“لا رفع للدعم” و”لا مسّ بالاحتياطي” وما أبعد منهما: سرديات ثلاث


2021-07-02    |   

“لا رفع للدعم” و”لا مسّ بالاحتياطي” وما أبعد منهما: سرديات ثلاث

منذ بداية الأزمة المالية الاقتصادية، ظهرت أصوات كثيرة من خارج الحكم تنادي بضرورة التعامل مع احتياطي مصرف لبنان على أنه الزخيرة المتبقية لإعادة إنعاش الاقتصاد، وعليه بضرورة أن يتمّ تبرير أيّ استخدام له ضمن خطة لهذه الغاية. بالمقابل، فإن الأحزاب الممثّلة في الحكومة أو المجلس النيابي بدت متوافقة على خطط دعم المحروقات ومن ثم السلع الغذائية تخفيفاً للأزمة المعيشية، ولم ينشب النزاع بينها إلا بعدما أعلن حاكم مصرف لبنان في كانون الأول 2020 ما كان يعرفه أي مراقب جدّي ومفاده أن إجراءات الدعم باتت على مقربة من التهام ما تبقى من احتياطي الودائع لديه بالعملة الصعبة. إذ ذاك برز اختلاف داخل قوى السلطة بين منادٍ بوجوب ضمان استمرار الدّعم من الاحتياطي بفعل الأزمة المعيشية ومنادٍ بوجوب وقف الدعم بهذه الوسيلة طالما أن الأموال المتبقية هي أموال المودعين وهي ملكية خاصة ليس للدولة أي حق بالتصرّف فيها. فكأنّما أصحاب السردية الثانية يُغلّبون حقوق المودعين على أيّ مصلحة أو ضرورة أخرى في حين أن السردية الأولى تستمدّ من ضرورات تأمين المواد الأساسية حجة للمس بهذه الحقوق وإن سلّمت بوجوب التخفيف من الدعم وترشيده. وتضاف هاتان السرديتان إلى السردية الإصلاحية السابقة لهما.

قبل الخوض في مضمون السرديات تفصيليا، يجدر توضيح ما تعنيه اليوم سياسة الدعم الحكومي وتوضيح الظروف التي مهدت لانقسام سرديتيْ قوى السلطة حول الدعم.

ماذا تعني سياسة الدعم الحكومي اليوم؟

الدعم الحكومي للسلع بشكله الحالي، لم يبدأ من خلال رؤية أو خطة حكوميّة، بل ارتبط بارتفاع سعر صرف الدولار في السوق، وأخذ الدعم شكل استمرار المصرف المركزي بتأمين الدولار بالسعر الرسمي (1515 ليرة). وكان أول ظهور فاقع لمشكلة شحّ العملات الأجنبيّة، في أواسط أيلول 2019، حين تكتّل مستوْردو النفط وموزّعو المشتقات النفطية ومحطات الوقود وأعلنوا الإضراب احتجاجاً على عدم توافر الدولارات. وعلّقت جريدة “الأخبار” آنذاك بأنّ “هذا هو الوجه الجديد للأزمة الاقتصادية التي تشمل كل السلع الأساسية، بما فيها الدواء والقمح”. عرضت وزيرة الطاقة ندى بستاني المسألة على مجلس الوزراء، فتوجّه رئيس الحكومة سعد الحريري إلى الوزراء بالقول: “هناك مشكلة في توافر الدولارات، ونعمل على معالجتها مع حاكم مصرف لبنان”. وبالفعل، في 1 تشرين الأوّل وفي ظلّ استمرار التهديد بالإضراب، أصدر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة القرار رقم 13113 (الذي يعدّل القرار الاساسي رقم 7144 تاريخ 30/10/1998، المتعلق بالاعتمادات والبوالص المستندية)، والذي تضمن إجراءات استثنائية تمكّن المصارف من فتح اعتمادات مستندية مخصصة حصراً لاستيراد المشتقات النفطية أو القمح أو الأدوية. وكان قرار سلامة عدم التدخّل للجم المضاربات يعني العدول عن سياسة تثبيت سعر الصرف على معدّل 1507.5 ليرة للدولار المستمرّ منذ عام 1997، ولكنه كان يعني أيضاً الإبقاء على هذه السياسة في تعاملات “المركزي” مع المصارف التجاريّة. في 7 تشرين الأوّل كتب الصحافي الإقتصادي محمد زبيب مقالاً في “جريدة الأخبار”، قال فيه أن الحاكم أعلن بطريقته سعرين لصرف الليرة في مقابل الدولار، سعر إسمي يُحدِّده “المركزي” في عمليّاته مع البنوك التجارية وسعر السوق الذي يُحدِّده الصرّافون وتجّار العملات.

تفاقمتْ الأزمة، وثار الناس، وأقفلت المصارف أبوابها وامتنعت بعدها تدريجيا عن منح الدولار للمودعين، ما هدد بنفاذ المخزون السلعي للشركات. وبدأت القدرة الشرائيّة للناس بالتراجع. ثمّ تشكّلت حكومة حسّان دياب، تحت شعار “أعطوها فرصة”. وضعت خطّة سمّيت بالخطة الإصلاحية للخروج من الأزمة الاقتصادية والمالية، ولكن دون مسعى لتغيير جذري وفق ما صرّح دياب نفسه في بداية ولايته. وبعد عرقلة المجلس النيابي للخطّة، اتجهت الحكومة في حزيران 2020 إلى إقرار دعم على “سلة غذائيّة“، ودخلنا مرحلة جديدة من هدر الوقت. وبعد انتقادات وُجهت لنعمة بأنّ “السلّة الغذائيّة” مجتزأة وتصب بمصلحة الإحتكارات، ردّ الوزير في تموز على منتقديه من خلال مقابلة تلفزيونيّة على “قناة الجديد” معبّراً عن انزاعجه بأنّ أحداً لم يشكره، قال: “حول ال300 سلعة، هل قال لي أحد شكراً؟؟؟ أنه يه! أصبح بإمكاني شراء ما هو أرخص!!! أم أنه علينا أن نغض النظر عن ال90% الممتلئة من الكوب وننظر إلى ال10% والتي ربما، ربما أخطأنا بشأنها”.

بداية خلاف أصحاب السرديتين الأولى والثانية

في حين أن السردية الثالثة برزت في الخطاب الإصلاحي منذ ما قبل بداية الأزمة، فإن الخلاف بين أصحاب السرديّتين الأولى والثانية تمّ بعدما بات استمرار الدعم يهدد الاحتياطي الإلزامي بالعملة الصعبة، وعلما أن تحديد نسبة الاحتياطي الإلزامي مسألة تدخل ضمن صلاحيات مصرف لبنان الذي عمد إلى تخفيض قيمة الإحتياطي الإلزامي مؤخرا من حوالي 17.5 مليار دولار (بداية الأزمة) إلى حوالي 15.4 مليار دولار تمهيدا لاستمرار الدعم. (تبدّلت الأرقام مراراً، وبرّر البعض أنّ النسبة التي اعتمدها المركزي بقيت ذاتها عند 15% من الودائع ولكن حجم الودائع “الدولاريّة” تقلّص).

ففي مقابلة مع قناة العربية الحدث، وجّه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في أول كانون الأول 2020 سؤالاً “للمسؤولين عن البلد” بخصوص الدعم قال: “ألا يوجد في البلاد غير مصرف لبنان؟” في إشارة منه إلى وجوب أن يتم اقتطاع كلفة الدعم من موازنة الدولة وليس من احتياطي مصرف لبنان. ثمّ في أواسط كانون الأول، نقل مقال في جريدة “الأخبار” عن مشاركين في الاجتماعات المتعلقة بسياسة الدعم أن رئيس حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب لا يزال غير متحمّس لتحمّل مسؤولية رفع الدعم بالنيابة عن الطبقة الحاكمة. بينما أراد الفريق صاحب السرديّة الثانية، أي الفريق الرافض لاستخدام احتياطي مصرف لبنان لدعم السلع، الإسراع في خطوة رفع الدعم إما لإحراج القوى السياسية في الحكومة أو لعدم تحميل الحكومة التي ينتظر أن يؤلفها سعد الحريري الثمن السياسي له. وفي 21 كانون الأوّل 2020، صرّح سلامة في حديث ل”الحرّة” أن ​مصرف لبنان​ يملك سيولة متوفرة في المصارف في الخارج 17 مليار و800 مليون دولار، عدا ​الذِهب​. وأضاف أن هناك إمكانية لحلّ أزمة الدّعم دون الوصول إلى تخفيض نسبة الاحتياطي لكن المطلوب من الحكومة أخذ التدابير اللازمة. وقال أنه لدينا أكثر من 2 مليار دولار لاستخدامها في الدعم دون المسّ بالاحتياطي الالزامي.

في 21 كانون الأوّل 2020 أيضاً، أرسل مدير عام مجلس الوزراء محمود مكيّة إلى مجلس النوّاب نسخة عن تصور أوّلي للحكومة تضمن 4 سيناريوهات مختلفة لترشيد الدعم، على اعتبار أنّ الخطّة تحتاج إلى قانون من مجلس النوّاب. قيل أنّ الورقة استندت إلى تصوّر وضعته وزارة الاقتصاد مع البنك الدولي، حوّلت الدعم المباشر لبعض السلع إلى دعم من خلال بطاقة تمويلية للأسر، وقد يكون تعدد السيناريوهات بسبب تعدد الآراء داخل الحكومة أو ربما خشيةً من أن يردّ المجلس النيابي الإقتراح. في الواقع، نوقشت البطاقة وترشيد الدعم في 1 شباط في لجنة الاقتصاد والتجارة والصناعة والتخطيط. رغم ذلك، صرّح رئيس اللجنة النائب فريد البستان أن رئيس مجلس النواب نبيه بري رفض طروحات الحكومة الأربعة مطالباً بإرسال طرح واحد حتى يتم درسه في البرلمان.

المفكرة القانونية كانت فندت العيوب التقنيّة في ورقة الحكومة، وتحدثت عن إشكاليّة ملف الدعم على ضوء مقابلة مع الاقتصادي ومدير مؤسسة البحوث والاستشارات د. كمال حمدان، وأشارت إلى أن أخطر ما تضمنته هذه الورقة هي المعطيات والأرقام حول وضع الاحتياطات الوطنية بالعملات الأجنبية، والتعاطي مع الأزمة بشكل منفصل عن الواقع مع ما يرافق ذلك من تعريض المجتمع للخطر والتفريط بما تبقى له من زخيرة للنهوض.

وقد تجلّى الخلاف في أبرز صوره في سياق النقاش النيابي في جلسة الهيئة العامة المخصصة لفتح اعتماد لاستيراد الفيول.

السردية الأولى: حان وقت ترشيد الدعم

نجد هذه السردية بشكل خاص في خطاب حكومة تصريف الأعمال، ولكن أيضا في خطاب طيف واسع من أحزاب السلطة تعاملت مع الدعم على أنه شرّ لا بدّ منه وإن أدى إلى المسّ بالاحتياطي الإلزامي. ورغم التوافق على الوجهة، فإن أصحاب هذه السردية لم يجدوا حرجا في تراشق المسؤوليات فيما بينهم بشأن وصول البلاد إلى هذا الخيار الصعب. ففي حين حملت حكومة تصريف الأعمال الحكومات السابقة مسؤولية الانهيار وإفشال خطتها للحدّ منه، حملت الأصوات الأخرى الحكومة مسؤولية فشلها في ترشيد الدعم وإيجاد مصادر تمويل أخرى في فترة ما بعد اندلاع الأزمة.

فمع تزايد شعور الحكومة بأعباء الأزمة، بدأ رئيسها وأعضاؤها يدلون فعل الندامة، في موازاة اعترافهم بأن سياسة الدعم أدّت عمليا إلى تمويل المحتكرين أكثر مما أدت إلى تخفيف أعباء المعيشة عن الناس. فإلى جانب إقرار وزير الإقتصاد راوول نعمة بذلك ضمن تقرير وزارته المرفق بتصورات الدعم، عاد نعمة لينشر على تويتر أكثر من 10 تعليقات كلها تبدأ بعبارة “أنا مذنب لأنني…”، حيث برر قرار دعم المواد الأساسية في أيار 2020 بأنّه لم يكن حلاً مثالياً لكنه “طارئ ولا بديل عنه”. كما عاد ليقول أنه حاول “استباق الأزمة بالعمل على خطّة شاملة لإصلاح الدعم فيما لست الجهة المنوطة قانونياً بأخذ قرار ترشيد الدعم من عدمه”. وعاد مجدداً ليبرر أن “القوانين الموجودة لا تعطي وزارة الإقتصاد القوة الردعية لمكافحة الغش والتفلّت في الأسواق”. وانتهى إلى أن ذنبه الذي لا يغتفر أنه لم يشارك يوماً في الكلام الشعبوي الفارغ.

في الاتجاه نفسه، قال وزير المالية غازي وزني في مقابلة مع وكالة “رويترز” في 2 نيسان، “إن المال المخصص لتمويل الواردات الأساسية سينفد بحلول نهاية أيار، وإن التأخر في إطلاق خطة لخفض الدعم يكبد البلاد 500 مليون دولار شهريا”. وذكّر أنّ المركزي طالب الحكومة البتّ في كيفية الرفع التدريجيّ للدعم لترشيد استخدام احتياطيات النقد الأجنبي المتبقية. وفي مقابلة صحافية مع بلومبرغ الشرق، صرّح وزني أنّ “الحكومة اتخذت القرار بترشيد الدعم عبر خفضه من 6 مليارات إلى نحو 3 مليارات دولار”، موضحاً أن ال 6 مليارات نصفها مخصَّصٌ للمحروقات والكهرباء، والنصف الآخر يذهب لدعم الدواء والقمح والسلة الغذائية، ومشيراً إلى أنّ احتياطات العملة الأجنبية في مصرف لبنان تقدّر بـ16 مليار دولار. ويعني كلام الوزير أنّ هذا الترشيد ليس حلاً للأزمة بل مجرّد تخفيف للنفقات، فيما بقي موضوع البطاقة التمويليّة معلّقاً. وبقيت حلول الأزمة معلّقة.

في ظلّ مأزق الحكومة، توجّه الرئيس حسّان دياب إلى قطر في أواخر نيسان. وفي مقابلة له على قناة الحرة، بدأ يردّ على الإستيضاحات حيال مشروع البطاقة التمويليّة. قال أنّه يجب أن يكون هناك توافقٌ سياسيّ لإقرارها كما أنها تتطلب التعاون بين القطاع المصرفي ومصرف لبنان والوزارات المختصة، ويتطلب الأمر شهرًا ونصف الشهر لتطبيقها. وأكّد دياب تجاوب الدوحة مع طلبه دون أن يبتّ بقيمة المساعدة. وعن استعمال “احتياطي” مصرف لبنان، قال أنّه في حال لم يأتِ تمويل من الخارج، “لا بديل لتمويل البطاقة سوى مصرف لبنان”. أمّا عن رفض حاكم مصرف لبنان المس بالاحتياطي، فذكّر أنّ ذلك سبق وحصل في عام 2002، وانخفض الاحتياطي الإلزامي حينها إلى أقل من مليار دولار، متسائلاً لم “لا يمكن النزول إلى أقلّ من 15 مليار دولار؟” في ظل الأوضاع اليوم. [1]

أصحاب هذه السردية برزوا بشكل خاص وبوضوح أكبر في سياق المناقشات النيابية حول فتح اعتماد بسلفة لاستيراد الفيول لحاجات إنتاج الطاقة الكهربائية. فخلال جلسة 29 آذار التي ضمنت السلفة في جدول أعمالها، سخر النائب جميل السيد من ازدواجية أداء السلطة ساخراً من “قدسيّة” الاحتياطي الإلزامي على اعتبار أنه كان من الأجدى من الحريصين على القطاع المصرفي والاحتياطي الحفاظ على 180 مليار د.أ وليس على 17 مليار د.أ تبقت منها.

كما برزوا في مجال الدواء. ففي 9 أيار، قال وزير الصحة حمد حسن “نرفض اتخاذ قرار برفع الدعم من دون الجلوس إلى طاولة مشتركة للبحث بآلية تدريجية تضمن وتحفظ صحة المواطن”. وفي 26 أيار، أشار النائب عاصم عراجي في حديث الى اذاعة “صوت كل لبنان” الى أن الى أن “لجنة الصحة ورئيس حكومة تصريف الاعمال قد اتفقا مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة على ضرورة عدم رفع الدعم عن هذه الأدوية، بالإضافة الى حليب الأطفال تحت أي ظرف”. لكن في اليوم التالي، قال مصرف لبنان في بيان “إنه لا يمكنه مواصلة استيراد المستلزمات الطبية المدعومة دون المساس بالاحتياطيات الإلزامية للمصارف”، وهو ما رفضه المركزي مطالباً السلطات المعنية بإيجاد الحل المناسب.

وفي 6 أيار، أطلقت كتلة “الوفاء للمقاومة” خلال اجتماعها الدوري بياناً، رفضت فيه بشكل مطلق خيار رفع الدعم الكامل وأكدت على خيار ترشيد الدعم.

السردية الثانية: حقوق المودعين أوّلاً

أصحاب هذه السردية صنّفوا عموما ما تبقّى من احتياطي في المصرف المركزي كحقّ “مقدّس” للمودعين، ونادوا بصرف الأموال المتبقيّة في الخزينة لإعطاء المودعين حقوقهم. لكن دون إعطاء أي جواب عمّا يمكن أن يحصل في حال توقّف الدعم من إنقطاع للكهرباء وللدواء وتضخّم الأسعار. وقد تبنت هذه السردية عدد من القوى الممثلة في المجلس النيابي وبخاصة القوات اللبنانية واستخدمها غالبها كأداة للضغط على ضرورة تعيين حكومة جديدة. وقد انضمّت إلى هذه السردية نقابة المحامين في بيروت.

كما سبق بيانه، برزت هذه السردية بشكل خاص في سياق جلسة 29 آذار النيابية المخصّصة لاستيراد الفيول. أبرز المتدخّلين فيها النائب إيلي الفرزلي أكّد على قدسيّة الاحتياطي وأنه في أيّ اجتماعات مستقبليّة لن يقرّ النواب أي سلفة. وقد فيما عاد نائب رئيس المجلس النيابي إيلي الفرزلي ليؤكد في تصريح لاحق في 4 أيار أنّ “الطريق السليم لتمويل رفع الدعم ولدعم الكهرباء ولتمويل كل خطوة تحتاج إلى تمويل هي تأليف حكومة بشكل سريع، وذهاب هذه الحكومة إلى المؤسسات الدولية لتأتي وتحتضن الواقع في لبنان كما حضتنه في مصر واليونان”. وقد عاد الفرزلي، في تصريح في المجلس النيابي في 4 أيار، ليعبّر عن استيائه من الرئيس دياب: “يأتي ليقول أن الظرف استثنائي وهناك واجب في أن نمد يدنا إلى ال 15 مليارا بعدما كانت 17، وهي من الاحتياطي الإلزامي بالدولار، الذي فرضه حاكم مصرف لبنان على المودعين أيضا، لكي يمد يده على المودعين.” واعتبر الفرزلي الأمر مؤامرة جديدة تستهدف المودعين. ثم ناشد الفرزلي المودعين أـن يصوبوا حركتهم تصويبا سليما ويعرفوا أن الخطر المقبل على أموالهم أيضا من هناك “إلى جانب بعض المصارف التي أمعنت في تصرفها التافه والسخيف”.

بدوره، اعتبر النائب نقولا نحاس خلال جلسة 29 آذار أن الدعم هو من أموال الناس، وهو يخالف الدستور مطالبا عند إقرار أي سلفة جديدة لاستيراد الفيول أن يكون هناك حكومة جديدة. النائب جورج عدوان بدوره رفض السلفة، على اعتبار أنه لم تأخذ مؤسسة كهرباء لبنان يوما قرشا وأعادته. وذكر أن وزيرة الطاقة السابقة ندى البستاني كانت قد تعهّدت بسلسلة إجراءات دون أن تنفّذ منها شيئا. كما حذّر من المسّ بالاحتياطي الإلزامي على اعتبار أنّه مسّ بأموال المودعين. وقد عاد عدوان وأكّد في تغريدة في 4 أيار، أنّ الاحتياطي الإلزامي ليس “مالاً سائبًا”، بل هو للمودعين رافضاً التّصرف بهذا المال. وهدّد عدوان “إن فعلتُم، ستكون هناك ملاحقات قانونية بحقّ حاكم مصرف لبنان وبحقّ رئيس الحكومة ووزير المال”. لكن عدوان حمّل المسؤوليّة لرئيس الحكومة المستقيلة ولكل وزير فيها ترك الدعم على ما كان عليه وكل تاجر استفاد من أموال المودعين وأضاف أنّه أرسل كتاباً إلى وزراء المال والاقتصاد والصناعة وحاكم مصرف لبنان، يطلب إعطاءه أسماء التجار وكل من استفاد من الدعم، قال “لليوم لم نتلقّ جواباً”.

النائب هادي أبو الحسن عبّر كذلك خلال الجلسة النيابية عن رفض اللقاء الديموقراطي إعطاء السلفة معلّقا إياها على تشكيل الحكومة لأنها تقدّم من أموال المودعين معتبراً أن المعادلة هي اليوم بين الإصلاح والعتمة وليس بين السلفة أو العتمة.

في الاتجاه نفسه، ذهب بيان نقابة المحامين في 1 نيسان، والذي جاء أكثر إتقاناً في الصياغة من مواقف النوّاب. وقد ورد فيه أنّ “أموال المودعين الموجودة في المصارف وبالتالي لدى مصرف لبنان هي ملكهم، والملكيّة الخاصّة مصونة في المادة 15 من الدستور. فليس لمصرف لبنان أن يستعملها على هواه”، وإذ تحدّث عن المادة 90 من قانون النقد والتسليف التي تمنع على مصرف لبنان إقراض القطاع العام، معتبراً ما حصل خلال الأعوام الماضية من إقراض مُفرط للقطاع العام مِن قبل المركزي مخالفة جسيمة للقانون، فهو لم يكترثْ بدوره بتداعيات الأزمة على الأمور المعيشيّة، وكأنّ حرمان الناس من الخدمات الأساسيّة أمراً لا يتعارض مع الدستور والقوانين بالنسبة لهذا الإجتهاد. المال المتبقي هو “أمانة” ومال خاص، و”يتوجّب على مصرف لبنان إعادتها فوراً إلى المصارف”، يضيف البيان “يُمنع على مصرف لبنان استعمال الاحتياطي الإلزامي سوى للغاية التي من أجلها أنشئ”.

بأي حال، لم تنتهِ قصّة سلفة الكهرباء هنا. ففي 4 أيار، قرّر المجلس الدستوري وقف مفعول قانون منح مؤسسة كهرباء لبنان سلفة خزينة[2] بعد مراجعة تقدم بها نواب كتلة الجمهورية القويّة. اعتبر النائب سيزار أبي خليل، في حديث مع “النهار” أنّ موقف القوات شعوبي إذ أن “اللبناني يدفع لكهرباء لبنان سنتاً واحداً مقابل الكيلواط ساعة، في حين كلفته 15 سنتاً، لذلك فإن الفارق تسدده الدولة. فإذا انقطعت الكهرباء جرّاء عدم تأمين الاعتمادات، ستؤمّن المولدات ساعات التغذية عبر شراء المازوت المدعوم”، ما يؤدي إلى ضغط أكثر على احتياطي مصرف لبنان.

بدوره، تحدّث رئيس حزب “الكتائب” النائب سامي الجميل، في لقاء بمناسبة “عيد العمل” في 8 أيار[3]، وحيّد حاكم “المركزي” عن مسؤوليّة الأزمة وحمّلها للحكومات التي هدرت الأموال على مدى السنوات في مشاريع لا فائدة منها، “لأن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة سيسدد الفاتورة في النهاية”. وأضاف “سنة بعد سنة استعملوا ودائع اللبنانيين لتغطية فساد الدولة ولم يخبرونا بذلك”. وكرر كلام الحاكم بأنّ “الاحتياط الذي كان يمول عجز الدولة وفسادها وصل إلى مكان لا يمكن معه متابعة سياسة دعم البنزين والمواد الأولية”، كما أبدى توجّسه من أن تكون البطاقة التمويلية هي”بطاقة الفساد وتركيع الشعب وإذلاله”، على اعتبار أنّ كل فريق سيعطي جماعته وتبدأ المحسوبيات والفساد.

يذكر ختاما أن هذه السردية استمدت مزيدا من الحجج من تزايد تهريب المواد المدعومة. أبرز المواقف في هذا الخصوص، تغريدة لرئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع جاء فيها أنّ “الدعم يذهب في معظمه لخدمة النظام السوري”. وعليه، دعا جعجع المودعين إلى التقدم بطلبات حجز احتياطي على الاحتياطي الإلزامي العائد للمصارف في مصرف لبنان. وكرر مضون حديثه في تغريدة أخرى جاء فيها بأن “تأمين المستلزمات الطبية هو من أولى مسؤوليات السلطة وليس من مسؤولية المواطن الذي قام بكل موجباته من خلال دفعه الضرائب والتزامه بالقوانين”.

السردية الثالثة: الذخيرة هي لحلّ الأزمة أيضاً

بعض القوى التغييرية كانت بدأت النقاش منذ سنوات، تميّز بعضهم عن سواهم من القوى المعارضة في نظرته للاقتصاد السياسيّ كمدخل أساسيّ لمواجهة أزمة النظام، وفي خياراتهم الراديكاليّة التي ترتبط بتوصيف طبيعة الأزمة على أنها أزمة بنيويّة لا مشكلة عابرة.

انتقد الصحافي الاقتصادي محمد زبيب خلال مقابلة له مع “ال بي سي أي” في 24 أيار كلام وزير المالية غازي وزني في البرنامج نفسه. قال “نلاحظ في كل حديث وزير الماليّة كما لو أنّ الحياة تنتهي بعد عام، فنتحدّث عن الدعم كما لو أنّنا وفرنا على المودعين 3 مليارات. يدور الكلام عن عام واحد! كما لو أنّه بعد انقضاء هذا العام ستحصل معجزة أو عجيبة ما”. واستطرد زبيب “اليوم عاد الناتج المحلي الإجمالي للبلد إلى المستوى الذي كان عليه عام 2002، أي أنّنا عدْنا 20 عاماً إلى الوراء، كذلك نصيب الفرد من الناتج المحلي عاد إلى مستواه عام 1994”. بالتالي رأى أن “التصوّر بأنّ هناك حلولا لمشاكل وتعود الأمور إلى مجاريها، هو ضرب من الجنون”. وأكّد زبيب الحاجة إلى تغييرات بنيويّة، قال، “المسألة تتعلّق بالاقتصاد السياسي، ولتوضيح ما يعنيه الاقتصاد السياسي في اللحظة الراهنة، إنه الإجابة على سؤال محدد (ما هي الدولة وأي دور يجب أن تلعبه إزاء المجتمع، لحمايته وبالتالي لتمكينه من الخروج من الواقع الذي يعيشه؟)”.

في هذا الصدد أيضا، يميّز كتاب “اقتصاد ودولة للبنان” -الذي نشرته حركة “مواطنون ومواطنات في دولة”- بين اقتصاد المخزون واقتصاد الدفق، ويضع بالتالي تصوراً للانتقال من الأوّل إلى الثاني. يقول “عملياً يصطدم هذا الانتقال بالمصالح المعنية، كما يراها الدائنون، المودعون الذين يرفضون الاعتراف بفقدان جزء كبير من مدّخراتهم وجميع سبل الوصول إلى العملات، وكذلك دائنو الدولة، أصحاب اليوروبوند، المتعهدون، المستشفيات وسواهم ممن يطالبون بمختلف الوسائل القضائية أو السياسية، بتحصيل ديونهم”. كما يصطدم بمعوقات نظريّة ومؤسسية. وبحسب الكتاب، فإنّ “مجرد تصوّر أن رأس المال ليس مخزوناً مالياً بل هو مجموعة من علاقات الإنتاج والتراكم، ليس سهلاً تقبّله”. ويضيف أنّ الوضع الحالي في لبنان يفرض النظر إلى العملية الاقتصادية بوصفها مجموعة من علاقات الإنتاج والتراكم.

كما شرح نحّاس في مقابلة له مع جريدة الأخبار في آذار، أن الموضوعين المطروحين في النقاش أي أموال المودعين وسياسة الدعم لا علاقة لكل منهما بالآخر في المنطق السليم. فالحديث عن السلع التي تستحق أن تتحمّل ضريبة أو أن تستفيد من دعم شيء. والحديث عن الموجودات بالعملات الأجنبية لأي غرض يجب استخدامها، شيء آخر. أي هنا قرار وهناك قرار مختلف. وشرح كذلك أن الدعم والضريبة هما الأمر نفسه ويرتبطان بالسلطة السياسية لا بمصرف لبنان. قال “من باب الإنكار والتهويل والتخوين، تمّ إبقاء كذبة أن الدولار بـ1500 ليرة خدمة لغايات أخرى تتعلق بتغطية خسائر المصارف. وهذه الكذبة حافظت على أسعار عدد من السلع”. وتابع أنه “لم يسأل أحد إذا كانت هذه السلع تستأهل الدعم، وهل هناك غيرها يستأهل أكثر… هذا دعم للاقرار”.

وفي مقابلة مع جريدة “الأخبار“، أيلول الماضي، أكّد مدير مؤسسة البحوث والاستشارات كمال حمدان أنّه قبل تشرين الأول وبعده كان هناك اعوجاج هائل في سياسات الدعم، ولخّص ما يجري اليوم: “حتى الآن، تبدو الإجراءات التي اتّخذتها الحكومة كأنها خبط عشواء. كلّ إجراء له مفاعيل متناقضة مع إجراء آخر”. وأضاف أن الالتزام بدعم السلع الثلاث الأساسية (محروقات، طحين، دواء ومستلزمات طبية) والذي يكلّف عدّة مليارات دولار لن يبقى على حاله. وعبّر عن انطباع لديه بأن “هناك فكرة تراود القيّمين على السياسات النقدية تهدف إلى اللجوء إلى تقليص الدعم وإعادة توجيهه”، متسائلاً عن الجدوى من ذلك في ظل غياب معطيات إحصائية دقيقة عن عدد المقيمين في لبنان ومن هم الفقراء ومن الرازحين تحت خطّ الفقر. بالتالي عبّر عن خشيته من ارتهان سياسات الدعم أكثر فأكثر “لاستمرار سيطرة المنظومة الحاكمة من أجل إعادة تجديد قدرتها على شراء الولاءات”.

  1. دياب يكشف فاتورة البطاقة التمويلية.. إليكم قيمة الأموال التي ستُقدم للعائلات. موقع لبنان 24، 3 أيار 2021

    https://bit.ly/2RMeecN

  2. المجلس الدستوري أوقف سلفة الكهرباء… نحو العتمة؟. جريدة النهار، 4 أيار 2021

    https://bit.ly/2SCcvHb

  3. سامي الجميل: الطبقة الحاكمة لا تؤتمن على البلد. لبنان 24، 8 أيار 2021

    https://bit.ly/3cixHcj

انشر المقال

متوفر من خلال:

اقتصاد وصناعة وزراعة ، سياسات عامة ، البرلمان ، سلطات إدارية ، أحزاب سياسية ، قطاع خاص ، مصارف ، إقتراح قانون ، حقوق المستهلك ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني