هذه المرة لم يعد وضع لبنان على اللائحة الرمادية احتمالاً يتردد صداه بين وقت وآخر. فقد أصدرت “مجموعة العمل المالي” (Financial Action Task Force) أمس لائحة الدول التي تخضع لمراقبة إضافية (اللائحة الرمادية للدول غير المتعاونة في مجال مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب)، متضمنة اسم لبنان، إضافة إلى 23 دولة أخرى. وهو إعلان تأخر عملياً منذ حزيران 2023، حيث كانت السلطات المالية حينها قد أُبلغت بأن هذا الإجراء حُسم وينتظر اجتماع المجموعة. المعلومات تشير إلى أن التأخير نتج عن الجهد الكبير الذي قامت به السلطات المالية، والتي تمكنت على أثره من تأخير القرار لسنة وأربعة أشهر، بعدما عمدت إلى تنفيذ كل ما كان يُطلب منها، بقدر إمكاناتها وسلطتها، مثل اعتماد الشفافية في التعاملات ومواجهة الاقتصاد النقدي أو التخفيف من حجمه، من خلال مراقبة حركة الأموال داخل النظام (الأموال والأعمال الخاضعة للضريبة والرسوم).
على ما تؤكد مصادر مُطّلعة ومقرّبة من حاكمية المصرف المركزي، فإن هذا النجاح في تأجيل مسألة اللائحة الرمادية كان مرجّحاً أن يستمر لفترة إضافية تتراوح بين ستة أشهر وسنة، إلا أن الحرب الإسرائيلية ساهمت بإعاقة المحاولة. المصادر تجزم أن إسرائيل ضغطت باتجاه إنهاء فترة السماح، في سعيها إلى محاصرة لبنان مالياً. هذا التصنيف استدعى الكثير من الأخبار والشائعات المتعلقة بتأثيره على الناس وعلى تعاملاتهم المالية، خاصة مع الخارج. لكن الإجابة تأتي من مدير مركز الاستشراف للمعلومات عباس ضاهر المتابع للمفاوضات التي يجريها حاكم مصرف لبنان مع الجهات المعنية، والذي يؤكد للفكرة القانونية أن التعامل مع المصارف المراسلة لن يتأثر على الإطلاق، معتبراً أن هذه التعاملات هي في أفضل مستوياتها اليوم. ويوضح أنه “بعدما اقتصرت منذ سنة التعاملات الخارجية على مصرف مراسل واحد، وصل عددها اليوم إلى 6 مصارف، أكدت جميعها لحاكمية مصرف لبنان أن تعاملها مع لبنان لن يتأثر بالتصنيف الجديد، وبالتالي، فإن عملية تحويل الأموال من لبنان وإليه لن تتأثر، بخاصّة أن القطاع المصرفي لم يعد يستقبل أي أموال من دون مراعاة كل المعايير المطلوبة لناحية التأكد من مصادر الأموال.
لكن ما هو دور هذا التصنيف أذاً؟ يؤكد ضاهر أن التصنيف هذا هو بمثابة حث أو إنذار للدولة اللبنانية بأنها إذا لم تقم بإجراءات كافية للحدّ من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، خلال سنتين (هي الفترة المعتمدة لإعادة مراجعة التقييم)، فسيتم نقل لبنان إلى اللائحة السوداء، التي ستعني حينها عزله عن النظام المالي العالمي (تضم اللائحة السوداء حالياً كوريا الشمالية وإيران وميانمار). وبالتالي يتوجّب على الدولة تفعيل عملها، إن كان على صعيد إقرار تشريعات إصلاحية أو على صعيد تنفيذ التشريعات الموجودة في سبيل الخروج من المنطقة الرمادية. ولذلك، يعتبر البعض أن هذا التصنيف هو بمثابة فرصة لبنان لتسريع الإصلاحات المفترض القيام بها. ومن هؤلاء رئيس لجنة الامتثال في جمعية المصارف الدكتور شهدان الجبيلي الذي كان أصر، في حديث سابق للفكرة القانونية، على التعامل مع التقرير بإيجابية، معتبراً أن ما حصل قد حصل ولا ينفع اليوم البحث في الأسباب. فالأهم هو أن يكون لدينا الكثير من الجدية والدعم لنأخذ التقرير كفرصة لإصلاح كل النقاط التي تحتاج إلى إصلاح.
معايير التقييم
تجدر الإشارة هنا إلى أن المجموعة المعروفة باسم FATF بالإنكليزية وباسم GAFI بالفرنسية، كانت أنشئت في العام 1989 من قبل G7 وكانت مهمتها في البدء مكافحة تبييض الأموال قبل أن تتوسع في العام 2001 (بعد الهجوم على مركز التجاري العالمي في نيويورك) لتشمل مكافحة الإرهاب. وبحسب المعلومات فإن التقييم يعتمد 49 معياراً يُحدد على أساسها مدى التزام الدول بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وهي تتعلق بشقين أساسيين:
- تقييم تقنيّ يتناول مدى كفاية النظام القانوني والتنظيمي ومدى مواكبته للمبادئ العالمية.
- تقييم عملي يتناول مدى تطبيق هذه الأنظمة والمبادئ. وهو يأخذ الحيّز الأهم من التقييم، ويتناول مدى التزام القطاعين الخاص والعام بالقوانين والأنظمة المرعية، ولاسيما منها الجهات المعنية بمكافحة تبييض الأموال (يُسمى هؤلاء Gatekeepers)، مثل: مصرف لبنان، هيئة التحقيق الخاصة، هيئة الأسواق المالية، المصارف، الجمارك، الجيش اللبناني، قوى الأمن الداخلي، كتاب العدل، المحامون، تجار المجوهرات، الكازينو، والوسطاء العقاريين… علماً أن هيئة التحقيق الخاصة هي المعنية بالتنسيق مع المجموعة في لبنان.
بطء القضاء في إصدار الأحكام
في الفترة الماضية، وتحديداً منذ تسلم وسيم منصوري حاكمية مصرف لبنان بالإنابة، أنجزت مجموعة من الخطوات المطلوبة والتي تعزز الشفافية وتثبت التزام لبنان بالمعايير العالمية. وبحسب “FATF”، فقد التزم كل من البنك المركزي والمصارف والأجهزة الأمنية والعسكرية، ولاسيما مخابرات الجيش وفرع المعلومات بالمعايير المطلوبة، فيما بقيتْ لهم ملاحظات على بطء القضاء في إصدار الأحكام التي تطال تمويل الإرهاب وتبييض الأموال، وهي على ما تؤكّد المصادر تصل إلى 1000 دعوى. كذلك، فإنّ المطلوب بشكل أساسيّ هو انتظام المؤسسات وإقرار القوانين الإصلاحية، مواجهة التهرب الجمركي وتمويل الإرهاب، تعزيز عمل القضاء لناحية تسريع الأحكام القضائية المتعلقة بتبييض الأموال ومكافحة الإرهاب. وعلى ما تؤكد المعلومات، فإن أبرز الملاحظات الجدية على عمل القضاء، تأتي من الأميركيين الذين يرسلون مذكرات إلى القضاء عن أشخاص ومؤسّسات من دون الأخذ بها أو وضعها في المسار القانوني المطلوبة. وليس من الواضح طبعا إذا كان بطء القضاء عائدا إلى إشكالات في أداء القضاء نفسه أم إلى الموانع الواقعية والقانونية التي قد تعيق قيامه بعمله.
لا نقاش لدى المطّلعين على الملف أنّ النقطة الأسوأ التي ساهمتْ في الوصول إلى هذا التقييم تتعلق بزيادة حجم اقتصاد الكاش، وهو اقتصاد لا يمكن تعقّبه ويشكل أبرز معالم القلق الدولي، بخاصة بعدما وصلت نسبته إلى ما يوازي نصف حجم الاقتصاد وقدّره البنك الدولي بـ9.9 مليار دولار في العام 2022، معتبراً أنه نتاج فشل النظام المصرفي وانهيار العملة وغياب السياسات المناسبة لإدارة الأزمة وعدم الوصول إلى خطة شاملة ومنصفة. وعلى المنوال نفسه، سار صندوق النقد الدولي الذي وصف مراكز القرار في لبنان بـ”اللافاعلة”، محذّراً من الدولرة ومن ارتفاع وتيرة الأنشطة غير المشروعة.
وتجدر الإشارة إلى أن لبنان سبق أن وُضع على اللائحة الرمادية بسبب النقص في التشريعات التي تساهم في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. إلا أنه سرعان ما تمكن من الخروج منها بعدما أقرّ المجلس النيابي عدداً من التشريعات والأنظمة المصرفية التي تصبّ في هذا الاتجاه، وأبرزها قانون مكافحة تبييض الأموال الذي أقر في العام 2001، وعدل في العام 2015 ليشمل مكافحة تمويل الإرهاب.
يذكر أن المجموعة تُقدّم المساعدة التقنية لكن يجب مواكبتها بقرار رسمي يُحدّد مدى الاستعداد لتطوير العمل ومواكبة الركب العالمي. ويوضح جبيلي أن كل الدول تملك نواقص إن كان في تشريعاتها أو في الممارسة، لكن الفارق بين دولة وأخرى هو في حجم هذه النواقص.
وعليه، فإن التقرير هو بمثابة تشخيص لوضع لبنان ماليا، فيما يجب أن يأتي العلاج من ناحية الحكومة اللبنانية. وهذا الأمر ليس صعباً بحسب تجارب دول أخرى كانت على اللائحة الرمادية وأخرجت منها مثل تركيا بعدما حققت “تقدماً ملحوظاً على صعيد مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب”، كما أشارت المجموعة في حزيران 2024. والأمر نفسه، حصل مع الإمارات العربية التي أزيلت عن اللائحة الرمادية في شباط 2024، “بعد عملها على مدى سنتين على تعزيز نظامها القانوني اللازم لمكافحة الجرائم المالية”. وكذلك في الأردن الذي بقي على اللائحة الرمادية من تشرين الأول 2021 وحتى تشرين الأول 2023. أما أحدث دولة خرجت من هذه القائمة فهي السنغال، بحسب ما يظهر التقرير الصادر أمس.
إجراءات مطلوبة من لبنان
في التقرير الصادر أمس، أشارت المجموعة إلى أن لبنان قطع التزاماً سياسياً رفيع المستوى بالعمل مع مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لتعزيز فعالية نظام مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب على الرغم من التحديات الاجتماعية والاقتصادية والوضع الأمني داخل البلاد.
كما جاء في التقرير أنه منذ أيار 2023، أحرز لبنان تقدّما في العديد من الإجراءات الموصى بها من قبل وطبقت تدابير بذلك في القطاع المالي، بما في ذلك من خلال إصدار تعميم للبنوك والمؤسسات المالية لإنشاء إدارة مخصصة لمكافحة الرشوة والجرائم المتعلقة بالفساد وتوجيهات بشأنها الأشخاص المكشوفين سياسيا.
وأشار التقرير إلى أنّ لبنان سيواصل العمل مع مجموعة العمل المالي لتنفيذ خطة العمل المؤلفة من:
- إجراء تقييمات لإرهابيين محددين ومخاطر التمويل وغسل الأموال المحددة في تقرير التقييم المتبادل وضمان وجود سياسات وتدابير للتخفيف من آثار المخاطر.
- تعزيز الآليات لضمان حسن التوقيت والفعالية في تنفيذ طلبات المساعدة القانونية المتبادلة وتسليم المجرمين واسترداد الأصول.
- تعزيز فهم مخاطر الأعمال والمهن غير المالية المحددة وتطبيق عقوبات فعالة ومتناسبة ورادعة على الانتهاكات والالتزام بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
- إصدار عقوبات كافية وتخفيف المخاطر المعمول بها بالنسبة للأشخاص الاعتباريين.
- تعزيز الكفاءة واستخدام السلطات لمنتجات وحدة الاستخبارات المالية.
- زيادة مطردة في التحقيقات والملاحقات القضائية والأحكام القضائية لأنواع غسل الأموال بما يتماشى مع المخاطر.
- تحسين عمليات استرداد الأصول وتحديد وضبط الأموال غير المشروعة وحركة العملات والمعادن الثمينة عبر الحدود.
- متابعة التحقيقات المتعلقة بتمويل الإرهاب وتبادل المعلومات مع الشركاء الأجانب فيما يتعلق بهذه التحقيقات.
- تعزيز تنفيذ الأهداف المالية والعقوبات دون تأخير، لا سيما في الأعمال والمهن غير المالية المحددة وبعض الأنشطة في المؤسسات غير المالية والمصرفية.
- المراقبة القائمة على المخاطر للمنظمات غير الربحية عالية المخاطر، دون تعطيل أو تثبيط الأنشطة المشروعة للمنظمات غير الربحية.