دخل بدل النقل، كما كل شيء، في “البورصة”. كلّما ارتفع سعر صرف الليرة االلبنانيّة يصدر مجلس الوزراء مرسوما جديدا لرفعه، بدلاً من وضع خطّة فعّالة لوقف النزف الحاصل في قيمة العملة الوطنية ومعها الرواتب. في أقل من عامين، صدرت ثلاثة مراسيم لرفع بدل النقل لكل من القطاعين الخاص والعام، ليصبح بعد المرسوم الأخير (الرقم 11225) 450 ألف ليرة بدلاً من 95 ألف، ولكنه لا يتطابق مع مطالب الموظفين الّذين يشددون على ربط بدل النقل بالمسافة بين مكان السكن والعمل، خاصّة وأنّ عدد كبير من بينهم يعملون خارج قضاء سكنهم، ما دفع رابطة موظفي الإدارات العامّة إلى إعلان الاستمرار بالإضراب. وأقرّ المرسوم عينه تعويض نقل المفتشين العامين والمفتشين المعاونين في التفتيش المركزي تعويضا مقطوعا بقيمة 3 مليون ليرة، فيما تناسى مجلس الوزراء مفتشين آخرين لا يزالون يتقاضون تعويضات نقل لا تمثل الكلفة الفعليّة التي يدفعونها كمفتشي الصيدلة في وزارة الصحّة، والّذين يتقاضون 118 ألف ليرة عن كل شهر.
ويستند موظفو الإدارات العامّة في تحديد مطالبهم على الارتفاع المستمر لصفيحة البنزين الذي فاق المليوني ليرة (مليون و900 ألف ليرة اليوم). وهو سعر يقفز صعوداً وهبوطاً ربطاً بسعر صرف الدولار في السوق السوداء. من جهتها، تخضع تعرفة النقل العمومية وفق قرار السائقين، بعدما تخلّت وزارة الأشغال العامّة عن دورها في تحديدها، لتراوح تعرفة الباص بين 50 إلى 150 ألف ليرة ثم ترتفع أكثر ربطاً بالمسافة التي يقطعها طالب الخدمة. وتختلف تعرفة سيارة الأجرة من سائق إلى آخر، وإن كان المتعارف عليه 150 ألف ليرة إلّا أنّها مشروطة بنطاق المنطقة الواحدة وتتغير صعوداً كلّما كبرت المسافة. ويدفع الموظفون الّذين يستخدمون سياراتهم الخاصّة كلفةً أعلى تتضمن كلفة الوقود ومصاريف الصيانة وقطع الغيار وأتعاب الميكانيكي، وكله بالعملة الصعبة.
كلفة النقل التعجيزية على الموظفين أدّت إلى إفراغ معظم الإدارات العامّة من موظفيها في أوقات الدوام، أو إلى تقطير الدوام في الأيام التي لا يعلن فيها هؤلاء الإضراب، واثّرت على مناقبية العمل عند البعض، وفق ما يؤكد موظفون كثر “حيث صار بعض الموظفين يعتمدون على الإكراميات لتعديل مداخيلهم بعض الشيء، بعدما صاروا يعيشون في فقر مدقع”، وهو ما عزز الرشى “البعض بيعتبر هالموضوع رشى ونحن منعرف أنه مخالف للقانون ولكن هم من وضعونا في هذا المأزق”، وفق ما يؤكد أحد الموظفين في الإدارة العامة.
كيف تذهبون إلى العمل؟
كيف تذهبون إلى العمل؟ سؤال وجهته “المفكرة” إلى مجموعة من الموظفين في القطاع العام كما في المؤسسات العامّة التي يخضع موظفوها لقانون العمل، بينما يتبع موظفو الإدارات العامّة نظام الموظفين. وعليه، ظهرت تباينات عميقة واختلافات غير منطقيّة بين قطاع وآخر وبين مؤسسة وأخرى. ففيما يتقاضى موظفو الضمان 6 صفائح بنزين في الشهر، بات موظفو الإدارات العامّة يتقاضون 450 ألف ليرة في اليوم. واللافت أنّ قيمة صفائح البنزين التي يحصل عليها موظفو الضمان تتخطى أحياناً قيمة رواتبهم أو تساويها بعدما تقلّصت قيمتها. في المقابل، يقبض المياومون في المؤسسات الاستثمارية رواتبهم وبدلات النقل مثل العاملين في القطاع الخاص، بينما يتقاضى موظفو الملاك رواتبهم مثل الإدارات العامّة.
تكلفة الكيلومتر 15 ألف ليرة
في آذار 2023 نشرت الدولية للمعلومات دراسة عن كلفة النقل بالسيارة الخاصّة (كان سعر صفيحة البنزين مليونين و44 ألف ليرة،أي 18 دولار حينها)، وتبين أنّ تكلفة الكيلومتر الواحد بلغت 15,800 ليرة/كيلومتر واحد، مع السيّارة التي تستهلك صفيحة وقود في 170 كيلومترا، وتسير مسافة 11 ألف كيلومتر سنويّاً. وهي كلفة أخذت بعين الاعتبار أكلاف صيانة السيارة. وتوصّلت الدّراسة لأكلاف الانتقال بين المناطق، على سبيل المثال، الانتقال في اليوم الواحد، بين طرابلس- بيروت، 2,535 مليوناً، بيروت بيروت- جونية 790 ألفاً، بيروت- صيدا: 1,421 مليوناً. واللافت أنّ مرسوم بدل النقل الجديد، أشار إلى أنّ أجور النقل تسدد على أساس تكلفة الكيلومتر بالنسبة للسيارة العموميّة (10،500) والسيارة الخاصّة (15،000 ليرة) إنما لم يلحظ اختلاف أماكن سكن الموظفين. إذ توضح رئيسة رابطة موظفي الإدارات العامّة نوال نصر، أنّ هذه الزيادة أنتجت تمييزاً بين الموظفين الّذين يسكنون في نطاق العمل والّذين يسكنون خارج النطاق أو في قضاء غير قضاء مكان العمل، وبالتالي يتكبدون تكلفة عالية للوصول إلى مكاتبهم.
ورصدت الدراسة ارتفاع كلفة صفيحة البنزين منذ آب 2021 إلى آذار 2023، أي خلال 20 شهراً ما يوازي 1،494%، وكان سعر الصفيحة في آب 2021 لا يتعدى 128 ألف ليرة فيما وصل في آذار 2023 إلى 2،044،000 ألف ليرة، تزامناً مع ارتفاع سعر الدولار بنسبة 490%، ما أدّى إلى ارتفاع تكلفة الكيلومتر الواحد بنسبة 1,105%.
بدل النقل أعلى من الراتب
تظهر اللاعدالة في تجزئة الراتب وفصل بدل النقل عنه لدى موظفي الضمان الاجتماعي، الّذين درجت إدارتهم على منحهم 6 صفائح بنزين كبدل نقل منذ زمن، فأتت الأزمة الاقتصادية لتقلّص من كتلة الراتب حتّى أصبح أقل من بدل النقل عند بعضهم. يؤكد نقيب موظفي الضمان الاجتماعي حسن حوماني أنّ مرسوم بدل النقل لا ينطبق على موظفي الضمان الذين يخضعون لقاعدة “الحدّ الأعلى”، أي بما أنّ الـ 450 ألف ليرة لا تزال أقل من 6 صفائح بنزين فهم مستمرون على تعويض النقل الذي يتقاضونه. لكن ما يظهر أنّه نعمة عليهم، هو نقمة في الواقع، إذ يعطي حوماني مثال عن الرواتب التي باتت تُقبض على سعر صيرفة ليقول: “الموظف فئة خامسة مثلاً يتقاضى 950 ألف ليرة، ويصل راتبه إلى 5 مليون ليرة مع المساعدة ويُصرف إلى الدولار على سعر صيرفة 60 ألف ليرة، فيصبح 83 دولار”. أي أنّ بدل النقل البالغ 6 صفائح (18،25 دولار ثمن الصفيحة) تبلغ نحو 110 دولار، وهي أعلى من الراتب”. وبعد إضرابات عدّة نفذها موظفو الضمان العام الفائت، تمّ تقليص الدوام إلى ثلاثة أيّام في الأسبوع: الثلاثاء، الأربعاء والخميس.
يشرح حوماني أنّ جزءاً من موظفي الضمان يسكنون في أقضية خارج نطاق العمل، مثلاً هناك من يأتي من صيدا أو أبعد منها إلى بيروت، فيما ينتقل معظم القاطنين في بيروت سيراً على الأقدام لتوفير المال وتعويض انخفاض قيمة الراتب. ويتحدث عن اضطرار بعض الموظفين إلى بيع سياراتهم أو أي ممتلكات أخرى لتأمين احتياجات عائلاتهم.
“روحة إلى العمل بلا رجعة”
قبل التوجه إلى اعتماد 450 ألف ليرة كبدل نقل، جرى النقاش في منح كل موظف 5 ليترات بنزين عن كل يوم عمل، الأمر الذي انتقدته رئيسة رابطة موظفي الإدارات العامّة نوّال نصر:”يعني روحة إلى العمل لكن من دون رجعة”. وعن الـ 450 ألف يوميا، تُشير إلى أنّها مفيدة للّذين يسكنون في منطقة العمل بينما يدفع الّذين يأتون من مناطق بعيدة من جيوبهم. وتُضيف، “نُطالب بتحديد كلفة الانتقال لكل موظف ربطاً بمنطقة السكن والحاجة الفعلية للانتقال إلى مكان العمل”.
يوميًا، من الجية إلى طرابلس
يسكن إبراهيم نحّال في الجية ويتوجه بشكل يومي إلى عمله في وزارة الاتصالات في طرابلس، ويسلك مسافة نحو 40 كيلومتر فيما بدل النقل الذي يتقاضاه هو 95 ألف ليرة. يقول ل “المفكرة”: “أحتاج لنحو نصف صفيحة بنزين للوصول إلى مكان العمل، أي نحو 800 ألف ليرة يوميًا، مع العلم أنّ سيارتي مصروفها منخفض”. يتحسّر نحّال على الفترة السابقة التي كان يعيش فيها “حياة كريمة” إذ يقول “راتبي ثلاثة ملايين و800 ألف ليرة، كانوا في السابق يساوون نحو 2500 دولار، وأعيش عيشة محترمة، اليوم بات الراتب لا يتعدّى 190 دولاراً”.
يقول نحّال أنّ الإضراب ليس خياراً، إنما “نحن مرغمون عليه لتعذر الوصول إلى العمل وتعذر العمل أيضاً مقابل حفنة من الليرات”. ويُضيف، “إذا أردنا الذهاب إلى العمل ندفع من جيوبنا للوصول من راتب لا يكفينا لنطعم أطفالنا وعائلاتنا”. ويشعر بالغضب من التمييز الذي يحصل بين القطاعات، مشيراً إلى تعدد سعر صيرفة، مثل السعر الخاص برواتب القضاة على سعر 8000 ليرة، معتبراً أنّ ذلك يعني أنّه لو أرادت الدولة تحسين رواتبنا فهي قادرة. ويعتبر أنّ أي مقاربة لموضوع بدل النقل أو الراتب دون ربطه بسعر الدولار غير مجدية.
موظفو معامل كهرباء الليطاني عدّلوا مناواباتهم لتوفير المال
نجد المعاناة نفسها عند موظفي المصلحة الوطنية لنهر الليطاني، إذ يؤكد رئيس نقابة موظفي المصلحة أحمد حرقوص أنّ الزيادة “مناسبة فقط لمن يسكن في منطقة قريبة من العمل”.
ويلفت إلى أنّ “موظفي معامل المصلحة الوطنية لنهر الليطاني اضطروا إلى تعديل مناوباتهم في معامل الكهرباء لتوفير بدل النقل، ففيما كانت كل مناوبة عبارة عن 24 ساعة، باتوا اليوم يناوبون لـ 48 ساعة ثمانيّة مرّات في الشهر، ليعتبر أنّ هؤلاء هم الأكثر هشاشة بين موظفي المصلحة. ويُعطي مثالاً عن موظفي معمل جون، الّذين يعيشون خارج قضاء الشوف، ويتعيّن عليهم الانتقال لمسافات طويلة. وبالنسبة للموظفين الإداريين في بيروت يشير حوماني إلى أنّ “جزءا كبيرا من بينهم يسكن في شحيم، كترمايا، الباروك، انطلياس وطرابلس ويتعيّن عليهم القدوم يوميًا إلى بيروت”. ويلفت إلى أنّ “إدارة المصلحة قلصت أيّام العمل لأربعة أيّام في الأسبوع كما سمحت لهم العمل من المنزل في بعض الحالات”.
ويُضيف متطرقاً إلى أوضاع موظفي الفاتورة والمياومين وعمّال غب الطلب، “هؤلاء رواتبهم زهيدة جداً ولا يتمتعون بالحوافز الوظيفية، قبضوا رواتبهم على سعر صيرفة لفترة وجيزة وتوقف الأمر لاحقاً كونهم ليسوا موظفين مثبتين، وعليه يصل مدخولهم الشهري بحده الأقصى إلى 4 ملايين ليرة”. ويشدد حرقوص أن هذا المبلغ “لا يكفي شيء، فكيف يأكل ويشرب ويؤمن احتياجات عائلته حتى البسيطة منها؟”. ويشرح أنّ المياومين يتقاضون رواتبهم على أساس ما يصدر عن وزارة العمل، واليوم بات المياوم يتقاضى 250 ألف ليرة بدل نقل، فيما موظف المصلحة في الملاك يتقاضى 450 ألف”.
الاستقرار الوظيفي تضمنه “الإكراميّات”
وللمساعدين القضائيين قصتهم أيضاً. هم الّذين يذهبون للإضراب أيضاً في كل فترة متأملين وجود آذاناً صاغية لمطالبهم، لكن لا حياة لمن تنادي. إذ يقول موظف في قصر العدل في بيروت إنّ “المساعدين القضائيين يتقاضون بدل نقل 200 ألف ليرة لبنانيّة، وهي لا تكفي الوصول إلى العمل من أقرب منطقة إليه”. ويشرح الموظف “ندفع من رواتبنا التي تآكلت أصلاً”.
ويلفت إلى أنّ “الصندوق التعاوني للمساعدين القضائيين لا يُمكن الاتكال عليه لتحسين أمورنا، إذ أن إيراداته متدنية جداً، حيث يوجد نحو 1200 موظف يستفيدون منه”. وعليه يُطالب المساعدون القضائيون تحسين إيرادات الصندوق الذي يعتبرونه الأمل الوحيد لتحسين ظروفهم.
ولا يُخفي الموظف لجوء موظفي قصور العدل إلى تقاضي “الإكراميات” على الرغم من أنّها تُعد جرماً جزائياً، لكنّه يقول: “هم يقولون عنها رشى، لكنّها تشكل مدخولا ماديا للموظفين غير قادرين على رفضه في هذا الظرف”.
“مهام التفتيش على حسابنا”
وفي الوقت الذي حدد المرسوم 11225 مبلغ 3 مليون ليرة لمفتشي التفتيش المركزي، يظهر التمييز بينهم وبين المفتشين في وزارة الصحّة الّذين يتقاضون 118 ألف ليرة فقط عن كل شهر. وتعود قضية هؤلاء لسنوات طويلة، إذ كان على الحكومة تصحيح “تعويضات الانتقال” التي يتقاضونها مقابل مهام التفتيش، فمن المفترض أن يحصل كل مفتش على راتب يُساوي الحد الأدنى للأجور شهريًا كتعويض انتقال وكانوا ولا يزالون يتقاضون راتب 118 ألف ليرة وهو الحد الأدنى للأجور العائد لعام 1992. واستمر الوضع على هذا الحال إلى يومنا هذا ولم يحصل أي تصحيح طيلة السنوات السابقة. تقول مفتشة لـ “المفكرة” “نحن ملزمون بتنفيذ مهمات تفتيش يومية وعلى الإدارة أن تغطي كلفة انتقالنا من مكان العمل إلى الصيدليات التي نفتشها”. وتضيف “نتقاضى قيمة مقطوعة كل ستّة أشهر تُساوي 708،000 ليرة، ولا تزال هي نفسها حتّى اليوم، ولذا ندفع من جيوبنا بدل الانتقال لتنفيذ المهام”. وخلال الإضراب، تراجعت مهمّات التفتيش وحُصرت بالمهمّات التي يطلبها الوزير إلى مطار بيروت أو المرفأ أو مهمّات الطوارئ.
وفي تمّوز 2022، راسل وزير الصحّة العامّة د. فراس أبيض مجلس الخدمة المدنية طالباً “بيان الرأي عن طريقة احتساب تعويض النقل والانتقال للصيادلة والأطباء المتعاقدين، لكنّ حتّى الساعة لم يأت أي جواب”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.