لم يكن ينقص أهالي عكّار الذين يتحمّلون مشقّة العيش في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة في منطقة تعاني من أسوأ مستويات البؤس والحرمان سوى كارثةٍ كتفجير التليل لتزيد الطين بلّة على عاتق أهالي الجرحى الذين يقفون وحدهم في وجه هذه المصيبة. فلم يهبّ أحد لدعمهم ولا لمساعدتهم، ولم يتبرّع لهم أحد للمبيت في الفنادق أو في شقق، فهؤلاء يعودون جرحاهم كل يوم في مستشفيات بيروت نظراً إلى غياب المستشفيات الجيّدة في عكّار، متحمّلين مشقّة الطريق ذهاباً وإياباً من قراهم إلى العاصمة والعكس في ظل أزمة محروقات حادّة.
من جهةٍ ثانيةٍ بدأت قرى وبلدات عكار تشييع عدد من أبنائها الذين قضوا في تفجير خزان البنزين في الخامس عشر من الجاري، على أن تشيّع الباقين لاحقاً بعدما باشرت القوى الأمنية مساء أمس الأربعاء بإصدار نتائج فحوصات الحمض النووي للجثث مجهولة الهوية. وبحسب محمد خير رئيس الهيئة العليا للإغاثة فإنّ حوالي 20 جثة من جثث الضحايا الـ29 لم يكن بالإمكان التعرّف على أصحابها، وقد أجريت لها أخيراً فحوص الحمض النووي. من جهة ٍ ثانية أفادت وزارة الصحة أنّ عدد الجرحى الذين ما زالوا في المستشفيات هو 33 جريحاً، في حين تمّ إرسال خمسة مصابين إلى تركيا لغاية ليل أمس لتلقّي العلاج. ويناشد أهالي المصابين إرسال أبنائهم إلى الخارج تخوّفاً من نقص الأدوية والمستلزمات الطبية.
جالت “المفكرة القانونية” أمس على الجرحى وذويهم في مستشفى الجعيتاوي حيث التقينا في إحدى الغرف بشقيق أحد المصابين الذي يرغب في الإفصاح عن اسمه، “أخي ما عم يتحرّك نهائياً، الأطباء قالولنا صعبة يعيش”، مضيفاً بأنّ والدته تبكي الدم في المنزل، وهو يبحث عن طريقة مناسبة لإبلاغها الخبر. قبل قليل بلغنا خبر وفاته وتبيّن أنّه عريف في الجيش اللبناني يدعى علاء سالم كبيدات يبلغ من العمر 34 سنة من بلدة عين تنتا، ليرفع عدد الضحايا إلى 30…
في قسم الحريق وحدها العيون تتكلّم
“يا ريت بيسفّرولي إبني لبرّا، هون عم يقولوا إنّه بعد شوي يمكن ينقطع الدواء”، احترقت قلوب الأمّهات على أبنائهنّ الذين يتلوّون من الوجع أمامهنّ. ففي مستشفى الجعيتاوي وتحديداً في القسم المخصّص لجرحى الحريق أجساد بكاملها مغطّاة بالشاش الأبيض، وحدها العيون الظاهرة تدلّ الأهالي على أولادهم، منهم من يستطيع الكلام ومنهم من هو خاضع للتخدير لخطورة وضعه. أمام مدخل القسم يفترش الأهالي الأرض والأدراج بانتظار موعد الزيارات التي تستمرّ من 11:30 صباحاً حتى 12:30 ظهراً، ساعة واحدة لتطئمنّ العائلات على جرحاهم قبل أن يبدأ رحلة العودة إلى قراهم في عكّار. “كل يوم بطلع وبنزل عالضيعة، عم نتعذّب عذاب الله ما في بنزين، منشتري من السوق السوداء، عم نحط لي فوقنا واللي تحتنا” تقول والدة الجريح أحمد محمد، التي تمرّر يدها على المساحة المتبقية من وجه أحمد التي لم يطلها الحريق. وأحمد طالب مدرسة لم يتجاوز الثامنة عشر من عمره، بات يمضي وقته في البحث عن مادة البنزين والخبز والأدوية لأهله بدلاً من انشغاله بالتخطيط لمستقبله. وها هو اليوم يقبع في المستشفى بانتظار أن يعطيه أحدهم كوباً من الماء لعدم قدرته على الحركة.
يقول أحمد إنّه كان يحلم بتأسيس عائلة وافتتاح معرضٍ للسيارات، اليوم بات حلمه أن يتمكّن من النهوض من جديد. تروي الوالدة أنّه بعد وقوع الانفجار وردها اتّصال بأنّ أحمد مصاب ففقدت وعيها، وعندما استفاقت راحت تصرخ وتدور من منزل إلى منزل بحثاً عن سيارة ممتلئة بالبنزين كي تتمكّن من الوصول إلى المستشفى، وبعد عناء وصلت إلى مستشفى عكار الحكومي حيث المشهد كارثي على حدّ قولها “كلّها شباب وعسكر بالجيش، لك شو هالدولة لي بتترك جنودها”، تحمد ربّها أنّ بقيّة أولادها كانوا في الخدمة عند وقوع الحادث وإلّا فإنّهم كانوا لا محالة سيلقون مصير أخيهم، “ما في بنزين بالمنطقة، قالولنا الجيش عم يوزع طبيعي كل الشباب بدها تروح”.
أما الجريح عمر خضر الذي لا يظهر من وجهه سوى عينيه الخضراوين، لا يستطيع تحريك شفاهه بسهولة، فيكتفي بنقل نظره بين أخوته الذين جاؤوا لزيارته. يقول شقيقه أحمد إنّها المرّة الأولى التي يتمكّن أحد من أفراد عائلة من القدوم لزيارة عمر نظراً لصعوبة الوصول، وقد باتت بعض العائلات تنسّق مواعيدها للنزول والمغادرة سويّاً لتوفير النفقات.
أمهات تنام على الكراسي ومدّة العلاج تستغرق شهوراً
من “قسم الحريق” في مستشفى الجعيتاوي حيث الحالات الحرجة إلى قسم آخر أقلّ خطورة، هنا يمكن للأهالي المبيت بجوار أبنائهم. في إحدى الغرف يستلقي أحمد بدر محمد، تنهمر دموعه على وجهه بمجرّد سؤاله عن أحواله، لا يلتفت، يشيح بوجهه، يحاول قدر المستطاع التماسك. بجواره يجلس والده القادم لتوّه من عكّار منهكاً، “أنا دافع بس لأوصل على المستشفى 750 ألف ليرة وهلّق ما بعرف كيف بدّي إرجع إطلع”. يعاني الاهالي من صعوبات لتأمين مادة البنزين لسياراتهم ما يضطرّهم إلى شراء غالونات من السوق السوداء بحيث يتراوح سعر الغالون سعة 10 ليترات حوالي 200 ألف ليرة لبنانية، هذا عدا عن المصاريف اليومية لوالدته التي تصرّ على البقاء بجواره ليلاً نهاراً، وقد اضطرّت أضاً إلى إجراء فحص الكورونا على نفقتها الخاصّة كشرط للبقاء في المستشفى، وهي لليوم الرابع على التوالي تنام على كرسي في غرفته.
يروي بدر أنّه ليلة التفجير سرت أخبار بأنّ الجيش صادر محطة بنزين ويقوم بتوزيع محتواها على الناس “قالولنا إنّه الجيش هو لي عم يوزّع ع محطة بنزين، أنا لو عارف هيك ما بعتت إبني”، يقول بدر إنّه زوّد ولده بمبلغ 200 ألف ليرة لتعبئة السيارة الفارغة من البنزين.
في ممرّ المستشفى تجلس والدة الجريح ص.ش على الأرض هي التي وصلت للتو من عكار ووجدت الممرضات في غرفة إبنها في العناية الفائقة ينظّفون جراحه. تروي أنّ ولدها تلقّى اتّصالاً من أصدقائه يحثّونه على المجيء لتعبئة غالونات بنزين، فذهب علّه يتمكّن من بيع هذا الغالون مرةً ثانية بسعر مرتفع يتمكّن من خلاله من شراء الحليب لطفلته البالغة من العمر سبعة أشهر. فسعر غالون البنزين بسعر علبة الحليب. عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل تلقت الوالدة الستينية اتّصالاً بأنّ ولدها أصيب في الحريق. لم تجد من يقلّها في تلك الساعة المتأخّرة، فسارت ووالده مشياً على الأقدام مسافةً طويلة علّهما يتمكّنان من إيجاد سيارة تقلّهما للبحث عن ولدهما الضائع بين المستشفيات. عجوزان يتّكئان على بعضهما البعض يسيران في الطريق، إلى حين لحق بهما أحد الجيران وأقلّهما وراحوا يتنقّلون بين مستشفى وأخرى بحثاً عن ابنهما. والآن تتكبّد هذه الوالدة مشقّة الطريق من عكار إلى بيروت يومياً للاطمئنان على ولدها حيث ممنوع على أحد المبيت في غرفته كونه في العناية. تقول إنّها ليلة أول من أمس وصلت عكار عند الساعة التاسعة مساءً لتستيقظ في اليوم التالي عند الساعة الخامسة فجراً وتعود أدراجها إلى بيروت.
“إذا ما شفته ما بقدر نام”.. وهي على هذه الحال منذ وقوع الحادثة، وتقول إنّ مشوارها يكلّف يومياً حوالي 300 ألف ليرة لبنانية أجرة فانات وسرفيسات بالإضافة إلى المأكل والمشرب.
في باحة المستشفى يجلس ممدوح خضر 65 عاماً والد الجريح عديّ خضر (21 عاماً)، يدخّن سيجارته ببطء. على الرّغم من المأساة لا تفارق الابتسامة الخجولة محيّاه، يتحدّث عن ولده وعن الشجاعة لتي أبداها في مواجة ألمه ومصابه. يروي كيف طار ابنه في الهواء جرّاء قوّة التفجير، وعندما سقط أرضاً راح يطفئ حريقه بالبحص والرمال الموجودة في المكان، ومن ثمّ هب واقفاً على رجلٍ واحدة وراح يركض بعيداً عن الحريق حتى وصل إلى السيارات التي أقلّته إلى المستشفى. ممدوح الذي أخفى عن زوجته المريضة خطورة مصاب ابنها، حيث حرص على أن يتحدّث معها عديّ ويطمئنها عنه بأن جروحه طفيفة.
يتوق معظم الأهالي إلى إرسال أولادهم لتلقّي العلاج في الخارج، مخافة انقطاع الدواء والمستلزمات الطبيّة اللازمة لعلاج الحروق، كذلك يناشدون الدول المتبرّعة بعلاج الجرحى، السماح لأحد ذوي الجرحى بمرافقتهم لإعانتهم على حالهم هناك، بخاصة وأنّهم جميعاً صغار السنّ.
في الخلاصة، لم يمدّ أحد يد العون لأهالي جرحى مجزرة عكّار الذين يتكبّدون مشقّة الطريق في ظلّ أوضاع معيشية يرثى لها يضاف إليها انقطاع مادة البنزين وغلاء أسعارها في السوق السوداء، بالإضافة إلى عدم توافر الأماكن لهم للنوم في بيروت. وحده الهلال الأحمر الكويتي وزّع 200 دولار أميركي على المصابين، أما مؤسّسات الدولة برمّتها فلم يبادر أحد فيها إلى اتخاذ إجراءات تخفّف عن كاهلهم وكاهل أهاليهم، ويعتبر اللواء محمد خير أنّ الهيئة عادةً ما تهتم بشؤون الضحايا وهو يحتاج إلى قرارٍ من الحكومة لصرف أي مساعدةٍ.