عامٌ على توقّف الأطباء المتعاقدين مع وزارة العدل عن عملهم في لجان تنفيذ العقوبات، اللجان التي يتمسّك بها المحكوم عليهم في السجون اللبنانية لاستعادة حرّيتهم قبل انتهاء محكوميّتهم. فأصاب اليأس السجناء الّذين خسروا الأمل في فرصة لتخفيض مدّة عقوبتهم السجنيّة بناء على حسن سلوكهم أو وضعهم الصحّي، وفقد القضاء إحدى وسائل تخفيف الاكتظاظ الذي تُعاني منه السجون منذ سنوات.
نتج هذا الواقع عن الأزمة الاقتصادية التي أطاحت بقيمة بدلات أتعاب الأطبّاء والمساعدين الاجتماعيين المتعاقدين في اللجان منذ العام 2019 ما دفعهم في نهاية المطاف إلى الاستقالة. فباتت اللجان عاجزة عن البتّ بملفّات المحكوم عليهم لتنضمّ إلى قائمة الهيئات القضائية المعطّلة، مما فتح الباب أمام السماسرة لاستغلال يأس المحكومين وأهاليهم.
يُضاف إلى ذلك، الإجحاف الذي تُعانيه اللجان منذ ما قبل الأزمة والتي تُعتبر شاهدة على إخفاق السلطة السياسية في الاستجابة لأزمات السجون قديمة العهد كون التشكيلات القضائية الصادرة في العام 2017 لم تنصفها. فقد اقتصر تعيين القضاة فيها على اثنين فقط، أحدهما غير متفرّغ خلافًا للقانون، ممّا أضعف قدرتها على أداء مهامها.
الأزمة أرهقتاللجان
في الطابق الرابع من مبنى تابع لوزارة العدل قرب قصر العدل في بيروت، يقع مكتب لجان تخفيض العقوبات. يعكس الظرف الذي يعانيه المبنى نتيجة الأزمة الاقتصادية، التحديّات التي تواجه الموظفين والقضاة ومعهم أهالي المحكوم عليهم الّذين يتوجّهون إلى مكتب اللجنة لمراجعة ملفّات أبنائهم. فلكي يصلوا إلى مكتب اللجنة، يتعيّن على الزوّار سلوك الدّرج إلى الطابق الرابع بدلًا من المصعد المعطّل منذ سنوات. وتظهر للزائرة آثار الإهمال الذي لحق بالمبنى خلال رحلة صعود الدرج، حيث تنتشر الحشرات ويتراكم الغبار. والمكاتب ليست بأفضل حال، فالموظفون يستفيدون من ثلاث ساعات كهرباء فقط في اليوم لتأمين الإضاءة والتبريد من المولّد الكهربائي العائد لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة UNODC، الذي يمتلك مكتبًا في المبنى نفسه. أمّا المياه فمقطوعة منذ بداية الصيف.
تتكامل هذه الظروف مع الصعوبات التي تواجه عمل اللجنة منذ بداية الأزمة الاقتصادية في العام 2019، على ما تقوله رئيسة إحدى لجنتي تنفيذ العقوبات القاضية ماري ليّوس. وتوضيح ليّوس لـ “المفكرة القانونية” أنّ مكاتب اللجان تُعاني من “نقص في القرطاسية والأوراق والمحابر وماكينات التصوير والفاكس”. وتزداد صعوبات العمل مع انقطاع الكهرباء الذي يعرقل تصوير الأوراق واستخدام الكمبيوترات. كما ولّدت الأزمة مشاكل أخرى تمثّلت بـ “صعوبة في الاستحصال على المستندات اللازمة سواءً من المحاكم أم من السجون”، وذلك يعود إلى “الحضور غير المنظّم لموظفي أقلام المحاكم وعناصر القوى الأمنية” وفق القاضية ليّوس. فقد نفّذ موظفو العدليّات إضرابات عديدة منذ العام 2019 كما انخفضت وتيرة حضورهم إلى المحاكم نتيجة ارتفاع كلفة النقل. أمّا بالنسبة للعناصر الأمنيّة، فإنّ المديرية العامّة لقوى الأمن الداخلي تُعاني من النقص في العديد بسبب وقف التطويع منذ العام 2017.
ويتعيّن على المحكوم عليه، تقديم طلب تخفيض عقوبته عبر القلم العدلي في السجن من خلال تعبئة النموذج المعدّ مسبقًا بخط يده، وإرفاقه بمستندات وتقارير متعدّدة من داخل السجن تحتاج إلى موافقات عدّة، قبل إصدارها، وفقًا لدليل “تطبيق قانون تنفيذ العقوبات” الذي أعدّته وزارة العدل عام 2011 بدعم من مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، والذي يؤكّد أن الطلبات تُقدّم بصورة مجانية. وهذه الآلية تؤدي غالبًا إلى تأخّر وصول الطلبات إلى لجان تخفيض العقوبات، كما قد تصطدم مرحلة تأسيس الملف بانقطاع الكهرباء ممّا يؤدي إلى انتظار التسجيل لأيّام أو حتى لشهر أحيانًا. وبعد تسجيل طلب التخفيض، تدرسه اللجنة بعد استلامها تقارير السجون والتقرير الاجتماعي وكذلك التقرير الطبّي عند الحاجة. ويتعيّن على اللجنة إعداد اقتراحات بأسماء المحكوم عليهم الّذين يستحقّون منحة تخفيض العقوبة، وتقديم الاقتراحات إلى غرفة محكمة الاستئناف المدنية الناظرة في تنفيذ العقوبات في كلّ محافظة والتي من المفترض أن تبتّ في الملفّات خلال مهلة شهرين من إحالته إليها، وفقًا لقانون تنفيذ العقوبات.
قاضيان فقط لكلّ المحافظات
ليست الأزمة الاقتصاديّة وحدها ما يقيّد عمل لجنة تخفيض العقوبات، فمرسوم التشكيلات القضائية الصادر عام 2017 لم يُنصفها بالتعيينات. وبالرغم من أنّ قانون تنفيذ العقوبات رقم 463 الصادر عام 2002 والمعدّل بالقانون رقم 183 عام 2011، ينصّ على أنّ لجان تخفيض العقوبات يتولّى عملها قضاة متفرّغون، إلّا أنّ الواقع يختلف تمامًا. إذ يتحمّل قاضيان فقط، أحدهما غير متفرّغ، عبء النظر في جميع طلبات تخفيض العقوبات الصادرة عن المحاكم في مختلف المحافظات اللبنانية.
فترأس القاضية ماري ليّوس اللجنة التي تنظر في الأحكام الصادرة عن محاكم محافظات البقاع وبيروت ولبنان الجنوبي وهي قاضية متفرّغة، أمّا القاضي محمد شهاب فيرأس بالانتداب اللجنة التي تنظر في الأحكام الصادرة عن محافظات محاكم جبل لبنان والنبطية ولبنان الشمالي، بالإضافة الى وظيفته الأصلية كقاضٍ منفرد في بيروت. هذا مع العلم أنّه قبل التشكيلات القضائية الأخيرة الصادرة في العام 2017، كان يتولّى اللجان ثلاثة قضاة متفرّغون بموجب تعيينات صدرت في تشرين الأوّل عام 2010. ووزّعت المحافظات على القاضيَين شهاب وليّوس على أن يتولّى كلّ قاضٍ النظر في ملفات إحدى المحافظتين الأكبر (بيروت وجبل لبنان) التي يزيد معدّل الملفّات فيهما عن 500 ملف، ومعها محافظتان صغيرتان مثل الشمال ولبنان الجنوبي التي لا يتعدى عدد ملفات كلّ منهما سنويًا عشرة ملفّات.
ثمانية دولارات في الشهر للأطبّاء والمساعدين الاجتماعيين
إلى جانب القضاة رؤساء اللجان، تتألّف لجنة تخفيض العقوبات من خمسة أعضاء: قائد السريّة المركزية في السجون التابعة للمحافظة، وآمر الفصيلة التي يتبع السجن لها، وطبيبين، أحدهما طبيب السجن واختصاصه يتّصل بالأمراض العضوية والثاني طبيب مختصّ بالأمراض العقلية أو النفسية يُسمّيه وزير العدل، إضافة إلى مساعد اجتماعي، يُسميه أيضًا وزير العدل.
ويتعيّن على الأطبّاء والمساعدين الاجتماعيين زيارة السجون ومقابلة المحكوم عليهم وإعداد تقارير عن حالاتهم لتتمكّن اللجنة من البتّ في طلب التخفيض. وغالبًا ما تطلب اللجنة تقاريرًا من أطبّاء السجون عن الأوضاع الصحيّة للمحكوم عليهم الّذين يطلبون تخفيض العقوبة بسبب المرض، وتقاريرًا من الأطبّاء النفسيين للمحكوم عليهم، إضافة إلى تقارير اجتماعية من المساعدين الاجتماعيين. ويتطلّب إصدار الاقتراحات توقيع كافّة أعضاء اللجنة حتّى لو لم يتطلّب الملفّ إعداد أيّ تقرير من الأطبّاء أو المساعدين الاجتماعيين.
وتبعًا للمباراة الوحيدة التي أجراها مجلس الخدمة المدنية عام 2010، تمّ التعاقد مع أربعة أطباء عام 2012 (استقال أحدهما بعد فترة قصيرة) وثلاث مساعِدات اجتماعيّات (قرار رقم 20 عام 2012). حينها وافق مجلس الخدمة المدنية على رصد مبلغ 750 ألف ليرة لكلّ طبيب مُقابل 8 إلى 16 ساعة عمل أسبوعيًا للأطباء، والمبلغ نفسه للمساعِدات الاجتماعيّات مقابل 16 إلى 24 ساعة عمل أسبوعية، وفقًا لقرار مجلس الخدمة المدنية رقم 657 عام 2012. ولم تشمل هذه التعويضات بدلات الانتقال التي يتكبّدها الأطباء والمساعدات الاجتماعيّات بين السجون ومكاتب اللجان. ولم يتمّ إدراج الأطبّاء والمساعِدات في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي أو في تعاونية موظفي الدولة، وحرموا من الاستفادة من الزيادات الدورية التي يتقاضاها المتعاقدون مع الإدارات العامّة، كما لم تشملهم زيادة غلاء المعيشة التي حصل عليها المتعاقدين والأجراء في الإدارات العامّة ضمن سلسلة الرّتب والرواتب بموجب القانون رقم 46 عام 2017. وهذا ما دفعهم في أيّار 2018 إلى مطالبة وزارة العدل بتسوية أوضاعهم وتخصيصهم ببدل النقل والانتساب إلى الضمان والاستفادة من الزيادة على الرواتب وغلاء المعيشة. ووفقًا للكتاب المذكور أعلاه رقم 1672 تاريخ 11 تمّوز 2019 المرسل من مجلس الخدمة المدنية إلى وزارة العدل لبيان رأيه في طلبات الأطباء والمساعِدات الاجتماعيّات والذي اطّلعت عليه “المفكّرة”، وافق المجلس على هذه المطالب في 11 تمّوز 2019، لكن الموضوع تعثّر عند وزارة المالية التي لم توافق على الطلب بحسب ما علمت “المفكرة”.
وبدأ التعطيل يُصيب اللجنة بعد انخفاض قيمة بدل الأتعاب الشهرية التي يتقاضاها الأطبّاء والمساعدون الاجتماعيون، إذ لا تزال قيمة هذا البدل محددة بـ 750 ألف ليرة شهريًا أي ما يُقارب ثمانية دولارات مقارنةً بـ 500 دولار قبل الأزمة. ويعود لوزير العدل وضع أصول تحديد أتعابهم وفقًا للمادة 29 من مرسوم 16910/2006 (تحديد آلية تنفيذ القانون المتعلق بتنفيذ العقوبات) بعد أخذ رأي مجلس الخدمة المدنية ووزارة المالية. وعليه، دخلت لجان تخفيض العقوبات في مرحلة العمل غير المنتظم نتيجة تراجع قيمة البدلات، إذ بدأ الأطبّاء النفسيون اعتكافًا جزئيًا سرعان ما تحوّل إلى استقالات نتيجة عدم تقاضي مستحقّاتهم. بالتالي توّقفت المساعِدات الاجتماعيات عن العمل تلقائيًا بعد توقف الأطباء.
منذ تعيينهم عام 2010، يشعر الأطبّاء بتقصير وزارة العدل في حقهم. إذ لم تتناسب بدلاتهم مع حجم العمل الذي يقومون به، ولا مع التكاليف الباهظة التي يتحمّلونها للانتقال إلى السجون ومكاتب اللجان، هذا عدا عن تأخّر وزارة العدل في دفع مستحقّاتهم لفترات تتخطّى السنوات إضافة إلى خصم ضريبة الدخل من المستحقات التي كانت أساسًا لا توازي قيمة المجهود الذي يبذلونه. وعلى الرّغم من ذلك، استمرّوا في العمل لعشر سنوات تقريبًا، مدفوعين بأسباب إنسانية ترتبط بمساعدة السجناء ورغبةً في اكتساب الخبرة. وكانت الوعود المتكرّرة من الوزارة ومجلس القضاء الأعلى بتحسين أتعابهم تشجّعهم على الاستمرار. إلّا أنّ الأزمة الاقتصادية التي بدأت عام 2019، وارتفاع تكاليف التنقّل والعمل، جعلهم غير قادرين على مواصلة العمل بالوتيرة نفسها.
تقول مصادر “المفكرة” إنّ الأطبّاء يشكون أيضًا من عدم المساواة في توزيع العمل بين اللجان. فالأطبّاء العاملون في لجان محافظات بيروت وجبل لبنان يتحمّلون عبئًا أكبر بكثير، إذ يتطلّب عملهم زيارات متكرّرة إلى سجون مختلفة في جميع أنحاء البلاد، وتحمّل مشقّة الانتقال بعيدًا عن مراكز المحافظات. في المقابل، يقوم الأطبّاء العاملون في لجان محافظات أخرى، مثل البقاع والشمال، بعدد أقلّ بكثير من الزيارات.
قبل الأزمة، كان عدد الأطبّاء النفسيّين العاملين في اللجان ثلاثة، إلّا أنّهم استقالوا جميعًا بين آذار ونيسان من عام 2022 بسبب عدم دفع مستحقّاتهم عدا عن انخفاض قيمتها. تشرح القاضية ليّوس أنّه بعد استقالة الأطبّاء، عيّنت وزارة العدل في أيلول 2022 طبيبين، أحدهما للعمل في لجنة جبل لبنان والآخر في لجنة الشمال. ثمّ عيّنت في كانون الثاني 2023 طبيب لجنة جبل لبنان للعمل أيضًا في لجنة بيروت. وبقي هذا الطبيب يعمل في اللجنتين بصورة متقطّعة إذ اعتكف أكثر من مرّة بسبب عدم تحديد أو تسديد أي من مستحقاته، لغاية استقالته النهائية في نيسان 2024. أمّا الطبيب الثاني، فباشر العمل في آذار 2023 أي بعد خمسة أشهر من تعيينه، ثم تمّ تعيينه عضوًا في لجنتي جبل لبنان وبيروت تبعًا لاستقالة الطبيب الأوّل. لكنه يعمل اليوم بشكل جزئي وبصورة متقطعة، فيكتفي بتوقيع الاقتراحات فقط من دون إعداد التقارير كونه لم يتقاضَ أيًّا من المستحقات منذ تعيينه.
في بداية العام 2020، بدأ الأطباء بالاعتكاف الجزئي، فامتنعوا عن زيارة السجون لمقابلة المحكوم عليهم وعن إعداد التقارير الطبّية المطلوبة، واكتفوا فقط بالتوقيع على الاقتراحات الصادرة عن اللجنة، إذ يفرض قانون تنفيذ العقوبات على جميع أعضاء اللجنة التوقيع على الاقتراح قبل إحالته إلى محكمة الاستئناف الناظرة في طلبات تنفيذ العقوبات. “أدّى هذا الأمر إلى انتشار أخبار مغلوطة بين السجناء بأنّ لجنة تخفيض العقوبات تُصدر اقتراحات لأشخاص دون غيرهم، حيث لم يكونوا على علم بالاعتكاف الجزئي”، بحسب ما أكدّته القاضية ليّوس لـ “المفكرة”. وتوضح أنّه “لم يحصل أي تمييز في التعامل مع الملفات إنّما كنّا نصدر الاقتراحات في الحالات التي لا تتطلّب تقاريرًا من الأطباء حيث كانوا يوافقون فقط على التوقيع على الاقتراح ويرفضون زيارة السجون للكشف على المحكومين، ولهذا السبب لم نتمكّن من إصدار الاقتراحات التي تحتاج إلى أطبّاء نفسيين”.
وأكدّت مصادر في وزارة العدل لـ “المفكرة” أنّ العمل جارٍ على إعادة تفعيل اللجان، إذ جرى الاتفاق مع طبيبين لمباشرة العمل على أن تدفع الوزارة مستحقاتهما عبر إحدى الجهات المانحة. ولم تُعط المصادر أي معلومات حول قيمة المستحقّات التي سيتقاضاها الطبيبان.
سماسرة يستغلّون الأزمة
حاولت ريهام الاستحصال على قرار تخفيض لابنها المحكوم قبل عام بالسجن خمس سنوات، لكنّ تعطّل اللجنة حال دون إمكانية تحقيق ذلك. تقول لـ “المفكرة”: “تقدّمت بالطلب قبل سنة، وحتّى اليوم لم تنعقد اللجنة بسبب إضراب الأطبّاء”. وتُضيف: “سيخرج ابني من السجن بعد ثلاثة أشهر، فما عاد هناك أيّ داعٍ لانتظار انعقاد اللجنة”. وتأسف ريهام لهذه المظلومية التي يُعاني منها المحكوم عليهم في لبنان “ابني أوقف بسبب سيجارة حشيشة، وحوكم بترويج المخدرات، وفي الوقت نفسه هناك كبار في الدولة يتاجرون بالمخدرات وهم محميّون”. وتأسف لحرمانه من إمكانية تخفيض عقوبته. وتُقارن ريهام بين جرم ابنها وبين الجرائم التي يرتكبها ذوو النفوذ في الدولة معتبرةً أنّه “لا يوجد عدالة في هذا البلد، والدولة قويّة على الضعيف”. وازدادت قناعتها بهذا الأمر بعد تجربتها مع بعض المحامين، قائلةً: “قبل صدور الحكم، تواصلت مع محامين عدّة طلبوا منّي آلاف الدولارات مؤكّدين أنّهم قادرون على إخراج ابني من السجن، وصل الأمر بأحدهم أن طلب مبلغ 20 ألف دولار”. وتسأل “ماذا يعني ذلك؟ هل المحامي قادر على التحكّم بالقرار الذي سيصدر؟”. وتختم قائلة: “هكذا يخرج ذوو النفوذ من السجن، بينما يُسجن فقط الفقراء”.
نتيجة الكلفة العالية التي يطلبها بعض المحامين لتولّي طلبات تخفيض العقوبات، وقع بعض الأهل ضحيّة سماسرة أقنعوهم بإمكانيّة إخراج أبنائهم من السجون. وقد ظهر مدى قدرتهم على استغلال حاجة أهالي السجناء، في إيهامهم الأهل بإمكانية تخفيض عقوبة أبنائهم رغمًا عن كون اللجنة لم تنعقد منذ عامين.
نهاد التي ينفّذ ابنها عقوبة ثمانية سنوات في سجن زحلة في ملفّين منفصلين، تروي أيضًا لـ “المفكرة” معاناتها التي بدأت قبل عام ونصف العام حين سعت لتخفيض عقوبته. تقول إنّها في المرّة الأولى التي تقدّمت فيها بطلب تخفيض العقوبة، “تعرّفت على شخص وعدني بإخراج ابني من السجن، وطلب منّي 600 دولار على الملف”. سلك ملفّ ابنها أمام لجنة تخفيض العقوبات العام الفائت إلى محكمة الاستئناف الناظرة في قضايا تخفيض العقوبات التي “أصدرت قرارًا برفض اقتراح التخفيض”.
لم تيْأس نُهاد وتعرّفت على سمسار آخر طلب منها 100 دولار فقط ووعدها بحلّ ملفّ ابنها، فتقدّمت بطلب جديد قبل أربعة أشهر، المفاجأة كانت أنّه “حين راجعت بالملف لأوّل مرّة بعد حوالي ثلاثة شهور، تبّين أنّه ضائع، بحث السمسار عنه ليتبيّن أنّه لم يجرِ تأسيسه بعد”. وبعدما تأسّس الملف، أكدّت أنّها “كلّما أُراجع السمسار يقول لي إنّ لجنة تخفيض العقوبات معطّلة ولا يُمكن فعل أي شيء”.
تأمل نُهاد هذه المرّة أن يخرج ابنها من السجن، فهي تعتبر المئة دولار التي دفعتها استثمارًا لتوفّر مئتي دولار شهريًا تدفعها له ليؤمن الغذاء في السجن. تقول: “لا يأكل من طعام السجن، وهو بحالة صحيّة صعبة ويحتاج للدواء والرعاية الطبية، فأرسل له المال والدواء كلّ شهر وهذا ما يُرهقني ماديًا”. استعانة نهاد بسمسار تبرره بأنّها غير قادرة على الانتقال كلّ مرّة إلى مركز اللجنة في بيروت وأنّها تعتقد أنّ لديه قدرة على التأثير في القرارات. ومن جهة ثانية فهي غير قادرة على الاستعانة بمحام: “الأهالي لا قدرة لديهم على توكيل مُحامين بسبب الكلفة المرتفعة”، تقول.
مصدر قضائي مطلّع على عمل لجنة تخفيض العقوبات يُشير إلى أنّ السماسرة “منتشرون بكثرة ويسرقون أموال الناس”. وينصح المصدر في حديث مع “المفكرة” بـ “عدم الاستعانة بسمسار لتخليص ملفّات تخفيض العقوبات لأنّ السجين نفسه يمكنه تقديم طلب تخفيض العقوبة بنفسه في القلم العدلي في السجن”. ويؤكّد أنّ “هناك أشخاص يستغلّون حاجة الأهل فيقنعوهم بأنّهم قادرون على إخراج ابنهم من السجن بهدف الاستيلاء على أموالهم”. ويلفت المصدر إلى أنّه “لا يوجد أي شيء إضافي يمكن أن يقدّمه السمسار للمحكوم عليه، بخاصّة في الحالة الحالية، فلا يوجد أطبّاء في اللجان والمساعدون الاجتماعيون ما عادوا يحضرون، وعليه، أي وعد لأيّ محكوم عليه بإمكانية تخفيض عقوبته مقابل المال، وعد كاذب”. ويُضيف: “الحالة الوحيدة التي يمكن فيها للمحكوم عليه بالحصول فيها على تخفيض عقوبة هي عند تحسين بدل حضور أعضاء اللجان وإعادة تشكيلها”.
قبل التعطيل، اللجان في ذروة نشاطها
شهد عمل اللجان ارتفاعًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة وفقًا لأرقام لجنة تخفيض العقوبات التي حصلت عليها “المفكّرة” والتي تشمل الفترة الممتدة من عام 2013 وصولًا إلى تمّوز 2024 حين تعطّلت فيه اللجان بفعل استقالات الأطباء.
فبعدما كانت في في العامين الأوّلين من تشكيلها، لا تبتّ بأكثر من 400 اقتراح سنويًا، ارتفع عدد الاقتراحات الصادرة عنها سنويًا ليتراوح بين 500 و600 في أعوام 2015 و2016 و2017. وشهدت ارتفاعًا لافتًا في 2018 حيث لامست أعداد الاقتراحات الصادرة عنها 719 وارتفعت إلى 756 في 2019. وتراوحت نسبة الملفات التي تبت فيها اللجان خلال هذه الأعوام بين 80% و97% ثم تخطّت 100% في العامين 2020 و2023.
في العام 2020، شهدت اللجنة نشاطًا ملحوظًا خلال مرحلة انتشارجائحة كورونا حيث تمكّنت من إعداد 1112 اقتراح تخفيض عقوبة من أصل 1084 طلبًا أي بنسبة 102%، وتمكّنت حينها محاكم الاستئناف من إصدار 277 حكمًا بناء لهذه الاقتراحات، بحسب تقرير مديريّة السجون بعنوان “استجابة العدالة في ظل جائحة كورونا للفترة الممتدة بين آذار 2021 وآذار 2022”. وقد جاء ذلك كجزء من الجهود التي بذلتها مختلف السلطات المعنيّة بالتخفيف من اكتظاظ السجون، فقامت حينها اللجنة بالعمل بصورة متواصلة لدراسة طلبات التخفيض وعقدت جلساتها عن بُعد عبر الإنترنت.
واستمرّت إنتاجيّة عمل اللجنة بشكل مقبول في أعوام 2021، 2022، 2023 رغم أنّ هذه الفترة شهدت إضرابات متكرّرة للأطباء، حيث تراوحت نسبة البت بالملفات بين 70% و113%، ومن بينها طلبات رُفضت لانتفاء موضوعها كون السجين كان قد أنهى تنفيذ عقوبته بتاريخ البت بطلبه. وخلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2023 تمكّنت اللجان من إنجاز 298 اقتراحًا فقط من أصل 416 (أي بنسبة 71%) قبل أن يتعطّل عملها نهائيًا عند استقالة الأطباء.
وتلفت القاضية ليّوس إلى أنّ “غياب المبادرات والخطط لإيجاد حلول تعيد تفعيل عمل لجان التخفيض، أدّى إلى تراجع عمل اللجان بشكل كبير اعتبارًا من العام 2022، بعد أن كانت قد حقّقت تزايدًا ملموسًا في عدد طلبات التخفيض وفي عدد اقتراحات القبول بين 2014 و2020”.
وعلى صعيد نسبة الموافقة على الطلبات التي تمّ البتّ فيها، تؤكّد القاضية ليّوس أنّ أرقام “العام 2022 وصعودًا تظهر وكأنّ هناك تراجعًا في أعداد الاقتراحات الصادرة مقارنة مع أعداد الطلبات التي تمّ ردها، لكنّ ذلك لا يمثل الواقع”. فـ “اللجنة اضطرّت بسبب الاعتكافات التي شهدها القضاء واعتكافات الأطباء لردّ عشرات طلبات التخفيض بسبب ‘انتفاء موضوعها’ أي بسبب خروج السجين من السجن بعد انتهاء محكوميّته”. وتُعطي مثالًا على العام 2022 الذي “شهد رد 186 طلبًا لانتفاء الموضوع من أصل 358 طلبًا تمّ ردّه أي 52% منها، علمًا أنّ هذا العدد لا يشمل الطلبات الواردة إلى لجان محافظات البقاع والجنوب والنبطية كونها عالقة منذ آذار 2022”. وتُشير القاضية ليّوس إلى وجود “أزمة عميقة في محافظات البقاع والجنوب والنبطية، التي تراكمت فيها الطلبات منذ العام 2022، إذ تعذّر البت بـ 83 من أصل 87 طلبًا نتيجة تعطّل عمل اللجان بعد استقالة الأطباء النفسيين”. وعن العام 2024، تلفت القاضية ليّوس إلى أنّ “عدد طلبات التخفيض الواردة إلى اللجنة تراجع عام 2024 نظرًا إلى أنّ السجناء باتوا يعرفون أنّ معظم اللجان معطّلة”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.