تعمل آلة البروباغندا الإسرائيلية لتصوير عدوانها على لبنان على أنّه صراع بين إسرائيل و حزب الله، ويطل علينا رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو ليقول لنا بالفم الملآن أنّ مشكلته ليست مع الشعب اللبناني بل مع حزب الله. وهي السردية نفسها التي يعتمدها الإسرائيليون مع الفلسطينيين في غزة. وكانت إحدى ركائز عملية نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين التي شهدناها في سردية إسرائيل والإعلام الغربي طوال العام الفائت تنطلق من واجب التمييز “بين الفلسطينيين الأبرياء وحماس الإرهابية”، لتنزلق سريعًا إلى إسقاط هذا الواجب بالنظر إلى واقع غزة بحجج واهية: لأنّ الفلسطينيين انتخبوا حماس عام 2006، لأّن المستهدفين، حتى وإن لم يكونوا مقاتلين في حماس، فهم أهلُهم، أو لأنّ الأطفال سيصبحون مقاتلين عندما سيكبرون. وعليه، أصبح الفلسطيني “البريء” الذي يستحق الحماية أو الرثاء هو فقط “الضحية المحايدة” أي ذلك الذي يثبت تحييده التام عن أي فعل مقاوم.
هذا هو الأسلوب نفسه الذي يُستخدم الآن في لبنان، ليصبح كل عضو أو مؤيد أو قريب لحزب الله “هدفًا مشروعًا” للعدوان الإسرائيلي. وقد شهدنا على هذا الخطاب الذي رافق المجازر التي اقترفتها إسرائيل في لبنان مؤخرًا، سواء من خلال استهداف فرق إسعاف أو فرق إطفائية وتبريره بحجة قرب صلة هذه الهيئات المدنية من حزب الله؛ أو في عملية تفجير آلات الباجر التي قتلت مدنيين كانت هذه الأجهزة بحوزتهم؛ وصولا إلى اغتيال أو محاولة اغتيال شخصيات سياسية وتهديد شخصيات مالية، إعلامية ودينية.
لهذا الخطاب ولهذه السردية هدف سياسي واضح يكمن في فصل أي فعل مقاوم عن حاضنته الشعبية. وهو يتضمّن تحويل للمسؤولية وقلبها، إذ يلوم الضحية لعدم قبولها بالرضوخ والانصياع لأوامر ورغبات المعتدي بدل إدانة هذا الأخير. والأهم، يشكّل هذا الخطاب استباحة للمدنيين ويحولهم إلى أهداف “عسكرية مشروعة” ما يفتح الباب أمام الترهيب والتدمير من دون أي واعز.
وأمام خطورة هذا الخطاب التبريري، أصبح من الضروري التذكير ببديهيات القانون الدولي كون هذا الخطاب لا يتعارض فقط مع قواعد القانون الدولي الإنساني التي تنظّم النزاعات المسلحة، بل يخالف تمامًا روحيته وهدفه.
حماية البشر خلال الحروب لا تشترط حيادهم
تنطلق اتفاقيات جنيف من فكرة حماية الإنسان، حتّى العسكري أو المقاتل. في الأساس، نشأ القانون الدولي الإنساني لحماية المقاتلين والعسكريين، ومن ثم توسّع لحماية “المدنيين” أي الأشخاص الذين لا يشاركون مباشرةً في الأعمال القتالية. فهل من المنطق أن يشترط القانون الدولي على المقاتل أن يكون حياديًا لكي يمنحه الحماية؟ بالفعل، إن القانون الدولي الإنساني هو القانون المطبّق في “حالة النزاع المسلّح” من أجل “حماية الأطراف المتنازعة”، من دون تحييدها عن الصراع نفسه.
وعندما تلزم اتفاقية جنيف الأولى لعام 1864 الأطراف المتنازعة على اتخاذ جميع الإجراءات الممكنة على وجه السرعة للبحث عن المقاتلين الجرحى والمرضى والناجين ولمداواتهم “من دون القيام بأي إجراء تمييزي ضدهم” (المادة 10 من البروتوكول الإضافي الأوّل)، فهي تلقي موجب البحث عن هؤلاء المقاتلين بغض النظر عن الجانب الذي ينتمون إليه، أي حتى إذا كانوا من طرف العدو، وسواء شاركوا مباشرة في العمليات القتالية أم لا. وهنا، لا يعني الموجب الإنساني والقانوني المفروض على أطراف النزاع أن يتم “تحييد” العسكري عن الصراع، ولكنه يفرض موجب المساندة الإنسانية بغض النظر عن العداوة بين الطرفين.
المبدأ نفسه ينطبق على العسكريين الذين استسلموا ورفضوا متابعة المشاركة في الأعمال القتالية. إذ يصبحون في هذه اللحظة تلقائيًا تحت حماية القانون الدولي الإنساني ويتمتعون بالضمانات الأساسية الموجودة في المادة 3 من اتفاقات جنيف، وبشكل خاص في المادة 75 من البروتوكول الإضافي الأول حيث يجب “معاملتهم بإنسانية وحماية حياتهم وصحتهم الجسدية وكرامتهم، وحمايتهم من القتل والتعذيب، والاحتجاز التعسفي”. وهذا يعني أن هذا المقاتل يبقى عدوًا، لكنّه بما أنّه فقد قدرته القتالية، ولم يعد يساهم في الأعمال القتالية، فيتوجب حمايته.
مشاركة المدنيين في الحروب
لا يعترف القانون الدولي الإنساني إلّا بفئتين حصريتين من البشر، المدنيين من جهة والمقاتلين من جهة أخرى[1]. فلا يمكن أن يكون الشخص في الوقت عينه مدنيًا ومقاتلًا. ويطبّق على كلّ من هاتين الفئتين نظام حماية خاص بها.
ويتمتع المدنيون بحماية عامة ضد الأخطار الناجمة عن العمليات العسكرية حيث لا يمكن اعتبارهم هدفًا مشروعًا للعمليات القتالية. وقد نصّ البروتوكول الأوّل في المادة 51 على أنّه “1.يتمتع السكان المدنيون والأشخاص المدنيون بحماية عامة ضد الأخطار الناجمة عن العمليات العسكرية (…). 2. لا ينبغي أن يكون السكان المدنيون بصفتهم هذه ولا الأشخاص المدنيين هدفاً للهجمات. تُحظر أعمال العنف أو التهديد بها التي يكون هدفها الرئيسي نشر الرعب بين السكان المدنيين.” كما يؤمّن حماية إضافية لكل من الطواقم الطبية والإغاثية والأطفال والنساء.
على عكس ما نتصوّره، لا تتوقّف الحياة خلال الحروب. لا بل تجنّد طاقات المجتمع كاملةً ويُعاد ترسيم أدوار أفرادها بناء على أهداف الحرب، بخاصّة إذا كانت تقود الدول هذه الحروب. وحتى بغياب الدولة، حين يكون المجتمع في حالة نزاع مسلّح، يبدّل أولوياته ويرسم كل شخص أو مؤسسة دورًا له فيها من دون أن تكون هذه الأدوار مرسومة بشكل مركزي ما يضعف فعاليتها. وعبر التاريخ، “ساهم السكان المدنيون دائمًا في المجهود الحربي العام الذي تقوم به أطراف النزاع المسلح، سواء من خلال إنتاج وتوفير الأسلحة والمعدات والغذاء والمأوى، أو تقديم الدعم الاقتصادي والإداري والسياسي”[2].
لكنّ القانون الدولي يميّز بشكل واضح بين المساهمة المباشرة في الأعمال القتالية والمساهمة “غير المباشرة” في المجهود الحربي بشكل عام[3]. فبالرغم من مشاركة المدنيين في جهود الحرب، يستبعد القانون الدولي أيّ تشكيك بحماية المدنيين بناءً على اتهامهم بدعم الجماعات المسلحة غير التابعة للدولة أو بناء على مشاركتهم غير المباشرة في الأعمال القتالية .
“المشاركة المباشرة في العمليات القتالية”
ينظّم البروتوكول الإضافي الأوّل حماية المدنيين خلال النزاعات المسلحة الدولية. وقد عرّف في المادة 51 المدني على أنّه كل شخص من غير القوات المسلحة لأحد أطراف النزاع. وفي العام 2005، أعدّت اللجنة الدولية للصليب الأحمر دراسةً صاغت فيها 161 قاعدة من قواعد القانون الدولي الإنساني العرفي (المجلّد الأوّل) وممارسات الدول في تطبيق هذه القواعد (المجلّد الثاني). وقد أوردت في المادة 5، تعريفًا مشابهًا للمدنيين على أنّهم “الأشخاص الذين ليسوا أعضاء في القوات المسلحة (…)”.
تبعها في العام 2010، إصدار الجنة “دليلًا تفسيريًا لمفهوم المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية في القانون الدولي الإنساني” تطرّقت فيه إلى تفسير مفهوم “المشاركة المباشرة في العمليات القتالية”. واعتبرت فيه أنّ القوات المسلّحة المنظّمة غير الدولية، مثل حزب الله، “تتألف فقط من أشخاص تتمثل وظيفتهم المستمرة في المشاركة بشكل مباشر في الأعمال القتالية (وظيفة القتال المستمر)”[4].
فكما هي الحال مع الدول الأطراف في نزاع مسلح، لا تتكون الأطراف غير التابعة للدولة من قوات مقاتلة فحسب، بل تتكون أيضًا من شرائح من السكان المدنيين الذين يقدّمون دعمًا ومساعدةً لازمة لها، مثل الفروع السياسية والإدارية والإنسانية لحركة ما. ومع ذلك، فإن مصطلح “جماعة مسلحة منظمة”، وفقًا للقانون الدولي، يشير حصريًا إلى الجناح المسلح أو الفرع العسكري لطرف من غير الدول، أي إلى قواته المسلحة بالمعنى الوظيفي. ولا تفقد شرائح المجتمع الأخرى صفتها المدنية من جرّاء الدعم غير العسكري الذي تقدّمه للقوات المسلحة[5].
فالأشخاص الذين يرافقون جماعة مسلحة منظمة أو يدعمونها بشكل مستمر، من دون أن تنطوي وظيفتهم على المشاركة المباشرة في الأعمال العسكرية، لا يعتبرون أعضاء في تلك الجماعة بالمعنى المقصود في القانون الدولي الإنساني. بل يظل هؤلاء الأشخاص مدنيين يؤدون وظائف الدعم ولا يجوز اعتبارهم هدفًا مشروعًا للأعمال العدائية.
ويشير الدليل التفسيري صراحة إلى بعض فئات من الأشخاص المشاركين بشكل غير مباشر في الحرب الذين يتمتعون بحماية المدنيين. ومن هؤلاء، القائمين بالتجنيد والمدربين والممولين والمسؤولين عن الدعاية الحربية/السياسية (propagandists) الذين يساهمون في “الجهد الحربي العام”، إلا أنّه لا يتم توصيفهم كأعضاء في جماعة مسلحة منظمة، طالما لم تتضمن وظيفتهم أيضًا أنشطة تشكل مشاركة مباشرة في الأعمال العدائية[6].
أمّا بالنسبة للأشخاص الذين تلّقوا تدريبات عسكرية بهدف مشاركة محتملة لاحقة في الأعمال القتالية، ومن ثمّ عادوا إلى حياتهم المدنية ولم يتم استدعاؤهم للمشاركة في القتال، فيكون وضعهم مثل وضع “جنود الاحتياط”، أي أنّهم يعتبرون مدنيين إلى حين يتم استدعاؤهم إلى الخدمة الفعلية[7].
خلاصة
لقد تم تصميم القانون الإنساني الدولي خصيصًا لتنظيم السلوك أثناء النزاع المسلح، بهدف حماية الأفراد المشاركين في النزاع – سواء كانوا مقاتلين أو مدنيين. وتنطبق الحماية التي يمنحها القانون الإنساني الدولي على جميع الأطراف المشاركة في النزاع، بغض النظر عن موقفها أو “حيادها” تجاه سبب النزاع. أبعد من ذلك، يعترف القانون الإنساني الدولي بأن الأفراد قد يكونون جزءًا من النزاع، ويفرض حمايتهم على وجه التحديد لأنهم جزء من هذا النزاع.
وعليه، تتناقض الفرضية التي يروّج لها الإسرائيليون بأنّ “القانون الإنساني الدولي لا ينطبق إلا على “المحايدين” تجاه القضية” بشكل تام مع هدف القانون الإنساني الدولي بذاتها. فهو يهدف إلى حماية أولئك الذين يشاركون في النزاع، وليس فقط أولئك المحايدين. ومن شأن فرض شرط الحياد أن يلغي غرض القانون الإنساني الدولي ونطاقه، وهو حماية جميع المشاركين في النزاع المسلح، بما في ذلك الأطراف غير المحايدة. وهذا يقوّض أسس القانون الدولي الإنساني، الذي لا يشترط على الأفراد أن يكونوا محايدين للاستفادة من حمايته.
[1] En résumé, tous les cas particuliers que nous venons d’examiner confirment un principe général qui est inclus dans les quatre Conventions de Genève de 1949. Se trouvant aux mains de l’ennemi, un individu doit avoir un statut selon le droit international : il est soit un prisonnier de guerre couvert par la IIIe Convention, soit une personne civile couverte par la IVe Convention, soit encore un membre du personnel sanitaire des forces armées couvert par la Ire Convention. ‘ Il n’y a pas ‘ de statut intermédiaire ; aucune personne se trouvant aux mains de l’ennemi ne peut être en dehors du droit et c’est là, nous semble-t-il, une solution satisfaisante, non seulement pour l’esprit, mais aussi et surtout du point de vue humanitaire. – Traités de DIH – Convention de Genève (IV) sur les personnes civiles, 1949 – Commentaire de 1958 Article | Article 4 – Définition des personnes protégées | Article 4 (icrc.org)
[2] الدليل التفسيري للجنة الدولية للصليب الأحمر، ص. 13
[3] الدليل التفسيري للجنة الدولية للصليب الأحمر، ص. 53
[4] الدليل التفسيري للجنة الدولية للصليب الأحمر، ص. 18
[5] الدليل التفسيري للجنة الدولية للصليب الأحمر، ص. 34-35
[6] الدليل التفسيري للجنة الدولية للصليب الأحمر، ص. 36
[7] الدليل التفسيري للجنة الدولية للصليب الأحمر، ص. 36