لبنان: ما لم يقله الدستور بعد الشغور


2014-05-27    |   

لبنان: ما لم يقله الدستور بعد الشغور

لقد عرف لبنان خلال تاريخه السياسي الحديث أكثر من أزمة أفضت إلى فراغ في موقع رئاسة الجمهورية. وبات من المسلم به أن المادة 62 من الدستور لا تقبل أي شكل من التأويل أو الاجتهاد إذ هي تنص صراجة على التالي: "في حال خلوّ سدة الرئاسة لأي علّة كانت تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء". وفي معرض هذا النص القطعي الدلالة والثبوت، لا يمكن القبول بكل الآراء التي تسمح لرئيس الجمهورية بتصريف الأعمال فانتهاء ولاية هذا الأخير أمر غير قابل للجدل أو الاجتهاد.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه لا يتعلق بمن يتولى صلاحيات رئيس الدولة لكن بمعرفة ما هي تداعيات الشغور على سائر المؤسسات الدستورية. ولكي نكون على بينة من الأمر لا بد من تقسيم صلاحيات رئيس الجمهورية إلى مجموعة من الفئات كي نتمكن من الاحاطة بالموضوع من مختلف جوانبه:

·        صلاحيات حصرية برئيس الجمهورية ذات مفاعيل قانونية مباشرة: وهي تلك التي يمارسها رئيس الجمهورية شكلا وحده دون حاجته إلى مشاركة أو موافقة أي مرجعية دستورية أخرى. وهذه الصلاحيات هي تحديدا التالية: مخاطبة مجلس النواب عبر الرسائل (الفقرة العشرة من المادة 53)؛ الطعن بالقوانين أمام المجلس الدستوري (المادة 19)؛ اصدار مرسوم قبول استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة ومرسوم تسمية رئيس حكومة جديد (الفقرة 3 و5 من المادة 53)؛ ترؤس الحفلات الرسمية (الفقرة 8 من المادة 53) وترؤس جلسات مجلس الوزراء (الفقرة الأولى من المادة 53) ورد قرارات مجلس الوزراء (المادة 56).

·        صلاحيات حصرية برئيس الجمهورية دون مفاعيل قانونية مباشرة: وهي تلك التي تتعلق بصلاحيات لا يمكن ممارستها من قبل السلطة التنفيذية إلا إذا بادر رئيس الجمهورية واقترح العمل بها. فهي حصرية لانها كمبادرة تتعلق فقط بالرئيس لكنها لا تنتج مفاعيل قانونية كونها تحتاج إلى موافقة سلطة أخرى. ومن أبرز الأمثلة على ذلك حل مجلس النواب إذ يمنح الدستور هذه الصلاحية إلى مجلس الوزراء الذي لا يمكنه حل المجلس إلا إذا بادر الرئيس وطلب ذلك (المواد 55 و65 و77). كذلك ايضا تعديل الدستور كون المادة 76 من الدستور لا تسمح لمجلس الوزراء بتقديم مشروع قانون بتعديل الدستور إلا بناء لطلب رئيس الجمهورية.

·        صلاحيات فردية لكنها غير حصرية: وهي الصلاحيات التي يقرر فيها رئيس الجمهورية فقط لكنها تحتاج إلى توقيع مرجعية أخرى. ومن الأمثلة على ذلك صلاحية العفو الخاص الذي يحتاج إلى توقيع رئيس مجلس الوزراء ووزير العدل علما أن توقيعهم هو فقط توقيع إضافي. كذلك أيضا مراسيم منح الأوسمة ومرسوم رد قانون ما إلى مجلس النواب (المادة 57) أو تأجيل انعقاد مجلس النواب (المادة 59).

·        صلاحيات مشتركة: وهي تلك التي يمارسها رئيس الجمهورية بالاتفاق مع رئيس الحكومة كصلاحية دعوة مجلس النواب إلى عقد استثنائي (المادة 33) أو صلاحية المفاوضة لعقد المعاهدات الدولية (المادة 52).

وتبقى الاشارة إلى أمر مهم ألا وهو صلاحية إصدار المراسيم. فالدستور يمنح هذه الصلاحية إلى رئيس الجمهورية لذلك ومن الناحية الدستورية الصرفة لا يمكن اعتبار القرارات التي يوافق عليها مجلس الوزراء قرارات خاصة بمجلس الوزراء لأن الغالبية الساحقة منها لا يمكن أن تصبح سارية إلا إذا اتخذت شكلها الدستوري والقانوني عبر اصدارها بمرسوم يصدر باسم رئيس الجمهورية. ان المرسوم لا يمكن أن يصدر دون موافقة مجلس الوزراء لكن هذا الأخير لا يحق له أن يصدر المرسوم بإسمه بل هو يرفع قراره إلى رئيس الجمهورية الذي يتولى إصداره ويطلب نشره في الجريدة الرسمية.
 
بعد هذا العرض المسهب يمكننا أن نسأل الآن: ما هي الصلاحيات التي تنتقل إلى مجلس الوزراء في حال خلو سدة الرئاسة وهل يستمر مجلس النواب بممارسة عمله كالمعتاد؟
 
بالحقيقة لا يتعلق الأمر بكون الصلاحية حصرية أو فردية كما يذهب البعض بأن هذا النوع من الصلاحيات لا ينتقل إلى مجلس الوزراء بل المعيار الواجب اتباعه هو: هل تؤدي ممارسة صلاحية ما إلى المحافظة على ثنائية الارادة التي افترضها الدستور ضمنا؟ ولتوضيح هذه النقطة لا بد لنا من بعض الشرح المسهب. فصلاحية حصرية كتوجيه الرسائل إلى مجلس النواب أو صلاحية فردية كرد القوانين لا مانع من أن تمارسها الحكومة وكالة كون إرادة الرئيس تكون انتقلت كاملة إلى مجلس الوزراء. وكذلك الأمر بالنسبة لمنح الأوسمة. وينطبق المنطق نفسه على الصلاحيات المشتركة فقد يدعو مجلس الوزراء إلى عقد استثنائي لمجلس النواب بناء على اقتراح رئيس الحكومة كون إرادة الرئيس انتقلت كاملة إليه.
 
وإذا كان هذا الأمر لا تشوبه صعوبات نظرية لكن الصلاحيات التي تقوم على ثنائية الإرادة تطرح مشكلة غير قابلة للحل. فحل مجلس النواب يتم بناء على التقاء إرادة رئيس الجمهورية المتمثلة بطلب الحل مع إرادة مجلس الوزراء المتمثلة بالموافقة. ففي حال خلو سدة الرئاسة من غير المعقول أن يطلب مجلس الوزراء من نفسه الموافقة على حل مجلس النواب. فمن يقترح يكون قد أبدى سلفا موافقته إذ نعلم من الناحية الفلسفية أن العقل هو الذي يوجه الارادة لذلك لا يستقيم أن يقترح الانسان أمرا ما على نفسه كون عقله يكون قد سبق وأبدى موافقته. إن مبدأ وحدة العقل والارادة في الشخص ينطبق على مجلس الوزراء الذي لا يستطيع أن يقترح على نفسه حل مجلس النواب لذلك لا يمكن حل مجلس النواب عند شغور سدة الرئاسة ليس فقط لأن مجلس النواب هو من يتولى انتخاب الرئيس الجديد بل أيضا لأن ثنائية الإرادة التي فرضها الدستور تصبح مستحيلة في تلك الحالة. وبالفعل تخول المادة السابعة من دستور الجمهورية الخامسة في فرنسا رئيس مجلس الشيوخ من ممارسة كل صلاحية رئيس الجمهورية باستثناء حل الجمعية الوطنية والدعوة إلى استفتاء  عام.
 
إن تطبيق مبدأ ثنائية الارادة يؤدي إلى استثناء الصلاحيات التالية من أحكام المادة 62 من الدستور: حل مجلس النواب، تعديل الدستور بمبادرة من السلطة التنفيذية، اصدار قانون معجل بمرسوم (المادة 58). ولا يقتصر هذا المبدأ على هذا الجانب فقط بل لديه تداعيات مهمة أخرى. ففي حال خلو الرئاسة لا يمكن لرئيس الحكومة أن يتقدم باستقالته ليس فقط لأن من شأن هذا الأمر أن يحدث فراغا كاملا في السلطة التنفيذية بل أيضا لأن هذا الأخير سيقوم بتقديم استقالته إلى مجلس الوزراء الذي يقوم مقام رئيس الجمهورية وبما أن المادة 69 من الدستور تعتبر الحكومة بحكم المستقيلة في حال استقال رئيسها نصبح أمام ضرب من الخيال الدستوري إذ يتوجب على مجلس الوزراء أن يصدر مرسوما يحمل توقيع رئيس الحكومة والوزراء باعتبار نفسه مستقيلا وهذا يدخل في باب السفسطائية الدستورية. علاوة على ذلك تتفاقم صعوبة الوضع إذ ما افترضنا حدوث ما من شأنه أن يجعل الحكومة بحكم المستقيلة كوفاة رئيسها أو فقدانها لأكثر من ثلث أعضائها المحدد في مرسوم تشكيلها. ففي تلك الظروف يتوجب اجراء استشارات نيابية جديدة وتكليف رئيس حكومة بغية تشكيل الحكومة. والسؤال البديهي الذي يطرح نفسه من سيتولى اجراء الاستشارات واصدار مرسوم التكليف ومن ثم مرسوم التشكيل؟ هل من المعقول أن يقوم مجلس الوزراء السابق بالاستشارات ومن ثم يصدر مرسوما باعتبار نفسه مستقيلا ومن ثم يصدر مرسوما آخر بعد أن يكون المرسوم الأول قد أنهى وجوده القانوني نهائيا بتسمية رئيس جديد لمجلس الوزراء؟ لذلك لا يمكن خلال خلو سدة الرئاسة ليس فقط لرئيس الحكومة أن يستقيل بل لا يمكن أن تعتبر الحكومة مستقيلة حتى لو توفي رئيسها أو فقدت أكثر من ثلث أعضائها. تبقى فرضية أن يقدم مجلس النواب على سحب الثقة من الحكومة. وبما أن التحليل السابق ينطبق أيضا على هذه الفرضية يفقد مجلس النواب قدرته على محاسبة الحكومة وسحب الثقة منها لأن ذلك من شأنه ليس فقط احداث فراغ تام في السلطة التنفيذية بل أيضا لعدم القدرة على تشكيل حكومة جديدة كون ثنائية الارادة غير متوفرة.
 
تبقى مسألة التشريع في ظل الشغور الرئاسي. لقد سبق للمجلس الدستوري في قراره رقم 1/2005 أن ألمح إلى عدم جواز التشريع في ظل وجود حكومة مستقيلة كون رئيس مجلس الوزراء المستقيل لا يحق الطعن بالقانون المقر "مامنشأنهانيفتحكوةفيالنصالتشريعيالمذكوريتسللمنهاعيب عدمالدستوريةاذيصبحهذاالنصالتشريعي بمنأىعنكلمراجعةلابطالهجزئياأوكليابقرارمنرئيس مجلسالوزراءيتخذهبالاستنادالىحقهالمحفوظلهفيالمادة19 منالدستور". ولما كانت صلاحية الطعن تنتقل إلى مجلس الوزراء حتى لو أصبح هذا الأمر أصعب من الناحية العملية لا يمكن لنا أن نقول أن تحليل المجلس الدستوري المذكور ينطبق أيضا في حال خلو رئاسة الجمهورية. وليس فقط صلاحية الطعن التي لا تتأثر عمليا بل حتى باقي صلاحيات رئيس الجمهورية المتعلقة بالقوانين إن كان من خلال إصدارها أو ردها كون إرادة الرئيس تنتقل بكاملها إلى مجلس الوزراء.
 
لذلك لا يمكن التذرع بهذه الحجج بغية منع مجلس النواب من التشريع كون العقبة تكمن في مكان آخر وتحديدا في المادتين 74 و75 من الدستور. فالمادة 74 تفرض على مجلس النواب الاجتماع فورا عند خلو الرئاسة لأي سبب كان بينما تنص صراحة المادة 75 على " إن المجلس الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية يعتبر هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعية ويترتب عليه الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة دون مناقشة أو أي عمل آخر". وقد رأى البعض أن هذه المواد تمنع مجلس النواب من القيام بأي عمل آخر قبل انتخاب الرئيس. وإذا كان حسم هذه النقطة صعبا لكن الأكيد أن نية المشترع عند سنه للدستور كانت تفترض أن الخلو هو لفترة قصيرة إذ سرعان ما سيتدارك المجلس الأمر ويقوم بانتخاب الرئيس الجديد. لذلك نميل إلى القول بأن المجلس يجب أن يمنع عن التشريع في فترة أولى وإذا ما طالت هذه الفترة وأصبح من غير المعلوم متى ستنتهي يجب أن يتمكن مجلس النواب لا سيما عند الضرورة من ممارسة سلطته التشريعية مع التشديد أن الأمثل هو الاقتصار فقط على الأمور الطارئة والبالغة الأهمية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني