف في تنظيم وتسيير الاحتلال. هناك أجزاء من منطقة مُعيّنة أصبحت تحت إدارة السلطة الفلسطينية ممّا خفّف من أعباء جيش الاحتلال. نحن محبوسون دائما. الجيش الاسرائيلي ليس موجودًا بشكل يومي، هو موجود حوالينا ويقرّر الدخول متى يشاء. ومن الجانب الاقتصادي يجعل ذلك الاحتلال أرخص كلفة. لا نتحدّث فقط عن سجن في الحركة، فهناك أيضا سجن فكري.
لا زالت السيطرة على دخول الكتب موجودة. مثلا روايتي تفصيل ثانوي غير موجودة في فلسطين. تُمنع الكتب من الدخول فتُهرّب في الحقائب أربع أو خمس نسخ منها وحتى إن تواجدت في معرض كتاب، فذلك بالتنسيق مع الرقيب الإسرائيلي. كلّ ما نعمله هو تحت عين الرقيب الإسرائيلي. أيضا بالنسبة للمنهاج التعليمي، كان في السابق خاضعا بالكامل للسلطات الإسرائيلية، ممكن السلطات المصرية والأردنية تقترح موادّ معيّنة ولكن بعد موافقة إسرائيل.
هنا نرى مقدرة العقل دائما على المقاومة رغم المنع. أتذكر مثلا أنهم سَمحُوا بنصّ واحد لكاتبة اسمها سميرة عزام. هي من مواليد فلسطين في العشرينات. عاشت في مدينة عكا حتى النكبة. وبعدها كانت في قبرص وفي لبنان ووفاتها كانت حزينة جدا. في 1967، لمّا سمعت عن احتلال باقي أراضي فلسطين، كانت لاجئة في لبنان وصَعدَت في سيارة لملاقاة الفلسطينيين المهجّرين، وفي الطريق أصيبَت بسكتة قلبية وماتت. لم يكن موتها صدفة. دائما أعود إلى اللحظة التي قرّرت فيها ترك بيتها الذي ترتاح فيه في بيروت. أتخيّل أنها كانت تريد العودة إلى أشيائها وإلى تجربتها الشخصية التي عاشتها قبل الـ48.
أعتبر سميرة عزّام، التي قلّما نسمع عنها مثل درويش وكنفاني، كاتبة مهمّة جدّا. هناك اعتقاد أنّ نصوصها غير سياسيّة، والرقيب الإسرائيلي اعتقَدَ أنّ نصوصها لا تَضرّ أمن الدولة. نصوص سميرة عزام هي أكثر النصوص التي خلَقَت لدينا وعيًا سياسيا، لأنّها كانت تَكتب عن الحياة الطبيعية في فلسطين. وكنا نسأل متعجّبين: فلسطين كانت تملك حياة طبيعية سابقا ولماذا لا توجد هذه الحياة الطبيعية أكثر؟ وحين اعتقد الرقيب الإسرائيلي بغباء أنّه أدخل نصًّا آمنا، أدخل أهمّ نصّ جعلنا نتساءل في الاستراحة في عمر الثانية عشرة لماذا اختفت هذه الحياة الطبيعية وما سبب هذا الاختفاء؟
لديها قصّة عن شخص يأخذ القطار ويتأخر عن شغله. تساءلنا هل هذه أكبر مشكلة فنحن ليس لدينا شغل؟ كانت لحظة وعي. ودائما لدى الإنسان لحظة يبدأ فيها مقاومته حين يقرأ نصّا بطريقة مختلفة”.
*****
خلال هذا اللقاء، وجَّهَت المفكرة القانونية ثلاثة أسئلة لعدنية شبلي، فكانت هذه تفاعلاتها مع أسئلتنا:
المفكرة القانونية: ما الذي يُحرّضك على الكتابة: هل هو الخوف أم المتعة أم واجب الذاكرة ؟
عدنية شبلي: الدّافع إلى الكتابة سؤال يومي. دائما ما يُعيدني إلى الفعل نفسه. يُعيدني إلى لحظة جديدة. لا آخذ الكتابة كفعل مسلّم به، إنما هي فعل جِدّي أمارسه يوميّا وأعتقد أنّه يُساوي عندي سؤال “لِيشْ العيشْ”؟
هذا سؤال وجودي. كيف يمكن أن نكون موجودين في الحياة. ليس سؤالا مضافا للحياة، بل سؤال دافع للحياة. وأعتقد أنّ الكتابة واكتشاف هذه العلاقة المركّبة، ليست مركّبة تحديدا بل هي علاقة معيّنة مع اللغة، جعلتني أكتشف سحر الاستمرارية. أعتقد أنّ اللغة العربية من أجمل الهدايا التي يُمكن أن أتلقّاها. تركيبها أقوى وأوسَع مدى ولا تستسلم للكسل الذهني. يظهر ذلك في عدد الكلمات. اللغة العربية تمتلك خمسة عشر ألف جذر، بينما لغات أخرى ممكن يكون لديها سبعة أو ثمانية آلاف جذر. اللغة العربية لديها ضعف جذور الكلمات مقارنة مع اللغات الأخرى. إذا هي المكان الذي يُنبّهنا كيف نكون في العالم، كيف نستمر. إذا ما تناولنا اللغة ككائن في هذا الوجود، فهي كائن أقلّ إيذاءًا منّا. هي أكثر شيء كريم. في اللغة نفس الكلمة تصف الأدب الذي نقرؤه والطريقة التي نتصرّف بها في العالم. عندما نعود إلى أصل كلمة الأدب ففي ذلك إجابة عن سؤال لماذا الأدب ولماذا الكتابة؟ الأدب في الحياة يعلّمنا كيف نُوصل الحكاية.
المفكرة: أنت تُجرّدين شخصيات روايتك “تفصيل ثانوي” سواء كانوا فلسطينيين أو إسرائيليين من أسمائهم. وربّما تَحرمين الفلسطيني من أخصّ ما يدلّ عليه. لماذا هذا الخيار؟
شبلي: بالنسبة لغياب الأسماء. نحنُ كبرنا على غيابها ومحوها. أنا لا أركّز وجودي في علاقة مضادة، إنما أحاول أن أرى نتيجة هذا الفعل العنيف وكيف يمكن أن يتحوّل إلى حساسية مختلفة. لأنني لا أرغب أن أحَبس وجودي في علاقة مع مَا سيفعله الآخر. على هذا النحو أظل فريسة دائمة له.
في غياب الأسماء، هل يمكن أن نخلق حساسية أدبيّة تحترم غيابها؟ غياب الأسماء سيبقى معنا. لا نعرف أسماء الناس الذين يتمّ قتلهم يوميّا. هل عندما أوافق أنا على تسمية البعض فمعنى ذلك أنّي أقبل أن لا يُسَمَّى البعض الآخر. أنا أقول أنّ علينا كلّنا التخلي عن الأسماء تكريما وإكراما للأسماء التي امّحت حتى يكون هناك محل للجميع. ما دَام هذا الحق باتخاذ اسم وبالتسمية غير متوفّر للجميع ليس من الضروري الاعتماد عليه.
المفكرة: نلاحظ في الرواية حضورا قويا للطبيعة. يبدو الإنسان خائفا بلا حول. من ينتقم من الضابط الذي قام بالاغتصاب هو كائن لا تسمّينه وهناك الكلب المتواجد في جزئي الرواية كما لو أنّه شاهد. لماذا هذا التمثّل للطبيعة بهذه الشاكلة؟
شبلي: أرجع هنا إلى القُرَى المهدّمة. أتساءل دائما: إذا تمّ محوها من الوجود، هل تتذكّر الطبيعة هذه البيوت؟ هل تتذكر الطبيعة هؤلاء الناس؟ أنا علاقتي قوية مع الطبيعة لأنني تربّيتُ بينها. حين نحسّ بأنّ الطبيعة ليست موضوعا لسَيطرتنا وإنّما موضوع يحمل وجودنا يصبح دورها مهمّا. المستعمر عادة ما يتطلع إلى الطبيعة كشيء يمكن استخدامه أو يستخلص ما تعطي الأرض لصالحه. العلاقة في فلسطين ليست علاقة استغلال مع الأرض، هي علاقة وجود وعناية متبادلة. نحن نعتني بالأرض والأرض تعتني بنا. سؤالي: هل تتذكّر الأرض أصحابها حين يتمّ تهجيرهم؟
أحيانا نرى دور الطبيعة عندما يتمّ بناء بيت. فجأة نجد أنّ نبتة القبّار، ممكن موجودة في تونس، تعود لنفس المكان رغم وجود بيت وشارع. كذلك ظهور العشب في الإسفلت. الطبيعة دائما تذكّرنا مهما تعملون وتُسيطرون وتمنعون ظهوري، فأنا دائما أعود. هذا درس بالنسبة لي. فأنا أتعّلم من الطبيعة كيف يمكن أن نثور على أنظمة نعتقد أنّها مستبدّة جدا. الطبيعة شخصيّة، وجود، وليست موضوعا للكتابة بل هي التي تكتب أحيانا.