بعزيمة أصحاب الحق والمُصاب الأليم، يتحرّك أهالي ضحايا تفجير مرفأ بيروت. يتنقّلون باعتصاماتهم ووقفاتهم الاحتجاجية من صرحٍ سياسيٍ إلى صرحٍ قانونيٍ، مروراً بنقابة الصحافة التي من المفترض أن تشكّل المنبر الإعلامي الجامع. يعلمون أنّهم يحاربون “عصابة”، كما وصفوا أكثر من مرّة الممسكين بالسّلطة، والأهم أنّهم يدركون أنّ “الشارع بانتظار إشارتهم”، كما توعّدوا المسؤولين. أصحاب الحق هؤلاء قصدوا عين التينة يوم الجمعة الماضي، حيث نفّذوا وقفةٍ احتجاجيةٍ أمام مقر الرئاسة الثانية، مكان إقامة رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي من دون أن يتعرّض لهم “حرس المجلس” بالضرب أو الاعتداء كما جرت العادة مع منتفضي 17 تشرين.
برّي سيمرّر المطالب “خط عسكري”
استبق برّي وقفة لجنة الأهالي التي أُعلن عنها مسبقاً ودعا أعضاءها إلى لقائه قبل موعد الاعتصام بنصف ساعةٍ حيث استمع إلى مطالبهم الأساسية: مساواة ضحايا التفجير بشهداء الجيش اللبناني، وعقد جلسةٍ استثنائيةٍ لمجلس النوّاب من أجل إقرار المشروع المحوّل من رئاسة الحكومة. وصارح برّي وفد اللجنة بعدم قدرته على عقد جلسةٍ إستثنائيةٍ في ظلّ الظروف الراهنة التي تمرّ بها البلاد، واعداً بتمرير المشروع في جلسة إعطاء الثقة للحكومة في حال تشكّلها. ونقل إبراهيم حطيط، شقيق الضحية ثروت حطيط، أنّ رئيس مجلس النواب قال لهم بالحرف أنّه إذا لم تتشكل الحكومة خلال عشرة أيام: “رح مرّقلكم إياه خط عسكري”. وبما أنّ أهالي الضحايا لا يعرفون معنى تمرير مطلبهم “خط عسكري”، ليس أمامهم سوى انتظار انقضاء مهلة العشرة أيّام ليُبنى على الشيء مقتضاه.
وكان مكتب الرئيس برّي أجرى اتّصالات عدة، قبل يومٍ من موعد الاعتصام، بأعضاءٍ من لجنة الأهالي، للطلب منهم الاكتفاء بكتابة مطالبهم ورفعها له للاطّلاع عليها، وإلغاء الاعتصام المقرّر أو نقله إلى مكانٍ آخر، فرفض أهالي الضحايا الأمر. وتعليقاً على ما حصل، يؤكد حطيط أنّ مصداقية اللجنة مع الأهالي ومع الناس “خط أحمر”، وأنّه رغم التمنّيات، رفضت اللجنة إلغاء أو تبديل مكان الاعتصام، “نحن من الأوّل قلنا بدنا نصعّد، وهيك عم تكون تحرّكاتنا، وما منتراجع عن موقفنا كرمال حدا”. وعليه، عاود مكتب الرئيس بري إجراء اتصالاته باللجنة في صباح يوم الاعتصام، وتم تحديد موعد لأعضائها للقائه عند الساعة الثانية والنصف ظهراً، أي قبل نصف ساعةٍ من وقفتهم الاحتجاجية.
لجنة الأهالي للّبنانيين “كونوا معنا يداً واحدةً”
بعد انتهاء لقاء الرئيس برّي خرج ممثلو لجنة الأهالي حيث تلا حطيط بياناً ناشد فيه اللبنانيين جميعاً مساندة مطالبهم عبر المشاركة الكثيفة في تحرّكاتهم، داعياً إيّاهم إلى خلع رداء الطائفية، “نحن قبل جريمة المرفأ كنّا مثلكم من الأغلبية الصامتة الخائفة المتردّدة”. وخاطب المواطنين مباشرة: “أيها اللبنانيون: إلى متى الصمت والخنوع، نحن أمام جريمة العصر.. انفجار هزّ العالم بأسره أفلا يهزّكم يا شعب لبنان العظيم”. وتمنّى عليهم تلبية النداء ومناصرة قضية أهالي الضحايا: “بعد سقوط كل سياسيي البلد بالإهمال والفساد والسكوت عن الحق”، داعيا ً إيّاهم إلى التوحّد حولهم ” نراهن عليكم بأن تكونوا معنا وسيوفكم علينا أن تخلعوا عنكم الرداء المقيت وتكونوا معنا يداً واحدة ونكون حقيقة لا قولاً كلّنا للوطن”.
وختم حطيط البيان بتوجية دعوةٍ إلى الجميع للانضمام لصفحة اللجنة على فيسبوك وعنوانها “الصفحة الرّسمية لعائلات شهداء مرفأ بيروت”، أو التواصل معهم عبر “واتساب” على الرقم 81879615.
أسر الضحايا تتكاتف وتتكافل
يوماً بعد يوم يكبر غضب الأهالي وسخطهم ككرة ثلجٍ. ومع كلّ تحرّكٍ جديدٍ تنضم وجوه جديدة لم يسبق لها أن شاركت في التحرّكات السابقة، إما لبُعد أماكن إقامتهم أو لعدم معرفتهم بوجود لجنةٍ تتابع قضايا ضحايا المرفأ، كما حال ميشال أندون، شقيقة الضحية جو أندون، التي حضرت من البترون للمشاركة في الاعتصام.
تقول ميشال إنّها كانت تبحث عن طريقةٍ للوصول إلى لجنة عائلات الشهداء بعدما شاهدت تحرّكاتهم عبر الإعلام. وكان شقيقها جو يعمل في شركةٍ في إهراءات القمح، وبينما كان يقوم بتصوير الحريق وإرسال الفيديو للعائلة وقع الإنفجار. تقول ميشال إنّهم فتشوا في كلّ المستشفيات لكنه لم يجدوا له أثراً. بعدها عمدت فرق البحث إلى تحديد موقعه عبر الأقمار الاصطناعية بالاستعانة بالفيديوهات التي أرسلها قبل الانفجار حيث وجدوا جثته وجثث زملاءٍ له. تختصر ميشال مطلبها الوحيد بـ“معرفة الحقيقة الكاملة، ما بدنا مصاري ولا بدنا تعويض بدنا ينحطّوا بالحبوسة”.
لا إطار رسميّاً لتبليغ العائلات بالمستجدّات
يقول بعض الأهالي إنّ حالاً من “الفوضى وعدم المسؤولية” تسود علاقة الهيئة العليا للإغاثة بعائلات الضحايا. ففي حين تناقل الأهالي منذ نحو شهرين، وعبر واتسآب، خبر ضرورة تقديم الأوراق اللازمة لدى الهيئة العليا للإغاثة للحصول على مساعدة الـ30 مليون ليرة، لم تكن عائلة جو أندون على علمٍ بالمسألة إلاّ حين تواصلت مع لجنة الأهالي قبل أسبوع، حيث لم تقم أي جهةٍ بتبليغهم رسمياً بوجود مساعدة لهم، وبالتالي سيتأخّرون في الحصول على المبلغ لمساعدة أبناء جو وزوجته.
لكلّ عائلة قصّة فريدة مع الانفجار
ومن كترمايا الإقليم في الشوف جاءت ابتسام علاء الدين، والدة الضحية محمد علاء الدين الذي قضى في الانفجار خلال وجوده في مقر عمله في مار مخايل. هي المرة الثانية التي تتمكّن فيها العائلة من المشاركة في اعتصامٍ لعائلات الضحايا بحكم بُعد المسافة. في 4 آب كان محمد يداوم في عمله وكان يشاهد الحريق عندما دوّى الانفجار فهرع إلى الداخل حيث دوى الانفجار الثاني فسقطت قطعة حديد معلّقة في سقف المدخل على رأسه وقتلته. حاول ذوو محمد الاتصال به مراراً، وعندما قطعوا الأمل، نزلوا من كترمايا إلى مار مخايل. هناك، تقول ابتسام، من دون أن تتمكن من حبس دموعها “فرجوني بقع الدم بالأرض قالولي هول دمّات إبنك”. بحثت العائلة في المستشفيات من دون أن تتمكّن من العثور عليه. بعدها حاولت شقيقته البحث عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فوجدت صورةً لسائق دراجةٍ ناريةٍ يقوم بنقل شقيقها. تعرّفت إلى محمد من خلال بنيته الجسدية وثيابه. شرعت في التفتيش عن صاحب الصورة عبر مواقع التواصل حتى تمكّنت من العثور على حسابه والاتّصال به فأفادها الرجل أنّه نقل محمد إلى مستشفى مار يوسف، وهناك علموا أنّه فارق الحياة. بعد أسابيعٍ عدّة زار الرجل الذي حاول إنقاذ محمّد قبره والتقى أهله، ومنذ ذلك الوقت ولدت بينهم صداقة متينة. تطالب ابتسام اليوم بكشف الحقائق كاملة “بدنا الكلّ يتحاسب من الكبير للصغير”.