شهدت بعض المنصّات الإعلامية وصفحات التواصل الاجتماعي خلال الفترة الأخيرة في لبنان لا سيّما في الحرب وبعدها، انتشارًا لخطاب الكراهية أدّى أحيانًا إلى تحميل فئة معيّنة مسؤولية الحرب الإسرائيلية على لبنان أو إلى تخوين الآراء الرافضة للحرب واتهامها بالعمالة. في المقابل، تصاعدت الأصوات المطالبة بضبط الخطاب الإعلامي منعًا لتعزيز الانقسام وزيادة الاستقطاب في البلاد.
فأين الحدّ الفاصل بين حرّية التعبير وخطاب الكراهية؟ وهل يحظر القانون خطاب الكراهية أو يحصر ذلك ضمن حدود ضيّقة؟ ما هي المؤشّرات على خطاب الكراهية ومخاطره أثناء الحروب والنزاعات المسلّحة؟ وهل يستطيع الإعلام التصدّي له درءًا لتلك المخاطر؟
نحاول في هذا البحث الإجابة عن هذه الأسئلة، مع التأكيد على عدم سعينا بأيّ شكل من الأشكال إلى القول إنّ الإعلام يتحمّل المسؤولية عن إثارة الفتن أو تأجيج النعرات أثناء الحروب والنزاعات المسلّحة، أو أنّه ينبغي تحميله تبعات ذلك أو تقييد عمل الصحافيين تحت هذا الشعار، لأنّ أيّ توجّه مماثل يشكّل تهديدًا خطيرًا لحريّة الإعلام، ويؤدّي إلى نتائج عكسيّة على سلامة المدنيّين وإمكانية ردع انتهاكات حقوق الإنسان. مع ذلك، من البديهي الإقرار بأنّ الإعلام يتمتع بقدرةٍ واسعة على عقلنة الخطاب العامّ وتعزيز المُساءلة وتمتين التضامن المجتمعي.
أوّلًا- خطاب الكراهية بين التعبير والتحريض
تعرّف الأمم المتحدة خطاب الكراهيّة بـ “أيّ نوع من التواصل، الشفهي أو الكتابي أو السلوكي، الذي يهاجم أو يستخدم لغة ازدراء أو تمييز، بالإشارة إلى شخص أو مجموعة على أساس الدين أو الانتماء الإثني أو الجنسيّة أو العرق أو اللون أو النسب أو النوع الاجتماعي أو أحد العوامل الأخرى المحدّدة للهوية”. وقد حدّدت 18 حزيران يومًا دوليًا للإضاءة على مخاطره وأهمّية التصدي له. وعلى الرغم من أنّ القانون الدولي لا يستخدم عبارة “خطاب الكراهية” صراحةً في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، إلّا أنّ المادة 20 منه توفّر أساسًا قانونيًا لذلك، بحيث تحظر أيّ دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكّل تحريضًا على التمييز أو العداوة أو العنف.[1] وعليه، لا يحظر القانون الدولي خطاب الكراهية بحدّ ذاته، بل يشترط أن يكون من شأنه التحريض على التمييز أو العداوة أو العنف. فقد يكون التصريح مخالفًا لرأي الأغلبية أو مسيئًا أو حتى يبدو كأنه ينطوي على كراهية، لكنه لا يُعتبر بالضرورة تحريضًا مباشرًا على الكراهية أو العنف.
خطة عمل الرباط
طوّرت خطة عمل الأمم المتحدة لحظر التحريض على التمييز والعداء والعنف (خطة الرباط) ستّة معايير لتحديد متى يجب حظر خطاب الكراهية أو تجريمه قانونيًا. وتهدف هذه المعايير إلى الموازنة بين حرية التعبير ومنع التحريض على العنف أو التمييز، حيث لا يُحظر أي خطاب لمجرّد كونه مسيئًا، بل يجب أن تثبت خطورته، حيث يتم تقييم كل خطاب وفقًا للظروف المحيطة به، وليس بناءً على معيار واحد منفصل.
- السياق، أي تحليل الخطاب ضمن إطاره الاجتماعي والسياسي. فإذا صدر الخطاب في سياق سياسي أو اجتماعي متوتر، مثل الحروب والنزاعات المسلحة أو الانتخابات، فإنّ التدخّل قد يكون مبرّرًا[2].
- المتكلّم، أي منصبه ومدى نفوذه وتأثيره. فإذا كان شخصيّة عامة أو دينية أو مسؤولًا سياسيًّا، أو إعلاميًّا محترفًا، قد يكون تأثير خطابه أكبر وأكثر خطورة من خطاب شخص عادي[3].
- نيّة التحريض، أي توفّر القصد الواضح للتحريض على التمييز أو العنف[4]. قد يكون تكرار العبارات التي تحرّض على الكراهية من الدلائل على نيّة التحريض ويعكس نيّة متعمّدة للتحريض، وليس مجرّد عرض عابر للآراء ويسهم في تحفيز الأفعال التي تهدّد السلم الاجتماعي أو تثير العنف أو تجرّد الضحايا من إنسانيّتهم.
- مضمون الخطاب وشكله، بما في ذلك العبارات المستخدمة والأسلوب والصور. فالخطاب الذي يتضمّن ألفاظًا صريحة تحرّض على العنف أو الإبادة أو الإقصاء أو التمييز ضدّ جماعات معيّنة، بخاصّة عندما يُعرض بأسلوب مهين، يكون أشدّ تأثيرًا وخطورة من خطاب نقديّ يعكس رأيًا سلبيًا من دون أن يصل إلى مستوى التحريض المباشر[5]. لكن يبقى الحذر في التوصيف القانوني ضروريًا، لا سيّما في التمييز بين الأسلوب المهين الذي قد يشكّل تحريضًا على الكراهية، والأسلوب الساخر أو القاسي الذي يعتمده بعض الصحافيين كجزء من أسلوبهم، ويُعدّ أحد أشكال حرّية التعبير المحميّة قانونًا.
- مدى انتشار الخطاب، مع الأخذ في عين الاعتبار الوسيلة المستخدمة للنشر. فالنشر على التلفزيون أو وسائل التواصل الاجتماعي أو في التجمّعات العامّة يشكل خطرًا أكبر مقارنةً بالنشر ضمن نطاق محدود أو في حلقات ضيّقة. إلّا أنّ حصر الخطاب ضمن مجموعة صغيرة نسبيًا من الأشخاص ذوي الرأي المشترك لا يمنع في بعض الحالات من اعتباره تحريضيًا [6].
- احتمال وقوع الضرر، أي وجود احتمال معقول بأن يؤدّي الخطاب إلى التحريض على العنف أو التمييز. لا يُشترط أن يكون التحريض قد تحقّق بالفعل، لكن يجب أن يكون هناك علاقة سببية مباشرة وواضحة بين الخطاب والفعل المحتمل.
خطاب الكراهية في القانون اللبناني
لا يتضمّن القانون اللبناني حتى تاريخه أي نصّ صريح بتجريم خطاب الكراهية، باستثناء ما جاء في المادة 25 من المرسوم الاشتراعي رقم 104/77 التي تجرّم النشر الآيل إلى إثارة النعرات الطائفية والعنصرية (وهي مادة تستعيد التجريم الوارد في المادة 317 من قانون العقوبات). وفي هذه الحالة، يجوز للنيابة العامّة مصادرة أعداد المطبوعة وإحالتها إلى المحكمة التي قد تقضي بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات و/أو بالغرامة من /50/ إلى /100/ مليون ليرة لبنانية. ومن شأن تكرار الجرم قبل مرور سبع سنوات على انقضاء العقوبة أو مرور الزمن عليها، مضاعفة الحدّ الأقصى للعقوبة، مع تعطيل المطبوعة لمدة ستة أشهر على الأقل. إلّا أنّ تلك المادة تتضمّن ثلاث إشكاليّات تجعلها غامضة وقابلة لتفسيرات متعدّدة، ممّا يسمح بتطبيقها بشكل انتقائي أو تعسّفي:
- تستخدم مصطلحات غير دقيقة مثل “إثارة النعرات الطائفية والعنصرية” من دون توضيح المقصود بهذه النعرات أو المعايير التي يتمّ على أساسها تحديد منسوب التحريض.
- عدم التمييز بين التعبير الذي قد يكون مجرّد رأي غير مراعٍ للحساسيات في قضايا مهمّة للرأي العام، وبين التحريض الفعلي على العنف أو التمييز.
- لا تغطّي كلّ أنواع خطاب الكراهية، رغم أنّ خطاب الكراهية يشمل أشكالًا أخرى من التحريض على الكراهية أو العنف ضدّ الأفراد أو الجماعات مثل التحريض على خلفية النوع الاجتماعي أو الهوية الجنسية أو الانتماء السياسي أو الجنسية أو اللغة أو الحالة البدنية.
خطاب الكراهية في الاجتهادات القضائية اللبنانية
لدى مراجعة القرارات القليلة الصادرة عن محاكم المطبوعات في لبنان في هذا الشأن، لا نجد في معظمها أيّ عرض للمعايير المعمول بها دوليًا، مثل السياق الذي عرضت فيه المادة الإعلامية المشكو منها أو كيفية الموازنة بين موجب التوسّع في حدود النقد السياسي وأهمّية التصدّي للتحريض أو دراسة احتمال وقوع الفتنة من جرّاء المادة المشكو منها، أو مناقشة ما إذا كانت العبارات المشكو منها تتعلق بمواقف سياسية قد تكون مسيئة لكنها تندرج ضمن الخطاب السياسي المباح، أو إذا كانت تتضمّن تحريضًا حقيقيًا على إثارة النعرات الدينية.
مثال على ذلك القرار رقم 9/2019 الصادر عن محكمة المطبوعات في جبل لبنان في دعوى أغوب بقرادونيان ضدّ كبريال المرّ، الذي جاء فيه أنّ “المداخلة موضوع الدعوى الحاضرة والتي قام بها المدعى عليه في برنامج كلام الناس الذي يعرض على شاشة المؤسسة اللبنانية للإرسال، تضمّنتْ عبارات تنطوي على إثارة النعرات المذهبية بحق الطائفة الأرمنية متناولة إياها بشكل مسيء… وحيث إنّ الأقوال المشار إليها أعلاه، بما تتضمّنه من إثارة للنعرات المذهبية والعنصرية استتبع بيانات استنكار شديدة اللهجة”.
المعيار الوحيد الذي ورد بشكل ضمني في بعض القرارات هو أنّ المنشور لم يؤدِّ إلى إثارة النعرات. بمعنى آخر، نظرت تلك القرارات في مدى احتمال وقوع الضرر لتحديد توافر عناصر الجرم.
مثال أيضًا على ذلك القرار رقم 14/2019 الصادر عن محكمة التمييز في دعوى ميشال عون (المستأنف عليه، المدعي) ضدّ إيلي محفوض (المستأنف، المدعى عليه): “النيابة العامّة كما المدّعي المستأنف بوجهه لم يتقدّما بأي دليل من شأنه إثبات أنّ المستأنف في كتابه المشكو منه لا سيما في المقاطع المحددة في الشكوى وفي القرار الظني قد أثار بتاريخ نشره وتوزيعه النعرات الطائفية والعنصرية أو قد عكّر السلام العام، وحيث إنّه لم يثبت للمحكمة وفقًا لمعطيات الملفّ أنّ الكتاب المشكو منه قد أثار النعرات الطائفية والعنصرية أو قد عكّر السلام العام”.
هذا الأمر قد يشكّل تغييرًا في كيفية التعامل مع الادّعاءات بشأن المادة 25 المذكورة، حسب مفهوم المحكمة للمؤشّرات على إثارة النعرات الطائفية. فهل تعتبر، على سبيل المثال، استهجان بعض القيادات الدينية دليلًا على وقوع الضرر، أم تسعى لتقييم الأقوال المشكو منها على أساس معيار موضوعي قوامه الشخص العادي ذو الحساسية الدينية الطبيعية، أي الشخص الذي يختزل التصوّرات الاجتماعية العامّة في هذا المجال، بمنأى عن أيّ تضخيم أو تعصّب أو تزمّت[7]؟
ثانيًا – أهمّية التصدّي لخطاب الكراهية، لاسيّما أثناء الحروب والنزاعات المسلّحة
لا شكّ أنّ خطاب الكراهية مضرّ بالمجتمع في كلّ الظروف، إلّا أنّه يصبح أكثر خطورة أثناء الحروب والنزاعات المسلّحة والفترة التي تعقبها، نظرًا إلى العوامل الآتية:
- يُساهم خطاب الكراهية في تأجيج التوتّر والعنف، إلى حدّ اعتباره دافعًا لارتكاب جرائم جسيمة وانتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك الإبادة الجماعية[8].
- يزيد من معاناة المدنيين والفئات الأكثر عرضة للخطر ويؤدّي إلى استهداف جماعات معيّنة بالتحريض أو التمييز، حيث تشير التقارير إلى أنّ 70% أو أكثر من المستهدفين بجرائم الكراهية أو خطاب الكراهية على وسائل التواصل الاجتماعي ينتمون إلى الأقليات، علمًا أنّ أفراد تلك الأقليات هم أيضًا أكثر عرضة للرقابة و/أو إزالة المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي.[9]
- يشكّل اعتداءً على قيم التسامح والتنوّع والتعدّدية، وعلى إمكانية ترسيخها في المجتمع وتعديل القوانين بما يتوافق مع تلك القيم.
- يقوّض التماسك والتضامن المجتمعي والتعاطف مع الضحايا في الفترات الأكثر حرجًا والأشدّ حاجة لذلك، ممّا يؤدّي إلى تفاقم الأزمات الاجتماعية والإنسانية.
- يعرقل جهود السلام والاستقرار الأمني والسياسي والمصالحة بعد انتهاء الحرب.
- يمنع تشكيل ذاكرة جماعية للحرب ويتجاهل الوقائع التاريخية والألم المشترك الذي أصاب المجتمع، أفرادًا وجماعات، وتاليًا يحرم المجتمع من فرصة تعلّم الدروس من الماضي ويضعف إمكانية استعادة الثقة بين أفراد المجتمع ويزيد من احتمال تكرار الحرب.
- يهدّد الصحافة وحرّية التعبير، إذ غالبًا ما يُستخدم لتشويه سمعة الصحافيين ووسائل الإعلام، مما يجعلهم أكثر عرضة للخطر. مثال على ذلك: تخوين الصحافيين والناشطين لمجرّد نقلهم وجهات نظر متعددة أو آراء مخالفة.
- يبرّر الاستنسابية في الملاحقات القانونية والمساعدات الإنسانية، ممّا يؤدّي إلى مزيد من التمييز على أساس معايير غير موضوعية وإلى تقويض الثقة في النظام السياسي والقضائي.
- يعزّز ثقافة الإفلات من العقاب، طالما يتمّ تبرير الانتهاكات تحت غطاء حرية التعبير أو المواقف السياسية، ويشجّع على تجاهل حقوق الضحايا وتحميلهم مسؤولية الحرب من دون مساءلة المرتكبين الحقيقيين للجرائم. [1]
ثالثًا- المؤشّرات على خطاب الكراهية أثناء الحروب والنزاعات المسلّحة[2]
يسهم التنبّه إلى مؤشرات خطاب الكراهية في التعرّف المبكر على العوامل التي قد تؤدي إلى تصاعد العنف في المجتمع، ويمكن أن يحول، في حال وضع ذلك ضمن أولويات السياسات العامة، دون تفاقم الأزمات.
فيما يلي أبرز المؤشرات التي تدلّ على وجود خطاب كراهية في سياق الحروب والنزاعات المسلحة:
- التحريض المباشر على العنف ضدّ مجموعة معيّنة، مثل الدعوة العلنية إلى قتل أو إلحاق الأذى بأفراد أو جماعات بناء على انتمائهم، سواء العرقي أو الديني أو السياسي أو غيره، أو استخدام ألفاظٍ تحريضيّة واضحة، أو التشجيع على القيام بأعمال انتقامية ضدّهم أو تأييد الجرائم ضدّ مجموعة معيّنة أو تبريرها أو عدم إدانتها.
- استخدام اللغة المهينة والتجريد من الإنسانية مثل وصف مجموعة معيّنة بأنّهم حيوانات أو أقل من البشر أو أدنى منهم جينيًا، ممّا يسهم في إضعاف التعاطف مع الضحايا وصولًا أحيانًا إلى تبرير العنف ضدّهم.
- التعميم السلبي على مجموعة معيّنة، مثل اعتبار أنّ جميع أفرادها هم إرهابيون أو خونة، أو تصويرها على أنّها المسؤولة عن الحرب أو الجرائم، أو أنّها تهديد للأمن القومي أو للعيش المشترك.
- نشر الأخبار الكاذبة والتضليل لتعزيز الكراهية، مثل ترويج أخبار كاذبة أو مشوّهة عن مجموعة معيّنة بهدف تأجيج الكراهية ضدّها، أو استخدام الصور والفيديوهات المضلّلة التي تخرج عن سياقها، أو تضخيم الجرائم التي ارتكبها طرف معيّن مع التخفيف من خطورة الجرائم التي ارتكبها أطراف آخرون.
- الدعوة إلى التمييز والإقصاء، مثل المطالبة بمنع مجموعة معيّنة من الحصول على حقوقها الأساسية أو استبعادها من الحياة الاجتماعية والسياسية، أو فرض قيود على حقوق أفرادها بسبب انتمائهم إليها.
- تمجيد العنف والقتل والتدمير ضدّ فئة معيّنة، أو تصويره على أنّه ضرورة وطنية ملحّة.
- إضفاء الطابع الديني على النزاع مثل استخدام الخطاب الديني أو القومي لتبرير العنف أو الكراهية ضدّ مجموعة معيّنة على أساس انتمائهم الديني.
- عدم التنديد الرسمي أو غير الرسمي بخطاب الكراهية الصادر عن المؤسّسات العامّة أو الشخصيات النافذة.
رابعًا- التحدّيات التي قد تطرأ أثناء التصدّي لخطاب الكراهية
قد يواجه الإعلام تحدّيات عدّة أثناء التصدّي لخطاب الكراهية، أبرزها:
- القوانين المناهضة لخطاب الكراهية متباينة، وأحيانًا فضفاضة ولا تتضمّن معايير واضحة أو منسجمة مع المادة 20 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.
- الموازنة بين التصدّي لخطاب الكراهية وحماية حرّية التعبير: أي قيد على الإعلام هو بطبيعة الحال قيد على حرية التعبير، وتاليًا قد يصعب أحيانًا على الإعلام تحقيق هذا التوازن بخاصّة أثناء الظروف الاستثنائية، إلّا إذا تمّ الإعداد لذلك قبل وقوع الحرب، وفق ما سنأتي على ذكره في باب التوصيات.
- صعوبة التمييز بين الخطاب السياسي المشروع وحق الاختلاف من جهة، وخطاب الكراهية من جهة أخرى، ممّا قد يدفع بعض الصحافيين أو الناشطين إلى اعتبار أي نقد أو تنبيه لهم، موجّهًا ضدّ حقهم في التعبير، وبالتالي، تحويل النقاش إلى مسار مختلف تمامًا.
- ندرة الاجتهادات القضائية حول التحريض على الكراهية، مما يصعّب الفصل بين المسموح والممنوع وتحديد المعايير التي تُعتمَد في تصنيف مستوى التحريض في الخطاب.
- غياب الملاحقة القانونية لحالات التحريض الفعلية، سواء لصدورها عن شخصيات سياسيّة أو إعلاميّة نافذة، أو لعدم الإقرار بأهميتها، مما يجعل الإعلام في حيرة من أمره إزاء التعامل معها.
- سهولة الانجرار وراء التحريض أثناء الحروب، سواء من قبل الصحافيين أنفسهم أو الرأي العام، حيث تبلغ التجاذبات السياسية والاستقطاب الشعبي ذروتها ويصبح البقاء على قيد الحياة الأولوية القصوى، بدلًا من التدقيق في مدى خطورة الخطاب أو تصنيفه.
خامسًا- التوصيات
تقع مسؤولية التصدّي لخطاب الكراهية على أطراف متعدّدة، بما في ذلك الرأي العام الذي يُطلب منه أن يعي خطورة خطاب الكراهية ويسعى لتمييزه عن الخطاب السياسي. وقد رأت الأمم المتحدة أنّ الإجراءات الأكثر فعالية لمكافحة خطاب الكراهية تتخذ من قبل جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك الحكومات والمنظمات الإقليمية والمتعددة الأطراف والشركات الخاصة ووسائل الإعلام والجهات الفاعلة الدينية وغيرها من المجتمع المدني.[10]
التوصيات الخاصّة بالسلطات العامّة
نسعى في هذا الشق إلى حثّ السلطات العامة على التصدّي لخطاب الكراهية من خلال الإقرار بأهمية الحدّ منه، من دون الانجرار وراء ملاحقات مبالغ فيها أو زجرية أو نابعة من الرغبة في الاقتصاص من أصحاب الآراء المخالفة أو الكاشفة للفساد. قد يظنّ البعض أنّ هذه التدابير لن تُحدث تغييرًا، وهو اعتقاد مشروع، إلّا أنّ التجارب السابقة في هذا المجال تشير إلى أنّ فرض قيود صارمة على الصحافيين قد يؤدّي إلى نتائج عكسية، وأنّ الإصلاح لا يمكن أن يكون إلّا تدريجيًا، من خلال خطوات دؤوبة غير مقيّدة لحرّية التعبير بشكل تعسّفي. من التوصيات في هذا الصدد:
- فهم الأبعاد الحقيقية لخطاب الكراهية ومدى أهمية التعامل بحذر في التصدّي له. فهو لا يقتصر فقط على مخاطر جدّية على المجتمع، كما ذكرنا سابقًا، بل قد يعكس أحيانًا مخاوف مشروعة لم تتعامل معها السلطات بجدّية، ممّا أدى إلى سهولة انجرار الرأي العام خلف التحريض انطلاقًا من تلك المخاوف.
- تعديل القوانين على نحو يحظر خطاب الكراهية، في الحالات الأشدّ خطورة، على أن يكون أي قيد تفرضه السلطات العامة متوافقًا مع مبادئ حرية التعبير ومتناسبًا مع حجم الضرر الذي قد ينتج عنه. كما ذكرنا أعلاه، تفرض المادة 20 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية شروطًا صارمة لضمان بقاء القيود على حرّية التعبير استثناءً وليس القاعدة. كذلك يجب أن يشمل تعديل القوانين تدابير لحماية الصحافيين على مختلف المستويات التي أسهبنا في شرحها في مقالات سابقة، حتى لا يتحوّل أي قيد على خطاب الكراهية مدخلًا للاستنسابية أو الانتقام. في هذا الصدد، نذكر أنّ مشروع تعديل قانون المطبوعات في لبنان يعاقب على استخدام وسائل الإعلام للتحريض على التمييز العنصري أو على الكراهية أو العنف ضد الأشخاص بسبب جنسهم أو أصلهم أو لونهم أو ميولهم أو انتمائهم العرقي أو الديني أو الجنسي. إلّا أنّ هذا النص، رغم كونه أكثر تطوّرًا ممّا كان سابقًا، لا يحدّد أيّة معايير ثابتة أو واضحة، وتاليًا، يبقى مبهمًا ومطاطًا ويفتح الباب واسعًا أمام انتهاك حرّية التعبير. في كلّ الأحوال، يجب أن تتمّ المحاكمات في إطار زمني معقول وأن تكون العقوبة المحدّدة في النص متناسبة مع الجرم ولا تشكل تهديدًا لحرّية التعبير[11]. فالهدف الأساسي من التجريم، في حال توفّر عناصره، يبقى التأكيد على رفض السلطات العامّة للتحريض داخل المجتمع ورفع مستوى الوعي لدى الرأي العام إزاء التحريض المدمّر وليس فرض قيود مشدّدة وأحيانًا تعسّفية على الصحافيين.
- تقييم عمل المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع: فضلًا عن المآخذ التي أشرنا إليها في مقالات سابقة[12]، لم يتّخذ المجلس، المنتهية ولاية أعضائه منذ 2008، أي خطوات ملموسة خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، بالرغم من وجود مؤشرات جدّية على خطاب الكراهية بواسطة الإعلام. ولا يبرّر ذلك أنّ صلاحيات المجلس الوطني للإعلام استشارية، لسببين: الأوّل أنّ هذه الصلاحيات لا يجب أساسًا أن تكون مقرونة بسلطة تنفيذية واسعة حتى لا تشكّل تهديدًا لحرّية التعبير، والثاني أنّ طابعها الاستشاري لا يقلّل من قدرة المجلس على مراقبة عمل المؤسّسات الإعلامية وتقديم قراءة هادئة وعقلانية لأدائها ومسؤوليّاتها أثناء الحرب، والتنبيه من مخاطر التحريض واستخدام الإعلام لتبرير الجرائم أو التلاعب بالرأي العام. لعلّ القرار الصادر مؤخرًا عن مجلس شورى الدولة في قضية زياد عيتاني يبرز الدور الذي يمكن أن يؤديه المجلس، فقد اعتبر القرار الدولة مسؤولة عن المسّ بقرينة البراءة بفعل تقاعس المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع، عن ممارسة مهامه في مراقبة عمل المؤسسات الإعلامية وبخاصة لجهة وجوب تنبيهها من مغبّة نشر تفاصيل التحقيقات الأوّلية.
- حثّ النقابات ووسائل الإعلام والصحافيين، أو أقلّه عدم وضع العراقيل، على التنسيق لتطوير آليات التنظيم الذاتي، لاسيّما وضع مدوّنة مهنيّة تحذّر من خطاب الكراهية وتحدّد نطاقه والمؤشرات عليه، ليس من باب الإدانة وإنّما من باب المسؤولية المهنية والأخلاقية أثناء الحروب والنزاعات المسلّحة.
- تعزيز المعرفة الرقمية في المناهج التربوية وسياسات وزارة الإعلام، لتمكين الرأي العام من تقييم المعلومات وتحسيس الصحافيين والناشطين بالمسؤولية تجاه النشر الرقمي.[13] وهذا الأمر قد يكون مفيدًا، بخاصّة في الحالات التي يكون فيها خطاب الكراهية مقصودًا لتأجيج النزاعات، وليس على سبيل الخطأ أو عدم التمتّع بالمهارات المهنية اللازمة.
- رصد علامات الإنذار المبكر للجرائم الوحشية: إنّ التعرّف على مؤشرات خطاب الكراهية أثناء الحروب أساسي للتصدّي له قبل أن يتحوّل إلى أعمال عنف فعلية.
- حصر الملاحقة القانونية بالحالات الأكثر خطورة.
- في حال الملاحقة، ضمان محاكمات عادلة وسريعة للمتورّطين في نشر التحريض على العنف والكراهية، وذلك لسببين: الحدّ من الملاحقات التعسفية من جهة، وضمان حلّ سريع لخطاب الكراهية أثناء الحروب من جهة أخرى.
- اجتهاد المحاكم وفق المعايير الدولية والاجتهادات القضائية والفقه المقارن.[14] في هذا الصدد، رأت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أنّه من الضروري أن تعتمد الدول نهجًا حذرًا عند تحديد نطاق جرائم خطاب الكراهية، ودعت إلى تفسير التشريعات بشكل صارم لتجنّب التدخل المفرط تحت ستار مكافحة هذا الخطاب، بخاصّة في الحالات التي يكون فيها الأمر متعلقًا بانتقاد السلطات أو سياساتها[15]. والواقع أنّ أيّ قانون، مهما كانت ضوابطه صارمة لمنع إساءة استخدامه، يبقى عرضة للتعسّف إذا لم يكن القضاء مستقلًا ونزيهًا وقادرًا على ضمان تطبيقه بعيدًا عن الضغوط السياسية أو المصالح الضيّقة.
- توفير الحماية للضحايا الذين يستهدفهم خطاب الكراهية، بما في ذلك الأقليات والجماعات الأكثر عرضة للخطر أثناء الحروب والنزاعات المسلحة، لاسيما من خلال نبذ خطاب الكراهية على المستوى الرسمي والتأكيد على أهمية عدم الانجرار وراء العنف والإقصاء.
- امتناع القيّمين على السلطة العامة عن استخدام خطاب الكراهية، لما في ذلك من تأثير سلبي على الرأي العام، ليس فقط لجهة التحريض ودفع الإعلام إلى إعادة نشره أمام الرأي العام، بل أيضًا لجهة الترويج للتحريض والتطبيع معه، وإضعاف ثقة الرأي العام في أي تغيير أو إصلاح محتمل.
التوصيات الخاصّة بالنقابات والجمعيات
- الاستعداد المبكر للتحديات التي قد تطرأ على الإعلام أثناء الأزمات بشكل عام، وفي الحروب والنزاعات المسلّحة بشكل خاص.
- التنسيق مع الوسائل الإعلامية والصحافيين لوضع مدوّنات مهنيّة تتضمّن التصدّي لخطاب الكراهية أثناء التغطية الإعلامية، على أن تكون المدونة تتماشى مع التحديات المهنية بشكل شامل وتراعي حقوق الصحافيين وموجب حمايتهم.
- توفير التدريب والتوعية للصحافيين بشأن التعامل مع خطاب الكراهية أثناء الحروب.
- الدفاع عن الصحافيين لتعزيز موقفهم إزاء الضغوط السياسية و/أو العسكرية التي قد تهدّد استقلاليّتهم وتسهم في نشر خطاب تحريضي.
- رصد المحتوى الإعلامي والكشف عن مدى تضمّنه خطاب كراهية، ليس من باب التشهير أو التحريض على الوسائل الإعلامية أو الصحافيين، وإنّما من باب تحذير الرأي العام من الانجرار وراء التحريض والكراهية.
- التنويه بالتحقيقات الصحافية التي تركز على الأبعاد الإنسانية للحروب وتوثيق الانتهاكات لحقوق الإنسان، لأنّ ذلك من شأنه أن يسهم في تعزيز التضامن المجتمعي في مواجهة خطاب الكراهية. كذلك التحقيقات التي تكشف الأطراف المستفيدة من نشر خطاب الكراهية وخطورته على المصلحة العامة، لأنّ ذلك من شأنه طرح الأسئلة حول دوافعه وأهدافه، ممّا يسهم في التخفيف من تداعياته على الرأي العام.
- دعم الصحافيين المستقلّين، لأنّهم قد يكونون أقلّ عرضة للضغوط السياسية، إلّا أنّهم في حاجة إلى حماية إضافية كونهم أكثر تأثرًا بحملات التشهير وتشويه سمعتهم ومصداقيتهم.
- التعاون مع الجمعيات والمنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان لتعزيز الوعي حول مخاطر خطاب الكراهية واستشراف الخطوات اللازمة لتعديل القوانين بما يتلاءم مع حرية التعبير.
- الضغط على الجهات الرسمية المعنية لتعديل قانون المطبوعات على نحو يحقق التوازن بين الحدّ من خطاب الكراهية وحماية الصحافيين من استغلاله كأداة للاقتصاص منهم أو إسكاتهم.
- توفير الحماية للصحافيين والمدوّنين في الملاحقات و/أو الحملات التي يُخشى فيها أن يتحوّل التصدّي لخطاب الكراهية إلى أداة بيد أصحاب النفوذ للاقتصاص من الصحافيين.
- تعزيز التعاون بين الصحافيين، بمعزل عن الوسيلة الإعلامية التي يعملون فيها أو مواقفهم السياسية، للبحث في التحدّيات وتبادل التجارب حول التصدّي لخطاب الكراهية.
التوصيات الخاصّة بالوسائل الإعلامية
- وضع سياسة تحريرية تتضمن معايير صارمة وواضحة ضدّ خطاب الكراهية، ليتمكّن الصحافيون العاملون لديها من التدرّب عليها، قبل وقوع الحرب.
- يمكن الاستعانة بالمؤشرات المنصوص عليها أعلاه لصياغة تلك المعايير وتجنّب الوقوع في خطاب الكراهية، مثل الابتعاد عن التحريض على العنف ضد مجموعة معينة أو استخدام اللغة المهينة والتجريد من الإنسانية أو تصوير مجموعة معينة على أنّها المسؤولة عن الحرب أو الجرائم، أو أنّها تهديد للأمن القومي أو العيش المشترك، أو إضفاء الطابع الديني على النزاع مثل استخدام الخطاب الديني أو القومي لتبرير العنف أو الكراهية ضدّ مجموعة معيّنة، أو إثارة الخوف لدى مجموعة دينية من قوّة أو تهديد مجموعة أخرى.
- استشارة الجمعيات المعنيّة بحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني بشأن قواعد الحروب والمعايير التي تجعل الخطاب تحريضيًا، وتوعية الصحافيين العاملين لديها حتى يتجنّبوا الوقوع في أخطاء فادحة، وأحيانًا، غير قابلة للإصلاح. مثال على ذلك تبرير الاغتيالات لشخصيات سياسية لا تؤدّي أي دور عسكري، أو تبرير قتل مسعفين بسبب ارتباطهم بأطراف عسكرية، رغم أنّ تلك الجرائم هي جرائم حرب، ممّا يشجّع على مزيد من الكراهية والانتقام.
- السعي لإرساء التعاون المستمر مع الوسائل الإعلامية الأخرى لوضع قواعد مشتركة للتصدي لخطاب الكراهية أثناء تغطية الحروب والنزاعات المسلحة.
- الاعتراف بأيّ أخطاء قد تحدث في نشر الأخبار التحريضية والتركيز على عدم تكرارها واستيعاب ردود الفعل عليها، عوضًا عن التهجّم عليها واختلاق الأعذار الواهية واعتبارها مسًّا بحرية التعبير.
- تشجيع الصحافيين على التركيز على الأبعاد الإنسانية للحروب وتوثيق الانتهاكات لحقوق الإنسان، عوضًا عن حصر التغطية بالجوانب العسكرية والسياسية، وذلك لحماية حقوق الأفراد والجماعات المتضررة وتمتين التضامن المجتمعي بعيدًا عن التهميش والتحريض.
- التمييز بين التوجّهات السياسية لإدارة التحرير والخطاب التحريضي الذي غالبًا ما ينبع من حسابات فئوية وسياسية ضيقة وإقصائية.
- إفساح المجال أمام حق الرد لضحايا خطاب الكراهية من خلال نشر وجهة نظرهم.
- السعي لكشف وتحليل الأخبار التحريضية بشكل موضوعي ومسؤول أمام الرأي العام، من دون الانجرار وراء مزيد من التحريض ضدّ ناشرها. فإذا انتشر خبر من شأنه التحريض أو التمييز، يمكن لوسائل الإعلام أن تساهم في توضيح الآثار السلبية لهذا النوع من الخطاب على المجتمع، ونشر توضيح أو وجهات نظر بديلة تحدّ من مخاطره، من دون أن تحرّض بدورها على الناشر.
- تجنّب ملاحقة الناشطين والصحافيين بسبب تصريحاتهم التي تتهم وسائل الإعلام بالتحريض، خصوصًا إذا كانت هذه التصريحات تعبّر عن وجهات نظر تتعلق بالممارسات الإعلامية أو أساليب التغطية الإعلامية، وذلك لأسباب عدّة، أهمّها: 1. التوقيت في زمن الحرب: غالبًا ما تتسم ردود الفعل خلال الحرب بالمبالغة والتطرّف، لكن هذا لا يعني بالضرورة أنّ هذه التصريحات تشكل تحريضًا فعليًا أو خرقًا للقانون، بل قد تكون تعبيرًا عن قلق مشروع حيال دور وسائل الإعلام أثناء الأزمات؛ 2. الخشية من التعسّف: هناك خطر حقيقي من اللجوء إلى الملاحقات القانونية أو الاعتقالات التعسّفية التي تستهدف الصحافيين والناشطين لمجرّد أنّهم أعربوا عن وجهات نظرهم. مثل هذه الممارسات قد تؤدي إلى تقييد حرية التعبير، وتخويف الصحافيين من أداء واجبهم المهني بشكل مستقل؛ 3. الخشية من التحقيق مع الناشطين أو الصحافيين أمام أجهزة أمنية أو قضائية غير مختصّة؛ 4. قدرة المؤسسات الإعلامية على الردّ، من خلال منابرها، بسهولة ومن دون التسبّب بأي ضرر إضافي.
التوصيات الخاصّة بالصحافيين
- التعرّف على المعايير التي تجعل الخطاب تحريضيًا والالتزام بها، على اعتبار أنّ تجنّب خطاب الكراهية، بخاصّة أثناء الحروب والنزاعات المسلحة، ليس انتقاصًا من حريتهم في التعبير عن توجّهاتهم السياسية.
- تجنّب نقل التصريحات التي تثير الكراهية، بخاصّة إذا صدرت عن مسؤولين سياسيين أو موظفين عامين. غالبًا ما يتمّ تبرير ذلك بأنّ الصحافي ينقل ما يحدث في الشارع وعلى لسان أحد المسؤولين، وهو تبرير معقول، إلّا أنّ النشر، بخاصّة أثناء الحروب والنزاعات المسلّحة، يجب أن يراعي بعض المعايير، ومنها: أن يكون ضروريًا وبأسلوب يضع مسافة بين الصحافي والخبر وضمن سياق واضح يراعي التعددية في وجهات النظر، حتى لا يظهر كأنّ الناشر يتبنّى هذا الموقف أو يدعو إلى التحريض.
- مراعاة السياق الكامل للخبر وعدم الاجتزاء في الحالات التي يشكل فيها هذا الاجتزاء تحريضًا على التمييز أو العنف.
- الحذر أثناء النقل المباشر: قد يفاجأ الصحافي أثناء النقل المباشر بخطابات تحريضية. في هذه الحالة، من المفيد أن يتّخذ بسرعة موقفًا جريئًا بالتوضيح أمام الرأي العام بأنّ تلك الخطابات لا تعكس موقفه أو الموقف الرسمي للوسيلة الإعلامية ولا تتماشى مع معاييرها الأخلاقية والمهنية، و/أو التعليق عليها بهدف عقلنة الخطاب وتهدئة الأجواء. كما يمكنه نشر تصحيح أو توضيح إضافي بعد انتهاء النقل المباشر، لضمان عدم الترويج لتلك الخطابات. إذا كان الخطاب المعروض يتطلب فهمًا قانونيًا دقيقًا، يمكن للصحافي استشارة مختصّين في القانون الدولي أو حقوق الإنسان لتوضيح الآثار المترتّبة على هذا النوع من الخطاب.
- النشر على وسائل التواصل: يتحمّل الصحافيون، بطبيعة الحال، مسؤولية مهنية عن النشر على وسائل التواصل الاجتماعي، بخاصّة أنّهم محترفون ويتمتّعون بالوسائل اللازمة للتحقّق من منسوب التحريض في تصريحاتهم، مقارنةً بالأشخاص العاديين. لذلك، من المفيد تجنّب نشر أو الترويج لأيّ محتوى قد يثير الكراهية أو يحرّض على العنف. في حال وقوع خطأ، يبقى بالإمكان الاعتذار عنه، ونشر توضيح لسياق النشر وأسبابه، واحتواء ردود الفعل عليه، عوضًا عن التهجّم بخطاب أكثر تحريضًا. هذا لا يعني إطلاقًا أنّ ردود الفعل دائمًا مشروعة، أو أنّ مجرّد وقوع ردود فعل على نشر معيّن يشير إلى أنّه تحريضي. من هنا تأتي أهمية الحذر في الانجرار وراء حملات التحريض ضدّ زملاء صحافيين، والتمعّن في مضمون الخطاب وسياقه قبل توجيه الاتهامات.
- حماية أنفسهم من التأثر بخطاب الكراهية والانحياز للخطابات التحريضية، الصادرة عن الوسيلة الإعلامية التي يعملون لديها، من خلال الحفاظ على استقلاليتهم المهنية، وعدم تبنّي مواقف قد لا تتناسب مع التزاماتهم المهنية، وتساهم في تأجيج النزاعات أو تعزيز الانقسامات داخل المجتمع.
- الدفاع عن أنفسهم والتضامن مع الصحافيين الآخرين في مواجهة الملاحقات على خلفية التحريض أو حملات التحريض ضدهم، لاسيما في الحالات التي يهدف فيها النشر إلى الإعلان عن مواقف سياسية بحتة أو كشف تجاوزات قد تمسّ بشخصيات نافذة أو متصلة بالشأن العام. من الضروري التمييز دائما بين خطاب الكراهية والنقد المباح الآيل إلى محاسبة المسؤولين وكشف الفساد، وعدم السماح باستغلال قوانين مكافحة التحريض كأداة لإسكات الصحافة الاستقصائية أو تقييد حرية التعبير.
[1] المادة 20 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية
[2] Zemmour c. France, ECHR, 2020: “52. … Le point de savoir si les propos ont été tenus dans un contexte politique ou social tendu. Si tel est le cas, la Cour reconnait généralement qu’une certaine forme d’ingérence visant de tels propos peut se justifier”.
[3] Zemmour c. France, ECHR, 2020: “62. … le requérant était à l’époque lui-même journaliste et chroniqueur, connu pour ses sorties polémistes, et même s’il s’exprimait en qualité d’auteur sur le plateau de télévision, il n’échappait pas aux « devoirs et responsabilités » d’un journaliste. Il était donc parfaitement à même de mesurer la portée de ses propos, malgré les questions posées à brûle-pourpoint par les journalistes, et d’en apprécier les conséquences”.
[4] Kilin v. Russia, ECHR, 2021: “73. … Intent to incite might be established where there is an unambiguous call by the person using hate speech for others to commit the relevant acts or it might be inferred from the strength of the language used and other relevant circumstances, such as the previous conduct of the speaker. However, the existence of intent may not always be easy to demonstrate, particularly where remarks are ostensibly concerned with supposed facts or coded language is being used”.
[5] Zemmour c. France, ECHR, 2020: “54. L’incitation à la haine ne requiert pas nécessairement l’appel à tel ou tel acte de violence ou un autre acte délictueux. Les atteintes aux personnes commises en injuriant, en ridiculisant ou en diffamant certaines parties de la population peuvent suffire pour que les autorités privilégient la lutte contre le discours raciste par rapport à la liberté d’expression exercée de manière irresponsable”.
[6] Kilin v. Russia, ECHR, 2021: “91. Having said this, the Court does not exclude that the sharing of such content in such a manner within an online group (even a relatively small one) of like-minded persons may have the effect of reinforcing and radicalising their ideas without being exposed to any critical discussion or different views”.
[7] قرار قضائي يوسّع مدى حرية المعتقد في لبنان: لا محلّ للحساسية الدينية غير الطبيعية، المفكرة القانونية، ميريم مهنّا ونزار صاغية، 8/2/2019.
[8] Secretary-General Launches United Nations Strategy and Plan of Action against Hate Speech, Designating Special Adviser on Genocide Prevention as Focal Point, United Nations, 18/06/2019.
[9] Report of the Special Rapporteur on minority issues, Fernand de Varennes, 03/03/2021
منع نشوب الصراعات عن طريق حماية حقوق الإنسان للأقليات – تقرير المقرر الخاص المعني بقضايا الأقليات، 15/3/2022.
[10] إجراءات المنظمة لمكافحة خطاب الكراهية.
[11] Kilin v. Russia, 2021: “94. Lastly, the Court reiterates that the nature and severity of the penalties imposed are factors to be taken into account when assessing the proportionality of an interference with the freedom of expression guaranteed by Article 10… The Court considers that the suspended eighteen-month term of imprisonment with a similar period of probation and some other requirements was proportionate in the specific circumstances of the case”.
[12] حماية الصحافيين في النزاعات المسلّحة (3): توفير ظروف مناسبة للعمل الإعلامي أثناء الحروب، رنا صاغية، المفكرة القانونية، 25/2/2025.
[13] خطاب الكراهية: أثره وكيفية منعه، الأمم المتحدة. وأيضًا:
Rethinking learning: A review of social and emotional learning for education systems, Unesco.
[14] خطة عمل الرباط، 2012.
[15] Stomakhin v. Russia, 2018: “117. The Court has found in paragraph 107 above that, in the sensitive context of the fight against terrorism and, in particular, the counter-terrorist operation in the Chechen Republic, and in the light of the tenor of the phrases used, a number of other statements from the same article could be regarded as inciting hatred against the members of Russia’s armed and security forces. However, in the light of its considerations in the previous paragraph, the Court cannot reach the same conclusion with regard to the extract under examination, which, as has been noted above, is merely concerned with criticism of the State and the actions of the federal armed and security forces as a part of the machinery of the State. It stresses in this connection that it is vitally important that the domestic authorities adopt a cautious approach in determining the scope of “hate speech” crimes and strictly construe the relevant legal provisions in order to avoid excessive interference under the guise of action taken against “hate speech”, where such charges are brought for a mere criticism of the Government, State institutions and their policies and practices”.