دخل العالم أجمع مرحلة سياسية – اقتصادية غير مسبوقة. خيّم غيمُ الوباءِ على كلّ ركن من الكرة الأرضية. لم يبق أحد بمنأى عن التطوّرات المقلقة المتسارعة يومياً. أغلقت قارات بأكملها وأُقفلت الحدود وانتشرت جيوش لتنفّذ قرارات الحجر الصحي في ظلّ حالة طوارئ معمّمة دولياً. لم يشهد الاقتصاد العالمي المعاصر جموداً مشابهاً، حيث تشير تقارير عدّة إلى أنّنا نتّجه نحو كساد اقتصادي أعمق بكثير مما عشناه في العام 2008-9، لكن مع أمل الانتعاش السريع إذا ما استطعنا أن نقضي على خطر الوباء في الأشهر المصيرية المقبلة. ومن أهم الإشكاليّات المترتّبة على هذا الواقع الاقتصادي المرير هي كيفية حماية العمّال والعاطلين عن العمل والفئات المهمّشة في المجتمع، الذين انقطعت فجأة مداخيلهم بسبب الحجر.
وضعت هذه الأزمةُ دولَ المشرق العربي أمام مسارات حرجة للغاية. فقد كان وضعها الاقتصادي هشاً حتى قبل تبعات كورونا، ما يثير شكوكاً مقلقة حول قدرتها على استيعاب صدمة الإقفال العام والضغوطات الاقتصادية والمالية المترتبة عليها. نتناول هنا بعض التحدّيات الجسيمة التي يواجهها الأردن ولبنان تحديداً، مع التركيز على مسألة حماية حقوق العمّال والفئات المستضعفة والأكثر عُرضة لتبعات الصدمات الاقتصادية. ونأمل أن نتناول الحالة الفلسطينية في مقالة مخصّصة، نظراً لعواملها الفريدة الناجمة عن نظام الاحتلال والحصار الهمجي الخانق على سكان غزة الصامدين أبداً في وجه المِحَن المتراكمة.
الاستراتيجيات المتّبعة في لبنان والأردن
انتهج الأردن ولبنان استراتيجيات مشابِهة في تصدّيهما للوباء، مع بعض التباينات في التسلسل الزمني وفي قسوة الإجراءات المتّخذة. فرغم بعض الانتقادات المشروعة التي وجّهت إليهما بسبب غياب الوضوح في الخطط المتّبعة وفي التواصل مع المواطنين، إلّا أنّهما في المجمل سارعا إلى فرض إجراءات حاسمة بهدف احتواء الوباء قبل أن يصل مرحلة التفشّي. ونرى ذلك جلياً عندما نقارن مقاربة هاتين الدولتين ببعض الدول الأكثر تقدّماً اقتصادياً كالمملكة المتحدة التي رأت في بادئ الأمر أنّ بوسعها أن تستوعب منسوباً أعلى من الانتشار من دون أن تلجأ إلى الإقفال التام نظراً لتداعياته السلبية على الاقتصاد (وبالتالي على قدراتها الصحية في المدى البعيد)، قبل أن تعود وتعدُل تدريجياً عن هذه الليونة في استراتيجيتها بعد اتضاح التبعات الكارثية المحتملة لها، كما بيّنت دراسة من كلية “إمبريال” في لندن. وقد يعود هذا التفاوت في المقاربة إلى التمايز في الأهليّة النسبية للقطاعات الصحية المعنية، حيث دول نامية كلبنان والأردن تفتقر إلى القدرات الكافية لاستيعاب صدمة التفشّي وتبعات التهافت على القطاع الصحّي، وتفتقد كذلك هذه الدول إلى القاعدة الإنتاجية التي تتيح لها توسيع قدراتها الصحية في السرعة اللازمة في حال انتشار الفيروس، ما يشكّل حافزاً مضاعفاً لكبت الفيروس قبل الانتشار وإن كان لذلك تداعيات مؤلمة على الاقتصاد.
لن نطيل في سردنا للإجراءات المتّخذة في كلا الدولتين، ونكتفي بنبذة موجزة كي نتناول البُعد الاقتصادي بعمق أكثر فيما يلي.
في لبنان، أُعلن عن الإصابة الأولى في 21 شباط، بعد إجراء فحص على مسافرة قادمة من مدينة قم في إيران. وعلى مدى الأسبوعين التالييْن، تمّ رصد حالات إضافية، أغلبيتها مرتبطة بمسافرين من الخارج وبأفراد كانوا على صلة بحالات معروفة. لكن بعد تسجيل حالات مجهولة المصدر وما أثارته من مخاوف الدخول في مرحلة الانتشار المجتمعي، أُعلن في 28 شباط عن إقفال المؤسّسات التعليمية. وفي 6 آذار، صرّح وزير الصحّة بأنّ لبنان لم يعد في مرحلة الاحتواء، داعياً المواطنين إلى اتّخاذ إجراءات وقائية لإبطاء انتشار الفيروس. ثم في 15 آذار، بعد مرور أيام من حالةِ حجر ٍصحي غير رسمية وإغلاقٍ للمقاهي والمطاعم، أصدرت الحكومة اللبنانية مرسوماً بإعلان حالة طوارئ صحّية وتعبئة عامّة تتضمّن إغلاق الحدود الجوّية والبحرية والبرّية، ليعود رئيس الحكومة حسّان الدياب بعد أيام ليمنع “الدخول والولوج إلى الشارع” في ساعات الليل، الأمر الذي ترجم على الأرض على أنّه حظر تجوّل ليلي.
أما في الأردن، فتحرّكت الحكومة في شكل أكثر صرامة، إذ علّقت السفر بينها وبين كلّ من مصر وفلسطين ولبنان وسوريا في 10 آذار، قبل أن تعلن عن إغلاق حدودها الجوّية والبرّية بالكامل في 19 آذار. ثم اتخذت قراراً بعزل المواطنين القادمين من الخارج – قبل إقفال الحدود بشكل تام – في فنادق مخصّصة في البحر الميت والعاصمة عمّان. بعد ذلك، تمّ الإعلان في 21 آذار عن حالة حظر تجوّل شاملة – من دون استثناءات حتى لتحصيل الطعام والمستلزمات اليومية – في ظلّ انتشار واسع للقوى الأمنية وتهديد صارم بمعاقبة المخالفين جزائياً (الأمر الذي حصل بالفعل، إذ ألقت الأجهزة الأمنية القبض خلال ثلاثة أيام على نحو 2700 شخص خرقوا الحظر). في الوقت نفسه، وعدت الحكومة بتأمين آليات لإيصال التموين للمواطنين في وقتٍ قريب. وبالفعل، بدأت بعد يومين عملية توصيل المياه والخبز بحافلات تابعة للبلديات وتحت رقابة الأجهزة الأمنية، بالتوازي مع الإعلان عن خطة لتوسيع أصناف البضائع التي سوف يتمّ توصيلها مباشرة للمواطنين على مدى الأيام القليلة التالية، وإصدار تطبيق إلكتروني ليسهّل هذه العملية.
لكن ما حصل في الواقع أنّه في المناطق ذات الكثافة السكّانية العالية، تهافتت الجماهير على الحافلات بشكل يتناقض كلّياً مع مبدأ التباعد الاجتماعي، الأمر الذي “أدّى في نهاية اليوم لتراجع الحكومة [مؤقتاً] عن قرار توصيل المواد الأساسية لكافة المواطنين في بيوتهم، واتخاذ قرارات جديدة لضمان حصولهم على احتياجاتهم التموينية”، بحسب تقرير لـ”مجلّة حبر”.
تساءل البعض عمّا برر الإجراءات المتّبعة في الأردن التي وُصفت بالأكثر قسوة في العالم، ولا سيما باعتبار عدد الحالات في البلاد ضئيلة بالمقارنة مع دول الجوار. والأرجح أنّ الحكومة انتهجت هذه السياسة القاسية لتخوّفها من عدم قدرة قطاعها الصحّي على استيعاب الضغوطات الهائلة في حال التفلّت، علماً بأنّ المعدّل الوسطي للأردن في الجهوزية للتصدّي للجوائح هو دون معدّلات كلّ من لبنان والمغرب والسودان، ولكن أعلى من معدلات فلسطين المحتلة وسوريا واليمن، بحسب إحصاءات منظمة الصحّة العالمية.
غياب الآليات الكافية لحماية الوضع المادي للمواطنين والمقيمين
وسط هذا الواقع المضطرب، نلاحظ غياباً شبه تام لأيّة آليات تسعى إلى حماية المصالح المادية للمواطنين والمقيمين في أثناء هذه المرحلة المتأزّمة، حيث تبخّرت مداخيل نسبة كبيرة منهم بين ليلة وضحاها في إثر الإقفال العام. فحتى الآن، أُعلن عن بعض الإجراءات الجنينية في هذا المجال، منها تعميم مصرف لبنان رقم 547 الذي يتيح للمصارف الاقتراض منه بالدولار وبفائدة صفر، مقابل استعمال المبالغ المقترضة من أجل تأجيل قروض الزبائن، وتمكين المؤسّسات والشركات من تسديد تكاليفها التشغيلية، تجنّباً لموجة عاصِفة من التعثر والإفلاس. ومنها أيضاً القرار الصادر عن الحكومة لتقديم مساعدات مالية تبلغ 400 ألف ليرة للأسر الأكثر حاجة، توزّع عن طريق الجيش اللبناني.
وأعلنت الحكومة الأردنية عن بعض القرارات الاقتصادية والاجتماعية المشابهة، إذ أصدر البنك المركزي تعميماً بتأجيل الأقساط المستحقّة على المقترضين بدون تحمّل فوائد التأخير، كما تمّ تأجيل استحقاق ضريبة المبيعات لحين تسديد المبالغ المستحقّة على قطاعات التموين والصحّة والأدوية، بالتوازي مع غيرها من الإجراءات الطارئة الرامية إلى تسهيل وضع السيولة وتجنّب الانكماش على المدى القصير. وإضافة إلى ذلك، أعلن صندوق المعونة الوطنية أنّ المؤسّسة العامة للضمان الاجتماعي قررت اعتماد بيانات الصندوق لتحديد الأسر المحتاجة والأكثر تضرّراً من حظر التجوّل.
لكن من البديهي القول إنّ تدابير كهذه، رغم ضرورتها، لن تقدّم حمايةً كافية للعمّال والطبقات المهمّشة اقتصادياً واجتماعياً سواءً في لبنان أو في الأردن، والتي تقع تحت وطأة أزمة اقتصادية غير مسبوقة ومتعدّدة الوجوه، خصوصاً في حال استمرار حالة الاقفال العام في الأسابيع والأشهر المقبلة. ومن شأن المضي في هذا المسار أن يؤدّي إلى كارثة اقتصادية – اجتماعية لم نشهد مثيلاً لها في العصر الحديث. وإضافةً إلى ذلك، من شأن عدم اتخاذ التدابير اللازمة في هذا المجال أن يعرقل الإجراءات المتّخذة لحماية الصحّة العامّة، إذ أنّ غياب الحماية المادية سوف يحفّز على خرق حظر التجوّل بحثاً عن العمل غير الرسمي، الأمر الذي رأيناه بعد إعلان حالة التعبئة العامّة في لبنان، حيث أشارت تقارير إلى تفاوت ملحوظ في الالتزام بين المناطق بسبب تمايز الضرورات المادية. ولا يفوتنا كذلك خطر تزايد الاضطرابات السياسية والاجتماعية مع تفاقم الوضع الاقتصادي، إذ أنّ كلا البلدين في مواضع هشّة نسبياً في هذا المجال وعليهما بالتالي تجنّب هذا الاحتمال.
سُبل حماية حقوق العمّال: مقاربة الدول الأقوى اقتصادياً
إدراكاً لمخاطر هذه اللحظة الحرجة التي ظهرت جليّاً في تهافُت 3.3 مليون شخصٍ في أسبوعٍ واحد على طلبات إعانة البطالة في الولايات المتحدة، أي خمسة أضعاف الرقم القياسي السابق الذي سُجّل في عام 1982، سارعت الدول المتقدمة اقتصادياً إلى اتّخاذ إجراءات طارئة لا سابقة لها على الإطلاق على مرّ التاريخ، بهدف حماية الاقتصاد والعمّال من تداعيات الوباء وتبعات الإقفال العام. تنوّعت الآليات المتّبعة في الدول. وحتى الآن، يبدو أنّها ليست كافية وأنّ مزيداً من التدخّل سوف يتبعها.
نقدّم هنا نبذة بسيطة عن أبرز التدابير التي اتّخذت والمتعلّقة بحماية حقوق العمّال والعاطلين عن العمل على وجه الخصوص، لنتساءل بعد ذلك إذا كان بإمكان دول المنطقة التي يرزح غالبها تحت ديون هائلة، أن تتّخذ تدابير مشابهة.
الولايات المتحدة
أقرّ الكونغرس الأميركي في 27 آذار أكبر خطة “إنقاذ” اقتصادية في التاريخ الحديث بقيمة تريليوني دولار لدعم الاقتصاد الوطني، تتضمّن قروضاً بقيمة 500 مليار دولار لشركات كبيرة تواجه صعوبات مالية، و250 مليار دولار كدفعات مباشرة للأفراد والأسر، و250 مليار دولار كدفعات إعانة البطالة وغيرها من المساعدات الاجتماعية. والأبرز في سياق الحديث عن حماية العمّال والذين فقدوا مداخيلهم هو القرار بدفع مبلغ 1200 دولار (ما يسمّى helicopter payment) لكلّ فرد في البلاد، مع زيادة 500 دولار لكلّ طفل وبعض الاستثناءات للذين يتعدّى دخلهم السنوي مبلغ 75,000 دولار. والهدف من هذه الدفعة الاستثنائية هو ضمان تكاليف التموين الأساسية في فترة الإغلاق العام، ريثما تتّخذ الإجراءات اللازمة لمعالجة الوباء وتوضع التدابير لإعادة إحياء الاقتصاد في الوقت المناسب.
وبالتوازي، أقبلت الأجهزة الفيدرالية على تعليق دفعات قروض السّكن للأسر المتأثرة سلباً من الأزمة الراهنة. حتى الآن، تقتصر هذه السياسة على القروض التي تدعمها المؤسّسات الحكومية “فريدي ماي” و”فريدي ماك” التي تساوي حوالي 50% من قروض السّكن في البلاد، ولا تُطبّق على قطاع الإيجارات الخاصّة التي لها أثر أكبر بكثير على الطبقة العاملة والفئات المهمّشة اجتماعياً واقتصادياً، والتي غالباً ما تكون غير مالكة للشقق والمنازل التي تسكن فيها. لكن في المقابل، بدأت بعض الولايات والبلديات تتوجّه نحو خيار تعليق دفعات الأجور السكنية ومنع تنفيذ قرارات الإخلاء أثناء الأزمة.
المملكة المتحدة
أعلنت حكومة المملكة المتحدة في 20 آذار عن خطة لدفع مبالغ تساوي 80% من مداخيل الموظّفين غير القادرين عن العمل بسبب الإقفال العام (بسقف 2500 جنيه استرليني شهرياً)، في محاولة لحماية الوظائف في هذه الأزمة. وتحت ضغط انتقادات قاسية وُجّهت إلى الحكومة من قِبل حزب العمّال المعارض، سارعت بعد أسبوع إلى إعلان خطة مماثلة للعاملين لحسابهم الخاص و”الفريلانسرز”. وما زالت هذه الخطة تشوبها التباسات وثغرات، خصوصاً في آليّات تطبيقها، الأمر الذي حمل البعض إلى المطالبة بدفعات استثنائية مباشرة للمقيمين من دون التعقيدات المترتّبة على التدابير المُعلنة، لكن الحكومة حتى الآن لم تستجب لهذه المطالب.
أما على صعيد السّكن، فقد علّقت الحكومة دفعات قروض السّكن لمدة ثلاثة أشهر ولكنها، كما في الولايات المتحدة، لم تفعل الأمر نفسه مع المستأجرين في القطاع الخاص، بل اكتفت بتمديد المهلة الزمنية المتاحة قبل تنفيذ قرارات الإخلاء، الأمر الذي عرّضها لانتقادات شرسة من حزب العمّال والنقابات التي تمثّل الفئات الأكثر هشاشةً في هذه الأزمة.
خصوصيّات لبنان والأردن: معضلة تمويل الإجراءات اللازمة
يدفعنا هذا الاستعراض البسيط إلى تساؤل ملحّ ألا وهو: هل بإمكان دول المشرق العربي، والأردن ولبنان على وجه الخصوص، أن تتّخذ تدابير كهذه وغيرها، لحماية العمّال والعاطلين عن العمل والطبقات المهمّشة من تداعيات فيروس كورونا الاقتصادية؟
الجواب على هذا السؤال ليس سهلاً. فبرأينا، ليس بوسع الحكومتين الأردنية واللبنانية أن تتخذا قرارات مالية مشابِهة، لأسباب سوف نبيّنها لاحقاً. إلّا أنّهما قادرتان رغم ذلك على اتّخاذ قرارات حاسمة وجريئة لتأمين حاجات مواطنيهما والمقيمين فيهما إذا ما تعاملتا مع هذه الأزمة على أنّها بمثابة حربٍ وطنية ضدّ تهديدٍ لا مرئي.
تكمن معضلة الدول النامية، ولا سيّما دولنا المشرقية، في مسألة تمويل إجراءاتٍ مماثلة لتلك التي نراها في الدول الأكثر تقدّماً. فهذا التمويل لا بدّ من أن يأتي إجمالاً من مصدر من اثنين: إمّا زيادة الضرائب على المداخيل لزيادة الإيرادات، أو الاقتراض من خلال الديون السيادية، وكلا الخيارين ليسا وارديْن أو كافييْن في الظروف القائمة، لأسباب سنعرضها تالياً.
بالنسبة للإيرادات، نرى أنّ خيار زيادة الضرائب شبه مستحيل الآن، لأنّ القاعدة الضريبية سوف تتقلّص كثيراً في الأشهر المقبلة نتيجة الإقفال العام وارتفاع معدّل البطالة، ولأنّ فرضها في أثناء كسادٍ اقتصادي سوف يؤدّي تلقائياً إلى تعميق الأزمة بدل معالجتها، إذ يسبّب انكماشاً مضاعفاً في الإنتاج المحلي.
أما بالنسبة لخيار الاقتراض، فنرى أنّه كذلك ليس يسيراً في الظروف الراهنة. فالدول النامية باتت تواجه صعوبة واضحة في إيجاد الدائنين في الأسواق المالية العالمية في هذه المرحلة، وإن وجدتهم، فسوف تأتي الديون مُثقلة بفوائد مرتفعة من شأنها أن تحول دون قدرتها على اتّباع سياسات مالية جريئة مشابهة لتلك التي بدأت تنتهجها الاقتصادات الأقوى. فمنذ حوالي أسبوعين، بدأ تهافتٌ عالمي على الدولار وعلى الديون السيادية الأميركية بصفتهما العملة الاحتياطية الدولية والأصول “الآمنة” الوحيدة في زمن الانهيار المحتمل، تماماً كما حصل سابقاً في أزمة 2008 رغم كون الولايات المتحدة نفسها مركز الزلزال في ذلك الحين (بما يثبت القوّة الخارقة للدولار في الاقتصاد العالمي المدوْلر). ففي 19 آذار، وصل مؤشر الدولار (trade-weighted dollar index) رقماً قياسياً هو الأعلى منذ خمسين عاماً. وتقع أهمية أزمة الدولار العالمية الناجمة عن هذا التهافت الجماعي على الصعيدين التاليين:
أوّلاً، أنّها تزيد الضغط على أسعار الصرف، وبالتالي لا بد من أن تفاقِم أزمة انهيار الليرة اللبنانية وتضغط على احتياطات البنكين المركزيين في لبنان والأردن، ما يجعل بدوره تمويل الواردات مكلفاً للغاية – وهذا أمر بالغ الأهمية لكلا الدولتين نظراً لاعتمادهما على الواردات في مجالات عدّة. وكذلك يُصبح تسديد القروض المقوّمة بالدولار (سواء في القطاع الخاص أو العام) مكلفاً وعسيراً بسبب نقص الدولار، ما يهدّد بموجة إفلاس عاصِفة شبيهة بما رأيناه في أوج أزمة 2008-9. ورغم أنّ الاحتياطي الفدرالي قد أعاد إحياء خطوط السيولة المبادلة (liquidity swap lines) التي فتحها في أزمة 2008-9 مع 14 مصرفاً مركزياً ليمدّها بالدولارات اللازمة لحماية سلامة التداول النقدي الدولي وتجنّباً لعدوى الانهيار المالي، إلّا أنّه من المسلّم به أنّ هذه الآليّة لن تطاول دولاً مثل لبنان والأردن، الأمر الذي يجعل لجوءهما إلى صندوق النقد الدولي أو أيّ مصدر خارجي آخر للتمويل أمراً شبه حتمي. ومن المرجّح في هذا الصدد أن يضطرّ صندوق النقد في تصدّيه لأزمة الدولار إلى إنشاء آليات لتقديم العملات الصعبة للدول النامية كي تتمكن من تمويل وارداتها الحرجة في هذه المرحلة، ومن ضمنها المستلزمات الطبية. وبالفعل، وافق الصندوق في 26 آذار على برنامج تمويلي للأردن بمبلغ 1.3 مليار دولار، كان قد أُعلن عنه سابقاً لكن تمّ تعديله ليمكّن الدولة من تخصيص جزء منه لمواجهة أزمة كورونا وتحصيل مستلزمات طبية. وقد يكون خيار التوجّه نحو قوى دولية نامية – والصين على وجه الخصوص – أيضاً وارداً في هذه المرحلة، إذ إنّها تملك الخبرة اللازمة لتقديم الدعم في مواجهة هذه الأزمة، وهي تسعى حالياً إلى توطيد علاقاتها مع دول المنطقة.
ثانياً، سوف تؤدّي ظاهرة التهافت على الدولار والأصول “الآمنة” إلى ارتفاع باهظ في تكاليف الاقتراض للدول النامية، إذ بات يبرز فارق شاسع بين فوائد الديون السيادية المختلفة (yield spread) نتيجة هرع الدائنين إلى السندات التي تُعتبر آمنة في ظل هذه الأزمة غير المسبوقة، ولا سيما سندات الخزينة الأميركية. وكما يشير آدم توز، الأستاذ البارز في التاريخ الاقتصادي في جامعة كولومبيا في نيويورك، ندرك هذه الإشكالية جليّاً حين نقارن الردَّين الألماني والإيطالي على أزمة كورونا. فقد سارعت إلمانيا، رغم مبادئها المالية المحافظة المعروفة، إلى إقرار خطة إنقاذ بقيمة 750 مليار يورو، بينما لم تستطع إيطاليا، وهي الدولة الأوروبية الأكثر تأثّراً بالوباء حتى اليوم، حتى الآن التشريع إلّا لردّ اقتصادي بمبلغ 28 مليار دولار. وكما يؤكد توز، يعود السبب الرئيسي لهذا التفاوت الشاسع إلى التباين في وضعهما المالي (fiscal leeway) وقدرتهما على الاقتراض، إذ برز في الأسبوعين الماضييْن فارق واسع في فوائد ديونهما السيادية. وهذا يدلّ على تردّد الدائنين في الأسواق العالمية لإقراض إيطاليا نظراً لوضعها المالي الهشّ. فالفوائد على سندات الخزينة الأميركية تتراوح الآن ما بين 0% و0.7%، أي هي فعلياً فوائد سلبية إذا أخذنا التضخّم بعين الاعتبار، ما يجعل تمويلها لخطط الإنقاذ أمراً سهلاً للغاية، بينما ارتفاع الفوائد على الديون السيادية في الدول النامية والضغط على الدولار يجعلان الاقتراض عسيراً ومكلفاً، بحيث قد تكون المالية العامّة في هذه البلدان عرضة للانهيار. وإذا كان الوضع المالي الإيطالي عسيراً، فما بالك بالوضع في لبنان بعد أسابيع من إعلان التخلّف عن سداد اليوروبوند: يبدو خيار الاقتراض وهميّاً.
خاتمة: فرصة لاستحداث نموذج اقتصادي بديل؟
ما الحلّ إذا لم يعد خيار الاقتراض ممكناً أو على الأقل كافياً، وبعدما تبخّرت المداخيل؟ هل لدينا خيار سوى الاستسلام لهذا الواقع المرير والركوع أمام سطوة الأسواق المالية العالمية؟ برأينا، لا بديل الآن سوى احتشاد شامل للثروات الوطنية والتعاون بين شعوب ودول المنطقة وفق خطة إنقاذية تهدف إلى ضمان الصحّة العامّة وحماية العمّال والعاطلين من العمل والفئات المهمّشة. بصيغة أبسط، نحن بحاجة إلى خطّة حرب، لا أقلّ.
ففي إسبانيا، على سبيل المثال، قامت الحكومة مؤخراً بتأميم جميع مستشفياتها الخاصّة ومؤسّساتها الصحّية لتمكّنها من مواجهة المهمّة الهائلة المتمثّلة في مكافحة الوباء، وتعالى الحديث عن تأميم المصارف وشركات الطيران وغيرها. إذاً باتت موجة تأميم شاسعة للمؤسّسات والقطاعات الاستراتيجية والشركات الكبرى أمراً حتمياً، ونرى أنّها يجب أن تمتدّ إلى المصارف والمؤسّسات المالية الوطنية – ولو مؤقتاً – كي تستطيع الحكومات تأمين حاجات شعوبها التموينية الأساسية في مرحلة الطوارئ هذه. خيار “الهيركات” أو فرض الضرائب المؤلمة على ثروات الأغنياء كذلك لا مفرّ منه إذا أردنا أن نجد وسيلة لحماية الفئات المهمّشة والأكثر عرضة للخطر الآن. فالوسيلة الفضلى والأكثر ضماناً لحماية الصحّة العامّة وحقوق العمال والعاطلين عن العمل في آن واحد هي التشريع لتعليق دفعات الإيجار وقروض السّكن، بالتوازي مع توزيع دفعات مباشرة لكافة المواطنين والمقيمين من دون تعقيدات أو استثناءات، وإن لزم الأمر تأميماً لبعض المؤسّسات أو فرض ضرائب على الثروات الموجودة. ويجب تحريك الشركات والمصانع لإنتاج المستلزمات الطبية الأساسية كالكمّامات والقفّازات، فيما يتمّ التواصل مع الجهات الدولية لتأمين سبل التمويل لاستيراد المزيد من أجهزة التنفّس. التحدّيات جسيمة، لكن لا بد من مواجهتها.
لقد أثبت هذا الوباء درجة ترابط مصائرنا جميعاً، وأسقط أوهام الحلول الفردية أو الجزئية والاهتمام بالذات. فقد أدرك الجميع أدرك فجأة قيمة الطبقات التي لطالما وُصمت بأنها تفتقد المهارات أو أن قيمتها الاقتصادية والاجتماعية محدودة. وأخيراً اكتشفنا أهمية العمالة الوافدة في البقالات والدكاكين، وعمّال الوطن في الشوارع والمستشفيات، والممرضين والممرضات، وسائقي خدمات التوصيل، وبائعي الخبز والمياه، إلخ… فمَن يتكلّم اليوم عن القيمة المضافة التي يجلبها المدير التنفيذي لهذا الصندوق الاستثماري أو ذاك؟ من هذا المنطلق، قد تشكّل هذه الأزمة فرصة فريدة لاستحداث نموذج اقتصادي جديد، قائم على تأمين حاجات المجتمع ككل على أسس التضامن والتكاتف والكرامة المتشاركة. يجب ألّا نفوّت هذه الفرصة، فالنموذج السابق الهشّ قد انقرض، وعلينا أن نبني غيره.