لقد أعادت الأزمة اللبنانية الراهنة إلى الواجهة تساؤلات مصيرية حول لبنان كنظام وككيان كانت رائجة أيام الحرب الأهلية 1975-1990 لكنها طويت – أقلّه في الحيّز العام – مع طيّ صفحة الحرب. وقد أدّى ذلك إلى شبه قطيعة معرفية مع الماضي بخاصّة عند جيل ما بعد الحرب، مما سلبه الحق والقدرة في فهم أعمق ونقدي للماضي. تطرح المفكرة القانونية – عبر سلسلة من المقالات – قضايا محورية في تكوين لبنان ونظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي خلال المئة عام الماضية من منظور فهم الماضي لاستشراف المستقبل. (المحرّر)
مئة عام على تأسيس دولة لبنان الكبير، واللبنانيون اليوم محاصرون ليس فقط بالحجر المنزلي، إنّما بانهيار اقتصادي ومالي تتفاوت وتتناقض أحياناً وجهات النظر بشأن مسبّباته، كما بشأن صياغة خطّة طريق للخروج منه. يضاف إلى ذلك الآثار المهولة لتفجير مرفأ بيروت على كلّ المستويات: البشرية والمادية والنفسية والاجتماعية والسياسية. وفي ظلّ هذه الأوضاع لا مكان في اهتمامات الناس لما كان يُحضّر من احتفالات رسمية في مئوية التأسيس الذي جاء بنتيجة تقاسم المنطقة وفق اتفاقية سايكس بيكو، فكانت ولادة قيصرية بأدوات خارجية.
مئة عام على التأسيس وأكثر من ثلاثة أرباع المئة على الاستقلال، ومشروع بناء الدولة الوطنية يعاني من استحالة التنفيذ. ومن أبسط مظاهر الاستحالة وأكثرها تعبيراً، العجز عن وضع كتاب موحّد لهذا التاريخ، مما يعني استحالة صنع المستقبل. وهذه الوضعية تعبِّر من جهة عن مأزق النظام وكذلك البديل السياسي ومن جهة أخرى عن البنية الطائفية. وهذا الأمر يطرح السؤال حول آفاق الخروج من المأزق في ظلّ تقاطع التناقضات الخارجية مع التناقضات الداخلية، وشمول هذه التناقضات التناحريّة جميع المستويات: الاقتصادية والسياسية والمالية والاجتماعية والثقافية. وبالتالي، هل يمكن إنجاز تغيير في بنية النظام بمعزل عن الصراع الإقليمي والدولي؟ (حتى ولو بمعنى الإبقاء على العلاقات الرأسمالية إنّما في سياق مهام الثورة البرجوازية والانتقال من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد منتج وإقامة دولة المواطنة) ومن هذا السؤال تنبثق مسائل عدّة على ضوء المآل الذي بلغه الحراك الشعبي الاحتجاجي، أبرزها: من هي القوى التي ستضع جدول أعمال أي تحرّكات مقبلة، وضمن أي مشروع؟ في هذا الوقت تستمرّ محاولات تصفية القضية الوطنية الفلسطينية بوتيرة متسارعة في ظلّ انتقال التطبيع بين النظام الرّسمي العربي والكيان الغاصب من السرّ إلى العلن ومن دون حياء. ولا يمكن عزل لبنان عن مشروع صفقة القرن، وعن الصراعات الدولية المحتدمة ذات الأبعاد الجيوسياسية خصوصاً بعد الاكتشافات النفطية الواعدة في بلدان الحوض الشرقي للبحر المتوسط.
العناصر المكوّنة للهويّة
في مسار تطوّرها أنتجت المجتمعات العناصر المكوّنة للهوية. وفي كلّ التاريخ البشري، وبنتيجة الطابع الاجتماعي لحياة الناس، شكّلت الهوية الاجتماعية رابطاً قوياً بالنسبة للفرد، طبعته بها لدرجة أنّه لا يمكنه التفاعل مع الآخرين إلّا من خلال هذه الهوية. فالهوية لا تتأكد إلّا من خلال الآخر. ويواجه المجتمع اللبناني أحد أصعب التحدّيات والمرتبط تحديداً بالهوية. السؤال البسيط، هل تشكّلت خلال المئة عام الماضية هوية ثقافية لبنانية بما يتعدّى الإطار القانوني الجامع المتمثل في الانتماء لدولة تُصدر الوثائق الشخصية الخاصّة بها من هوية شخصية وجواز سفر ووثائق زواج ووفاة وولادة إلخ؟ هل تبلورت هوية تشكّل مظلّة ينضوي تحتها اللبنانيون بغضّ النظر عن تنوّعهم الديني والمذهبي وتفاوتهم الاجتماعي والثقافي، والتي تفترض إذا ما وُجدت، أن يكون هذا التنوّع مصدراً للغنى والتطوّر على المستويات الفردية والاجتماعية. وهذا التحدّي تواجهه الآن معظم المجتمعات العربية بعد هزيمة المشروع القومي التوحيدي العربي، مع عدم إغفال حقيقة التفاعل بين الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي بما هو علاقة جدلية بين البنيتين التحتية (المادية) والفوقية (الروحية).
والثقافة هي المرآة التي تعكس الواقع الاجتماعي بأشكال مجرّدة تطوّرت مع تطوّر المجتمعات البشرية، وشكّلت العمق التاريخي للهوية المجتمعية، بحيث صارت جزءاً مكوّناً لهذه الهوية. وبما أنّ المجتمعات تتغيّر وتتطوّر، فإن الثقافة تتبدّل وتتفاعل مع التغيّرات المادية المرتبطة بتطوّر وسائل الإنتاج والواقع المادي المُعاش، والهوية الموحّدة لا تلغي التنوّع الديني والثقافي والاجتماعي.
ولا يمكن فصل صيرورة الفرد عن التطوّر الاجتماعي الضاربة جذوره في أعماق التاريخ، وكل هذا التطوّر هو خلاصة الصراع على كل المستويات، بما في ذلك الصراع الأكثر بديهية وأولية، أي الصراع من أجل البقاء. في الصراع تتشكّل رؤيتنا ومفاهيمنا، ولمنطق الصراع تخضع سلوكيّاتنا التي تشكّل محصّلة ذلك التراكم التاريخي الذي يتكوّن من البيولوجي والاجتماعي في علاقة يصعب فيها فصل الواحد عن الآخر. وفي هذا الإطار تنفرد الشعوب بخصائص تميّز بعضها عن الآخر، وبالرغم من ذلك، يمكن في الفترات التاريخية المختلفة لحظ قواسم مشتركة بين الشعوب. ولو أخذنا القرن الماضي، يتبيّن وجود عناصر مشتركة، كالنضال مثلاً ضدّ النازية، أو نضال شعوب البلدان المستعمرة ضد النظام الكولونيالي العالمي، أو نهوض وعي متقدّم ساهم في صعود الحركة العمّالية في البلدان الصناعية. وفي كل هذه الأمثلة، وفي خضمّ الصراع، تكوّنت عند الشعوب، ذات الأعراق والأديان والإثنيات المختلفة، تصوّرات مشتركة عن الحياة، وأهداف مشتركة شكّلت الأساس لنشوء حركات اجتماعية بمضامين متشابهة، كالحركات القومية، أو الاشتراكية أو مؤخراً الحركات السياسية بأيديولوجيا دينية.
وبهذا المعنى، فإنّ الهوية ليست معطى ثابتاً إنما هي تستند إلى الجذور التاريخية للموروث الثقافي، وتتطوّر في سياق وحدة جغرافية مؤسّسة على الانضواء تحت مشروع سياسي واقتصادي ذي خصائص ثقافية يتمّ فيه التفاعل بين المادي والروحي، ومن شروط نجاحه توفّر إرادة سياسية بتحقيق الأهداف المشتركة.
تكريس الهويّة الطائفية من العثمانيين مروراً بالانتداب
إن طرح التساؤل عن وجود هوية وطنية (ثقافية) لبنانية تفرضه الأحداث والوقائع المتتالية، التي تؤكّد أنه وخلال المئة عام الماضية شهد الاجتماع اللبناني ارتجاجات عميقة من أبرز سماتها طغيان الشكل الطائفي للصراعات الاجتماعية على مضمونها الطبقي والسياسي. هذا مع الإشارة إلى أنّ هذا الطابع هو سابق لإعلان التأسيس ويعود إلى ثلاثينيّات القرن الثامن عشر مع الانتفاضات الشعبية الفلاحية بوجه الإقطاع (العاميّات)، والتي نجح الإقطاع والمؤسّسة الدينية في تحويلها إلى صراعات طائفية.
وبما أنّ التلازم قائم بين الهوية الفردية والهوية الاجتماعية، فإنّ الهوية الطائفية هي الأقوى حضوراً في الوعي الفردي التي يتمّ إعادة إنتاجها عبر عناصر البنية الفوقية في المجتمع اللبناني. وتؤدّي الدولة الطائفية دوراً هاماً في آليّات ترسيخ هذه الهوية على حساب الأشكال الأكثر تقدّماً وحداثة للاجتماع السياسي.
ولم يكن الترابط بين الكيان والنظام السياسي الطائفي نتيجة لخطأ في حسابات المستعمر الفرنسي، إنّما جاء في سياق متسلسل استند إلى المصالح الاقتصادية. وابتدأ هذا الترابط مع توسّع النفوذ الفرنسي في أطراف الامبراطورية العثمانية مع نهاية القرن التاسع عشر، بعد إنشاء مرفأ بيروت مع إعطاء الأفضلية له، وقيام شركات أشغال عامّة فرنسية بتحديث خطوط المواصلات البرية (طرق، سكة حديد) من بيروت باتّجاه سوريا، التي كانت مرتبطة بشركات تمويل منحتها السلطات العثمانية امتيازات خاصّة.
ومع ولادة لبنان الكبير كان الاقتصاد اللبناني عبارة عن تمركز لمناطق زراعية حول مدن – مرافئ (بيروت، صيدا، طرابلس)، كانت الشريان الذي تتدفّق من خلاله السّلع المُصنّعة في سوريا نحو أوروبا. وكانت الأنشطة الصناعية والتجارية تتكيّف مع احتياجات الزبائن الأقوى، أي الأوروبيين. ولم تكن القضية بالنسبة للبنان، الكيان الناشئ، تتمثل في تطوّره الاقتصادي وفق احتياجاته وإمكانياته، إنّما كان عليه التكيّف مع أنماط العلاقات الاقتصادية التي فرضتها مراكز الامبريالية العالمية الناشئة بعد الحرب العالمية الأولى، وتحديداً، هيمنة الأنشطة الوسيطة على الاقتصاد المحلّي، بحيث صار لبنان وسوريا بالنسبة لفرنسا مصدراً للموارد وسوقاً للاستهلاك.
أما الاجتماع الطائفي فتعود جذوره إلى طبيعة الدولة الإسلامية في الامبراطورية العثمانية، حيث لا فرق بين السلطتين الزمنية والروحية، والسلطان العثماني هو في الوقت عينه الخليفة، والتشريع الإسلامي يُطبقّ على المسلمين، في حين يحق لأهل الكتاب (المسيحيون واليهود) تطبيق تشريعاتهم لقاء تمييز ضريبي. وهكذا، تمكّنت الأقليّات غير الإسلامية من البقاء مستفيدة من القانون الإسلامي، وهذا ما دفعها إلى تنظم نفسها. ومع تطوّر المدن – المرافئ انتقلت الى أحياء المدن حيث مارست دورها الاقتصادي. وزاد من تعقيد العلاقات البينية الدور الذي أدّته الإرساليّات الدينية الأجنبية، التي استفادت من الامتيازات المُعطاة لها نتيجة الضغوط التي مارستها البلدان الأوروبية على الإمبراطورية العثمانية. وبالتالي فإنّ تكريس الهويات الطائفية كان أمراً لا مفرّ منه داخل الامبراطورية العثمانية في ظلّ نظام الملل الطائفية، حيث لا يمكن لأي شخص أن يكون خارج طائفة دينية فكلّ طائفة كانت بحدّ ذاتها تشكّل إطاراً تشريعياً وقانونياً.
وفي 30 تشرين الأول من العام 1918 عندما اضطرّ الباب العالي لتوقيع هدنة “مودروس”، بادرت غرفة تجارة مارسيليا للدعوة إلى عقد مؤتمر فرنسي لسوريا، حيث وُضعت خطّة للتغلغل الفرنسي، كان هدفها جعل لبنان منصّة للترانزيت بين سوريا وأوروبا، وجرى تحسين التشريع التجاري وفق مبادئ القانون الفرنسي، والنظام العقاري باعتماد سجل مساحة، مع إرساء دعائم الائتمان التجاري والزراعي والرهونات العقارية، وبدأ تأسيس البنوك الأوروبية، ومنها البنك السوري الذي أدّى دور المصرف المركزي، مع امتياز إصدار النقد. وعلى المستوى السياسي تبخرت كل الوعود التي قطعتها فرنسا في العام 1918، ولم يكن للمجلس التمثيلي المنتخب الذي تأسس في آذار من العام 1922 أيّ دور تقريري، ناهيك عن طبيعة تركيبته الطائفية، بحيث لعب الفرنسيون على التناقضات الطائفية، وعطّلوا أية إمكانيات للعمل السياسي الاحتجاجي، مما صعَّب ظهور حركة وطنية على الصعيد اللبناني ككل. وفي المقابل، سعى الزعماء الموارنة إلى الحفاظ على المكاسب التي حصلوا عليها في حدود لبنان الجديد. وصاروا أكثر نزوعاً للمساومة، مع دعم التجار من الطوائف الأخرى الذين جمعتهم مصالحهم من زعماء الموارنة في منع وتعطيل أيّ تغيير في الوضع القائم.
ولادة حركات تطرح بدائل للهويّة الطائفية
مقابل الانقسام الطائفي القائم، وبتأثير من ثورة أكتوبر الاشتراكية الروسية، بدأت تتبلور في لبنان حركة عمّالية اشتراكية جسّدت الانعكاس السياسي للصراع الطبقي بين الرأسماليين والعمّال، وكانت النقيض للتشكل الطائفي انطلاقاً من مطالبها بتحسين شروط حياة العمّال والكادحين، وتركيبتها العابرة للطوائف، وموقفها الوطني المعادي لتحالف رأس المال مع سلطة الانتداب الأجنبية. وترافق إعلان تأسيس حزب الشعب اللبناني (الذي صار لاحقاً الحزب الشيوعي) مع تنظيم الاحتفالات بعيد العمال، وانطلاق نشاط تنظيمي واسع لتأسيس النقابات، ليس فقط بوصفها المعبِّر عن مصالح العمّال في المهنة المحدّدة، إنما لتكون الإطار الاجتماعي النقيض للتكتّلات الطائفية. وبذلك، يمكن القول إن الحركة الاشتراكية في لبنان، إنطلاقاً من طبيعة مشروعها السياسي، شكّلت موضوعياً جسر العبور من حالة الانقسامات والصراعات الطائفية، أي الدولة الطائفية إلى مشروع الدولة الوطنية.
افتتحت هزيمة ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية مرحلة جديدة في تاريخ الاستعمار، تمثلت في انهيار النظام الكولونيالي، وفي انطلاق مرحلة النضال الوطني التحرري. وكان من نتائجها المباشرة حصول لبنان وسوريا على استقلالهما السياسي. وفي تلك الفترة نفّذ المستعمرون البريطانيون التزامهم مع الحركة الصهيونية بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين على حساب الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. وهذا الأمر أنشأ حالة جديدة في المنطقة، كان الكيان اللبناني من أكثر المتأثّرين بها، بسبب تجاوره مع فلسطين، ولأنّ الحركة الصهيونية، بصفتها حليفة لمراكز الامبريالية العالمية تستهدف كل الشعوب العربية.
وكامتداد للحرب الباردة، انقسم العالم العربي بين معسكرين، واحد حليف للولايات المتحدة الأميركية وآخر حليف للاتحاد السوفياتي مع محور دول عدم الانحياز. وهذا ما تسبّب في اندلاع أحداث العام 1958 في لبنان، بحيث انقسم اللبنانيون، أحزاباً وقوى سياسية وتكتلات طائفية ومؤسّسات دينية بين الولايات المتحدة والرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي وقف في طليعة المشروع القومي التوحيدي العربي المواجه للاستعمار والصهيونية.
وفي لبنان كانت السّلطة التي مثلت مصالح البرجوازية الكومبرادورية من أصحاب المصارف والشركات المالية وشركات الامتياز التجارية وكبار التجّار والمحتكرين، منحازة كلّياً لربط البلد بالمشاريع الأميركية (حيث شهدت مراكز الهيمنة الامبريالية انتقالاً من أوروبا إلى الولايات المتحدة) بسبب ارتباط مصالحها بالغرب. في المقابل انخرطت في “الثورة” شرائح اجتماعية ونخب سياسية استجابت لمشاريع الوحدة العربية والحرية. واتخذ الصراع طابعاً طائفياً كنتاج لشكل السلطة والتي اصطلح على تسميتها بالمارونية السياسية. وانتهت “الثورة” بتسوية أميركية مصرية أعادت رسم حدود المصالح داخلياً بما يتوافق مع وظيفة الكيان مع استبدال تدريجي للتبعية الفرنسية بالأميركية.
إعادة إنتاج النظام الطائفي بأيادٍ خارجية
أتاحت مرحلة كامب ديفيد، وما عنته من خروج لمصر من الصراع العربي الإسرائيلي، الظروف المؤاتية للشروع بتصفية المقاومة المسلّحة للشعب الفلسطيني التي كان اتّفاق القاهرة منحها حرّية العمل العسكري المسلّح على/ومن الأراضي اللبنانية. وتراكبت تناقضات الصراع الداخلي في ظل تفاقم أزمة النظام مع تناقضات الصراع الإقليمي لينفجر الوضع في العام 1975 على شكل صراع مسلح تّخذ طابع الحرب الأهلية. وانتهى الصراع الأهلي المسلح بتسوية إقليمية دولية أفضت إلى فرض تعديلات على شكل السّلطة السياسية، مما أفسح في المجال لمزيد من الاندماج بين السياسي والمالي، مع محاولة لإعادة إنتاج الوظيفة التاريخية نفسها المُناطة بالكيان في ظلّ الترويج لتسوية سلمية قادمة ستُنهي الصراع. ويمكن اختصار ذلك التاريخ بمرحلتين:
الأولى، اتّفاق الطائف، وهو نتاج توافق إقليمي دولي كما أشرنا أعلاه، أسّس لتغيّرات عميقة طالت البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، أبرز سماتها ظهور شريحة برجوازية من المتعهّدين ورجال الأعمال مرتبطة بمراكز السلطة الطائفية، وتحت وصاية سورية. الثانية، موت الطائف، أي مرحلة اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري وما تلاها من اهتزازات كبيرة ما زالت مفاعيلها مؤثرة حتى اليوم، وشهدت هذه المرحلة انقلابات في مواقع القوى الطائفية، وإعادة تموضع ناجمة عن مفاعيل التبدّلات في الاستراتيجية الأميركية تجاه المنطقة.
وبالتالي بيّنت الأحداث الهامّة والكبرى أنّ بنية النظام السياسي الطائفية هي بنية هشّة تشكّل الإطار السياسي لهيمنة طبقة برجوازية تجارية وسيطة، ترتبط مصالحها بالشركات الامبريالية وبمصالح رأس المال العالمي، وهي تمتلك كل عناصر القوّة الداخلية (الجيش، القضاء، التربية، الاعلام… الخ). وبنتيجة هذا الترابط الوثيق بين سلطة الداخل والقوى الدولية والاقليمية الكبرى، فإنّه في كل تاريخ الصراع الداخلي لم يحدث يوماً أن حصلت تسويات إلا بفعل صفقات بين القوى الخارجية الأكثر فاعلية في موازين القوى.
والصراع في لبنان هو من جهة صراع داخلي بين طغمة مالية وطبقات كادحة من عمّال وفلاحين وصغار كسبة وحرفيين وشرائح من البرجوازية الصغيرة. واتسعت قاعدة الشرائح والطبقات الاجتماعية المتضرّرة من السياسات الاقتصادية والمالية المتّبعة لتطال عملياً كل الشعب اللبناني بعد انفجار الأزمة الاقتصادية. وهو من جهة أخرى صراع خارجي، دولي وإقليمي (اغتصاب فلسطين ووظيفة الكيان الغاصب كجزء من مشروع الهيمنة الامبريالية على شعوب المنطقة وثرواتها) بحيث يتشابك الداخلي مع الإقليمي بين محورين، الأميركي الصهيوني الرجعي العربي، والروسي الإيراني السوري.
في ظلّ هذا التشابك في تضاد المصالح او تطابقها، والبنية الطائفية التي تستمدّ قدرتها على إعادة إنتاج النظام من شرايينها الخارجية، يصبح من المستحيل فصل مواضيع الصراع الداخلي (توزيع الثروة، التنمية، العدالة الاجتماعية، البنيان السياسي) عن مواضيع الصراع الخارجي (الإقليمي والدولي). ويصبح كلّ كلام عن أولوية بناء الدولة كشرط للتصدّي للمهام الوطنية المرتبطة بالهيمنة الامبريالية والمشروع الصهيوني هو من خارج المنهج الديالكتيكي في كشف الواقع. وبالتالي، فإنّ الترابط بين مهام التحرّر الوطني والعدالة الاجتماعية مسألة جوهرية في عملية التغيير الثوري. ومن العوائق الأساسية أمام التغيير هو هيمنة الوعي الطائفي على المستوى الاجتماعي، الذي يشكّل عُدّة الشغل عند القوى السلطوية الطائفية التي يندمج معظم قياداتها مع أصحاب رؤوس الأموال ويتحالفون مع المؤسّسات الدينية بحيث ينقلب الطبقي إلى طائفي ويسهل تحوير الانقسام من أفقي الى عامودي. وهذا الأمر يحيل النقاش إلى البعد الثقافي كأحد أدوات تكوّن الهوية الوطنية، وهذا يستدعي التوقّف عند الآليات المعيقة لتشكّل هوية وطنية موحّدة وبديلة عن الهويات الطائفية المهيمنة.
معوقات بناء هوية وطنية موحّدة
لا يمكن للثقافة الوطنية الازدهار والتبلور والتمكّن من دون وجود مشروع سياسي وطني، يشكّل الحامل الاجتماعي والمادي لها، بما هي ثقافة تقدّمية استقلالية، متفاعلة مع الثقافات الأخرى، غير ملتحقة بها وغير معادية لها. وهذا الشرط لا يلغي وجود مثقّفين وطنيين، إنّما وجود المشروع السياسي الوطني هو ما يجعل من الثقافة الوطنية مشروعاً مرتبطاً بمهام مواجهة الهيمنة الامبريالية وببناء الإنسان الوطني المدافع عن العناصر التقدّمية لثقافته والمطوّر لها والمُدرك لذاته بصفته كائناً حرّاً ومتحرّراً من قيود الموروثات الاجتماعية والفكرية والقادر على الإبداع في الميادين المادّية والروحية. وفي ظلّ غياب المشروع الوطني، فإنّ الثقافة السائدة ستبقى منشطرة بين الاغتراب المتماهي في الثقافة الامبريالية وبين التهميش المتمثل بردود فعل العاجز المشبعة بالروح الثأرية.
كما أنّ أحد جوانب انعدام الأمل في لبنان هو طغيان الدّين، كأحد مكوّنات الهوية الاجتماعية، على الهوية الوطنية، بما هي إطار أكثر شمولية واتساعاً. وهذا الأمر يصعّب الاندماج الاجتماعي الذي يؤسّس لهوية تتخطّى التنوّع الديني. وهذا الطغيان ليس مرتبطاً بالدّين ذاته، إنما هو ناجم عن المنظومة السياسية التي تستهدف إعادة إنتاج النظام الذي يعمل لمصلحة الطغمة المالية.
وهذه المنظومة السياسية تشكّل العائق الفعلي أمام تكون الهوية اللبنانية التي لا يمكن أن تتبلور إلّا على أساس المواطنة، مع تكريس ما نصّ عليه الدستور، العقد الاجتماعي الأساس، من وحدة الكيان اللبناني النهائية ضمن الحدود الجغرافية، ومن التزام لبنان بالعروبة كهوية والتزام.
والعامل الثقافي يشكّل أحد العناصر الهامة في تكوين الهوية، وهو يتشكّل من كل المشتركات: الأدب، الشعر، الموسيقى، الاغنية، اللوحة، المسرح، السينما، التلفزيون. كيف يمكننا تخيّل لبنان بعد عشرين عاماً في ظلّ هذا النظام الطائفي الذي يمعن في التفريط بالعناصر الموحّدة للهوية وفي ظل اضمحلال طقوس مشتركة، بسيطة جداً، وحلوة جداً، كفيروزيات الصّباح، أو السهر على وقع موسيقى أم كلثوم أو حفلات الزجل؟ إنّ من تبقّى من نخب ثقافية وسياسية مدعوون للتفكير في مصير مشروع الهويّة الوطنية، من دون الانفعال بأحداث اللحظة الراهنة، والانخراط في الانقسام الراهن ذي الأبعاد المذهبية والطائفية التي يسعى الكثيرون لاخفائها تحت عباءة مواقف سياسية، هي ترداد لخطابات زعماء الطوائف. طبعاً من دون نسيان العنصر الاقتصادي، وهو من العناصر الهامّة في تثبيت الاستقرار الاجتماعي المساعد على جعل الهوية اللبنانية مشروعاً قابلاً للتشكّل.
خاتمة
واجه الكيان اللبناني خلال المئة عام من وجوده تهديدات خطرة، كانت تترافق مع صراعات مسلّحة وفتن وحروب أهلية، هي التعبير عن بنية سياسية طائفية هشّة، وليدة وظيفة حدّدها الفرنسيون للكيان، وأدّت إلى تكوّن طغمة مالية جشعة وضعت مصالحها فوق كل الاعتبارات. وهذه المصالح تستجيب دولياً لمصالح الامبريالية. وهذه الطغمة مستعدّة للذهاب إلى الانتحار إذا نشأت ضرورة لفصل النظام عن الكيان وشعرت أنّ مصالحها مهدّدة.
إنّ الوظيفة التي خُصّ بها الكيان عند تأسيسه استمرّ في تحقيقها لغاية العام 1975 تاريخ اندلاع الحرب الأهلية. والرّهان الذي عبّرت عنه المرحلة الحريرية باستعادة الدور الخدماتي للبنان في ظلّ أوهام السّلام الآتي قد سقط مع فشل أوسلو في فتح الباب أمام التطبيع العربي مع الكيان الغاصب.
ونحن اليوم نعيش مرحلة شديدة الخطورة، بحيث بدأت ترتسم في الأفق ملامح النتائج الاقتصادية لسياسة التطبيع العلني لبلدان الخليج مع الصهاينة، والتي ستلغي نهائياً الوظيفة التاريخية للكيان اللبناني. وهذا يعني أنّ الأخير لم يعد مشروعاً قابلاً للحياة وفق الوظيفة الأساس التي أنشئ من أجلها. وما يجري اليوم في المنطقة من إعادة رسم للجغرافيا السياسية ستحدّده الأطراف الأقوى، وأمام غياب مشروع وطني متكامل المواصفات السياسية والثقافية والتنظيمية قادر على التصدّي للتحدّيات ولمهام التغيير الثوري، فإنّه لا أمل للكيان اللبناني بالشفاء. والمدخل إلى ذلك (وهو غير متوفّر الآن) يتمثل في بناء مشروع تكامل اقتصادي عربي ينخرط فيه الكيان اللبناني من البوابة السورية، وهذه المشروع هو الرد البديل على السلوك الخياني للنظام الرسمي العربي المهرول للتطبيع من الكيان الغاصب. وفي انتظار ذلك، لا يبقى أمامنا سوى المراهنة على أملٍ ما، ربّما سيأتي من الصّراع ومن إرادة الشعوب في صنع المستقبل، لأنّ الحياة لا تحتمل الخواء.
*- أستاذ في كليّة الهندسة – الجامعة اللبنانية