كيف نحمي حقاً معينا من دون المس بحق آخر؟ قاض يوازن بين المصالح ويواجه العوائد السائدة


2012-11-05    |   

كيف نحمي حقاً معينا من دون المس بحق آخر؟ قاض يوازن بين المصالح ويواجه العوائد السائدة

بدأت القصة بطلب قدمته مواطنة إلى قاضي الأمور المستعجلة في بيروت جاد معلوف تطلب فيه الحصول على بيانات الأمن العام المتعلقة بالتنقلات الخارجية لمواطن آخر (دخول البلاد والخروج منها). قالت السيدة التي تقدمت بالطلب بصفتها مالكة أحد المنازل، وانها ترمي إلى إثبات عدم سكن "غريمها المستأجر" في ملكها، وبالتالي حقها بإسترداده. لم تقدم المدعية اي اثبات يفيد بتأجيرها اي عقار للمواطن المدعى عليه..ولم ينح القاضي معلوف في القرار الذي اتخذه في آب الماضي، منحى قضاة اخرين في التعاطي مع حقين متعارضين، بل "رفض" طلب المدعية، ولم يرده، مسجلاً موقفاً واضحاً لكيفية حماية حق معين، ورفضاً لممارسات سادت لفترة طويلة من دون اي مسوغ قانوني. هنا قراءة تحليلية في حكم القاضي معلوف وابعاده الإجتماعية-القانونية، ومعها الهامش الإجتهادي الذي يمكن للقاضي اللجوء اليه.   
في قراره الصادر في 16-8-2012، واصل قاضي الأمور المستعجلة في بيروت جاد معلوف الموازنة بين المصالح المعروضة أمامه عملا بمبدأ التناسب. فأي طلب بحماية حق معين من شأنه المس بحق آخر يتم تقويمه من خلال الموازنة بين الفائدة التي قد تنتج عن قبوله والكلفة المتأتية عنه لجهة التضحية بالحق الآخر، وعمليا من خلال الموازنة بين الحقين المتعارضين: فاذا كانت ايجابية، يقبل الطلب بشرط أن تكون التضحية بالحق الآخر ضرورية. بالمقابل، يرد الطلب اذا كانت المعادلة سلبية، أو اذا أمكن حماية الحق الأول من دون التضحية بالحق الثاني (أي بكلفة أقل). وكان أحد الأشخاص قد طلب من القاضي في القضية المذكورة الترخيص له بالحصول من الأمن العام على افادة حول حركة خروج أشخاص آخرين ودخولهم الى لبنان، متذرعا أن هؤلاء مستأجرون قدامى لديه وأن من شأن المستندات المطلوبة أن تثبت واقعة تركهم للمأجور، وتاليا أن تثبت سقوط حقوقهم كمستأجرين بالتمديد. ورأى القاضي أن هذا الطلب يؤدي، في حال قبوله، الى كشف معطيات خاصة بهؤلاء (تاريخ سفرهم، البلاد التي يزورونها الخ) مما يفرض عليه الموازنة مسبقا بين حقوق المتقاضين في الحصول على الاثباتات المتوفرة في سجلات الدولة وحقوق خصومهم في الحفاظ على البينات الخاصة بهم عملا بمبدأ الخصوصية. وهذا ما حمله الى اجراء موازنة جديدة بعدما كان وازن في قرارات سابقة بين حرية التعبير وصون حقوق الناس بالكرامة[1].
وفي اطارهذه الموازنة، يبدأ القاضي في تقويم الحق الذي يطلب التضحية به في حال قبول الطلب:
فلئن كان يتم تسجيل المعلومات المطلوبة من قبل الأمن العام لضرورات تتعلق بالمصلحة العامة الا أنها "تبقى خاضعة للحماية كغيرها من المعلومات الخاصة". والمس بهذا الحق يتعارض حسب القاضي مع نصوص قانونية لها قيمة دستورية كالمادة 12 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان والمادة 17 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، واللتين باتتا جزءا من الدستور بموجب مقدمته، لا بل أن حمايته تكتسي أهمية اضافية في ظل التطورات الاجتماعية الحاصلة حاليا، والمتمثلة ب"التقنيات التي باتت تمكن من اختراق مختلف جوانب الحياة الخاصة للأفراد". وعليه، لا يكتفي القاضي في اعطاء هذا الحق الحماية الواجبة للحقوق ذات المرتبة الدستورية عموما، انما يرى أن ثمة ضرورة في اعطائه حماية أكثر أهمية (متزايدة حسب تعبيره) للاعتبارات الاجتماعية المذكورة، وهو يستشهد في هذا المجال بحيثية وردت في أحد قرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان.
وبذلك، انتهى القاضي الى خلاصة أساسية مفادها أن تقويم الحقوق المعروضة أمامه لا يتم فقط على ضوء أسنادها القانونية ومدى سموها، انما أيضا من خلال انعكاساتها وأبعادها الاجتماعية، وأنها تاليا تحتمل درجات مختلفة، تحدد على أساس مقاييس نسبية يجتهد القاضي في استخراجها بعيدا عن قوالب القانون الجاهزة سلفا. فاذا تم ذلك، أمكنه مقارنة مختلف الحقوق المعنية بالطلب المعروض عليه تمهيدا للنظر في مدى قانونيته (وملاءمته)، وتحديدا في ما اذا هدف الى حماية حقوق ومصالح لها من الأهمية ما يبرر التضحية بالحقوق والمصالح التي يؤدي الى المساس بها أو الى تهديدها.
وهنا، وفي ضوء ظروف القضية موضوع التعليق، سرعان ما خلص القاضي الى رد الطلب: فالمستدعية لم تقدم أي اثبات على وجود مصلحتها أصلا (اثبات صفتها أو صفة المستأجرين لديها)، مما يجعل الطلب "مرفوضا". فهل يعقل المس بحق أساسي بناء على طلب مجرد عن أي اثبات؟ وألا يشكل موقف مماثل استهتارا بهذا الحق؟ لا بل أن القاضي استفاض في تحليله في سعي واضح الى ارساء قواعد جديدة في هذا المجال. فعلى فرض ثبوت هذه المصلحة، فان التضحية بخصوصية المستأجر تكون غير ضرورية أقله في الفترة الراهنة: فثمة احتمال أن يتمكن المالك من اثبات ترك المأجور ب"وسائل عديدة لا تتعدى على الحياة الشخصية للغير" (قد يكون من بينها اقرار المستأجر نفسه أو شهادات الجيران أو فواتير استهلاك الكهرباء الخ..)، كما أنه ليس هنالك في مطلق الأحوال أي خشية من تبديد المعلومات المطلوبة طالما أنها محفوظة لدى الأمن العام، مما ينفي أي مبرر لاستعجال الحصول عليها.
وبما لا يقل أهمية عن ذلك، هو تضمين القرار انتقادا صريحا للقرارات القضائية السابقة والتي هي آلت الى قبول طلبات مماثلة. ففي حيثيات عدة، أصر القاضي على اعلان أنه يتخذ موقفا مخالفا "لما درجت عليه العادة". وبذلك، بدا القاضي من خلال قراره، وكأنه يهدف ليس فقط الى رد طلب معين، بل الى ارساء منهجية قضائية جديدة في العمل القضائي من شأنها وضع حد لممارسة قضائية يجدها هو غير قانونية. وما يزيد هذا التوجه وضوحا هو استخدام كلمة "مرفوض" لرد الطلب بدلا عن كلمة "مردود" الرائجة في عمل القضاء المستعجل اظهارا لمدى استهجانه لهذه الممارسة التي سادت لفترة طويلة بمنأى عن أي منطق قانوني.



[1]كمثال عن ذلك، "القاضي يكرس مبدأ التناسب: أي تأثيرات سلبية للرقابة المسبقة"، المفكرة القانونية، العدد 3، كانون الثاني 2012. وأيضا، المفكرة القانونية، العدد 5، تموز 2012.
انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، لبنان ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، حريات عامة والوصول الى المعلومات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني