قلبت الأوضاع المستجدة مع انتشار فيروس كورونا في العالم ومن ضمنه لبنان أولويات القطاعات الأساسية. وتربّعت المستلزمات الطبّية على رأس لائحة الضروريات وحتميّة توفيرها، في ظل النقص الذي بدأ مع الأزمة الاقتصادية وفقدان الدولار السائل وتمنّع المصارف عن تحويله إلى الخارج، وتفاقم الأمر بالطبع مع الكورونا. لكن وعلى مدى الأزمة التي بدأت قبل انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، وتفاقمت مع كورونا، بدا أن الإنقلاب يحصل في هواجس المواطنين وسكان لبنان وليس في خطط الدولة والحكومة ومصرف لبنان والمصارف، إذ لم يُتّخذ أيّ إجراء عملي يضع تأمين المستلزمات خصوصاً المرتبطة بصحّة الناس على رأس أولوية المستلزمات المدعومة لغاية الإثنين 23 آذار 2020. في هذا اليوم، وافق مصرف لبنان واتّفق مع المصارف على تحويل 140 مليون دولار، هي مجموع الفواتير القديمة، قبل أيلول 2019، والحديثة المنجزة بعد هذا التاريخ، تمهيداً لدفع فواتير استيراد المستلزمات الطبية، وفق ما تؤكد نقيبة مستوردي المستلزمات الطبية سلمى عاصي لـ”المفكرة القانونية”. ومن المعروف أنّ العرض أصبح لهذه التجهيزات أقلّ من الطلب نظراً لانتشار وباء فيروس كورونا “يعني ما منعرف أيمتى بيوصلونا بعد تأمين المال العالق منذ 7 أشهر”.
6 مليارات و500 مليون دولار
يبلغ حجم القطاعات التي قرّر مصرف لبنان في 26 أيلول 2019 دعمها عبر تغطية 85% من حاجتها للإستيراد بالدولار على سعر الصرف “الرسمي”[1] (1507 ليرة لبنانية للدولار) نحو 6.5 مليار دولار سنوياً. تتوزّع هذه القطاعات على شركات استيراد النفط (3 مليارات دولار ما عدا إستيراد الدولة المباشر لحاجيات منشآت النفط ومؤسسة كهرباء لبنان) والأدوية (مليار إلى 1.3 مليار دولار) والقمح (600 مليون دولار) والمستلزمات الطبية (400 مليون دولار).
هذا الدعم لا يشمل قطاعات الزراعة والصناعة والعلف الحيواني واستيراد اللحوم وكذلك الأغذية المستوردة التي تشكو بدورها من نقص السيولة بالدولار وإعاقة المصارف للتحويلات بالعملة الأجنبية إلى الخارج حتى عند تأمين السيولة النقدية من شركات الصرافة التي تمسك بالسوق الموازية، لكي لا نسميها السوداء، حالياً في البلاد. وينقل القيّمون على القطاعات غير المدعومة وعوداً رسمية سواء من رئيس الحكومة حسّان دياب، أو من المدراء العامّين المختصّين، بمحاولة إدراج قطاعاتهم بين القطاعات المدعومة من مصرف لبنان، أي تأمين احتياجاتها من الدولار على السعر الرسمي بنسبة 85% للإستيراد.
هذا الواقع الذي ينذر بمزيد من السوء في عمل هذه القطاعات التي تراجعت بنسبة 30 إلى 50%، يطرح سؤالاً جوهرياً حول قدرة مصرف لبنان على الإستمرار في الدعم وإلى متى، خصوصاً أنّ التقديرات تشير إلى أنّ مقدّرات المصرف المركزي وموجوداته أقل بكثير من الرقم المعلن والمحدد بـ31 مليار دولار. وهذا يعني أنّ دعم بعض هذه القطاعات، والمأزومة أصلاً قد لن يستمرّ طويلاً وربما لن يصمد لعام كامل منذ بدايته في أيلول 2019.
بلد يستورد حتى بذار الخس
يقول هاني بحصلي، نقيب مستوردي المواد الغذائية والإستهلاكية والمشروبات في لبنان، لـ”المفكرة” إنّه لا يعتقد أنّ المجاعة ستضرب لبنان، كما يتوجّس البعض، خصوصاً مع عودة بعض المواطنين إلى زراعة الحبوب والقمح والخضار بتشجيع من هيئات بلدية وسياسية عدة. وعليه، أقصى ما يخشاه البعض وفق بحصلي، هو فقدان سلع مستوردة يمكن استبدالها بأخرى و”لكننا لن نجوع كشعب”. يكتفي بحصلي بتوثيق تدنّي الطلب على السلع الغذائية بنسبة 30 إلى 40% عمّا كانت عليه قبل الأزمة، وخصوصاً على ما يمكن إدارجه ضمن الكماليات (كالسلع التي تتجاوز الضروريات).
هذه المعطيات تصبح نسبية عندما يقول المعنيّون في القطاعات الإنتاجية والغذائية الأساسية في البلاد، ومن بينهم نقيب مزارعي البطاطا جورج الصقر في حديثه لـ”المفكرة” إنّ الزراعة “تراجعت بنسبة 50% هذا الموسم بسبب صعوبة استيراد البذار، وعليه لن يكون لدينا في مواسم الحصاد المقبلة سوى 50% من الإنتاج الحالي في حال استمر الوضع على ما هو عليه ولم تتعرّض الزراعات لمشاكل ناتجة عن الأمراض وعوامل الطقس”. نحن نتحدث عن لبنان الذي يستورد للأسف كل البذار المؤصّلة من زراعة الخسّ والورقيّات إلى البطاطا، لأن الدولة لم تكلّف نفسها بإنشاء مختبرات لتأصيل البذار وتجهيزها، وفق ما يؤكد نقيب مزارعي القمح والشمندر السكري خالد شومان، “أي أننا عاجزون عن زراعة الخسة إذا لم نستورد بذارها، وهكذا دواليك”.
من أين سنأتي باللحوم؟
على خط الإستهلاك الغذائي عينه، يؤكد متري متري، صاحب إحدى شركات استيراد العلف الحيواني، وكذلك القمح، أنّ “المصارف خنقت الناس ومن بينها العاملين في قطاع استيراد العلف الحيواني وتحصيل حاصل مربي الدواجن والمواشي وتجّارها الذين يستوردونها من الخارج”. ويقول متري لـ”المفكرة”: “يصل سعر استيراد باخرة أبقار من الخارج نحو 5-6 ملايين دولار، فمن أين يأتي التجّار بالدولار للإستيراد؟ ومن أين يأتي مستوردو العلف بالدولار السائل الطازج لدفع ثمن العلف المستورد؟”
هذا الحال يدفع هشام العبدالله، أحد كبار مربّي الدواجن (يبلغ تصريفه نحو 250 ألف طير في الأسبوع) إلى تأكيد مخاوف جديّة من القضاء على القطاع الحيواني تربيةً واستيراداً، بما يؤدي إلى “نقص حقيقي في تلبية احتياجات اللبنانيين من اللحوم، سواء ماشية أو دواجن وحتى سمك الترويت”. وبعدما يشير العبدالله إلى تراجع قطاع الدواجن الذي ينتج 110 ملايين طير سنوياً، نحو 30% بسبب الأزمة القائمة، يؤكد إقفال بعض مزارع الدواجن الصغيرة أبوابها، مع تراجع الطلب على الفروج بنسبة 40%” كما يؤكد إقفال 40% من مطاعم لبنان مع الإنكماش الاقتصادي الذي تشهده البلاد. ويحذر العبدالله من تشريد 30 ألف عائلة تعيش من وراء القطاع الذي يصل حجمه الاقتصادي إلى 300 مليون دولار من بينها 200 مليون دولار يحتاج إليها مربو الدواجن لاستيراد العلف ومستلزمات المزارع.
هذا الكلام يضيف إليه متري تأزّم تربية الحيوانات الذي يترجم عملياً بتراجع سوق العلف بأكثر من 50% “كنا نبيع 100 طناً من علف الذرة في اليوم، حالياً لا نبيع 50 طناً في الأسبوع”.
الصناعة المستمرة بفضل الـ”ستوكّات”
الصرخة نفسها تعلو من قطاع الصناعة الذي لا يستفيد من دعم مصرف لبنان.
فحجم القطاع يبلغ وفق نائب رئيس جمعية الصناعيين زياد بكداش 9 مليارات دولار سنوياً، من بينها ثلاثة مليارات للإستيراد، حيث أنّ 65% من المواد الأوّلية المستعملة في الصناعات الأساسية مستوردة من الخارج. ومع أزمة سيولة الدولار “منذ تموز 2019” وتراجع التسليفات المصرفية ومعها ثقة المورّدين في الخارج نتيجة انخفاض تصنيف لبنان حيث تمّ إدراجه ضمن الدول المعروفة بـ “Junk market“، أي الأسواق غير الموثوقة، وعدم توفّر السيولة النقدية بالدولار “لا يتمكّن الصناعيّون من استيراد أكثر من 50 إلى 60% من احتياجاتهم من المواد الأولية”. ويرى بكداش أنّ “القطاع لم ينهر بعد بسبب استمرار توفر بعض المواد الأولية المستوردة منذ ما قبل الأزمة”. وأزمة القطاع الصناعي لن تنعكس توقفاً عن إنتاج السلع المصنّعة محليّاً كبعض المواد الغذائية الأساسية، والكيمياويات والورق والأدوية المحلية الصنع والحديد والإسمنت والنبيذ فقط، بل ستهدد 160 ألف وظيفة يؤمّنها القطاع. ويرى بكداش، في حديث لـ”المفكرة” أنّ أزمة القطاع في حال لم تُحلّ و”مع تراجع الصناعة 50%”، ستؤدي إلى “صرف نحو 30% من هؤلاء”، أي نحو 50 ألف عامل وموظف.
ومؤخراً، وتحديداً في النصف الأول من آذار 2020، توصّلت جمعية الصناعيين إلى اتفاق مع وزير الصناعة عماد حب الله وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة يقضي بتأمين 300 مليون دولار لدعم استيراد المواد الأوّلية، “ولكن لم يتم وضع آلية لتطبيق الدعم، كما لم يُنفّذ حتى الآن”، وفق ما يؤكد أحد الصناعيين لـ”المفكرة”. وعلى الخط نفسه، تضمن الاتفاق إنشاء صندوق في أوروبا لمنح تسهيلات بنسبة 60% من قيمة الإستيراد على أن يؤمّن الصناعي 40%، ولكن لم يبدأ السعي لإنشاء الصندوق أيضاً، خصوصاً أنّ الأخير يعتمد على تمويل من مستثمرين. وسأل الصناعي عمّن سيتحمّس أو سيساعد في موضوع مشابه في ظل التصنيف المتراجع للبنان حالياً ووضعه الاقتصادي، وحال قطاعه الصناعي.
قطاعات مدعومة ولكن مأزومة
قد يظنّ البعض أنّ القطاعات التي لا تحظى بـ”دعم” مصرف لبنان هي فقط التي تعاني من الأزمة، فيما تبقى القطاعات المدعومة بمنأى عن ذلك. إلّا أنّ التدقيق في هذه القطاعات يظهر ما تنوء تحته بدورها من إشكالات جمّة.
نقص في عمليات القلب والعظم وعلاجات السرطان
أول الذين التقيناهم للحديث عن وضع القطاعات المدعومة، نقيب أصحاب المستشفيات في لبنان سليمان هارون. يستهل هارون كلامه بالقول: “فليودّع اللبنانيّون الرفاهية الطبية التي طالما تمتّعوا بها عندما كان لبنان مستشفى المنطقة”. لدى التدقيق في معطيات هارون، ومعه ممثلة تجمّع مستوردي الأجهزة والمستلزمات الطبية سلمى سابا عاصي، نجد أنّ الأزمة التي تعصف بالقطاع الطبي تتخطى وداع “الرفاهية الطبية” لتصل إلى تعريض سلامة المرضى للخطر بسبب فقدان السيولة بالدولار لاستيراد المستلزمات الطبية. وتطال الأزمة وفق عاصي وهارون “لسوء الحظ كل شيء: من خيطان التقطيب (الغرزات الطبية) إلى أكياس الدم والكواشف للفحوصات الطبية (التي تسمح بكشف تحاليل نتائج تحاليل الدم لتشخيص الأمراض) إلى صمّامات ورسورات وبطاريات القلب، والبراغي والأدوات المستعملة في عمليات العظم، وكذلك الغازات الطبية ومنها الأوكسيجن والمخدر (البنج)”. وفي عمليات القلب هناك نقص في القياسات في الرسورات والصمامات، وفي عمليات العظم لم تعد قياسات كل البراغي المستعملة متوفرة”، وعليه يتم إرجاء كافة العمليات المصنفة باردة، أي تلك التي يمكن تأجيلها. وتضيف عاصي إلى النواقص “الآلات التي تستعمل في مدّ مرضى السرطان بعلاجاتهم، وهو ما يعرّض حياتهم للخطر عبر تأخير مكافحة المرض”.
وتؤكّد عاصي لـ”المفكرة” أنّ القطاع ما زال يفاوض المصارف لتسهيل المعاملات ولتطبيق ميسّر لآلية الدعم من مصرف لبنان. “ولكن ما زال خيار اللجوء إلى القضاء للإدعاء على المصارف قائماً في حال عدم التوصل إلى إزالة العراقيل والمشاكل التي تعتري تحويل الأموال إلى الخارج لإتمام صفقات استيراد المستلزمات الطبية”. وحمّلت عاصي المصارف مسؤولية أيّة تداعيات طبية تؤثر سلباً على حياة المواطنين، بعدما أدّت الأزمة الحالية في لبنان إلى نقص في مستلزمات طبية ضرورية عدّة تُستعمل في علاجات أمراض مستعصية وغيرها، وطبعاً في العمليات الطبية.
النقص في المستلزمات الطبية وبالتالي لوزام المستشفيات يوازيه بعض التقشف والندرة في الأدوية المتوفرة والتي يعزوها نقيب مستوردي الأدوية كريم جبارة في حديثه لـ”المفكرة” إلى سببين: الأول هو أزمة السيولة بالدولار، أما الثاني فهو نفسي ويتمثل في خوف المواطنين “من إنقطاع الأدوية فتهافتوا على شراء أدوية الأمراض المزمنة كالقلب والسكري والضغط والمعدة والربو والكوليسترول، ليخزّنوا في منازلهم أربع إلى خمس علب خوفاً من انقطاعه من السوق، مما أدى إلى تخفيض المخزون من هذه الأدوية في المستودعات. واستتبع هذا التهافت على شراء الأدوية تقشف المستوردين في تسليم الصيادلة الكميات التي يطلبونها. حاولنا أن ننظم استهلاك هذه الأدوية ريثما نتمكن من تغذية المخزون، وإعادته ليخدم من شهرين إلى ثلاثة أشهر كحد أدنى”. إلّا أنّ التقشف في التسليم أدى إلى تهافت المرضى أكثر على تخزين الأدوية “كونهم اعتبروا تسليم كميات محددة من كل دواء دليلاً على انقطاعه، فأقبلوا على شراء مزيد من الأدوية”.
قطاع النفط 5.5 مليار دولار في مهب “العصيان”
بحساب سريع لسعر صفيحة البنزين اليوم، يقول عضو نقابة أصحاب محطات المحروقات في لبنان جورج براكس لـ”المفكرة” إنهم يخسرون كقطاع 1900 ليرة لبنانية في الصفيحة في ظلّ المعطيات الحالية التي تحكم جدول أسعار المحروقات الذي تضعه الدولة اللبنانية كل يوم أربعاء عبر وزارة الطاقة. وينطلق براكس من السعر الرسمي لصفيحة البنزين “اليوم” والذي يبلغ 24 ألف و900 ليرة لبنانية (جرت المقابلة معه بتاريخ 4 شباط 2020 حيث كان الدولار يتم تداوله بسعر 2240 ليرة لدى الصرّافين)، ليقول إنّه طالما أنّ ربح محطة الوقود محدد من قبل الدولة بـ1900 ليرة لبنانية، يجب أن تستلم المحطات صفيحة البنزين من شركات التوزيع بسعر 23 ألف ليرة (كون سعر الصفيحة كان في تاريخ إجراء المقابلة 24 ألف و900 ليرة لبنانية). ويضيف “بما أننا ندفع الـ15% من سعر صفيحة البنزين بالدولار، كما تفرض علينا شركات النفط مقابل حصّتها (15% بالدولار) من قيمة إستيراد النفط بعدما يغطي مصرف لبنان 85% على سعر الصرف الرسمي، ثم تجعلنا ندفع أيضاً 15% من قيمة أجرة النقل والضريبة وغيرهما”. ويسأل “إلى متى يمكننا تحمل هذه الخسارة؟”. ويرى براكس أنّ “أصحاب المحطات يرون أنّ هناك سلطة إسمها الدولة وعليها أن تجد الحل وليس نحن كأصحاب محطات كوننا مؤسسات تجارية ولسن أمماً متحدة ولا جمعيات ولدينا موظفون ورساميل، أو فلتمنع الدولة شركات الإستيراد من جعلنا ندفع 15% بالدولار، كوننا ملزمين بالسعر الذي تحدّده الدولة، وهم يجعلوننا نخسر بالقوة”. ويؤكد أنّ الدولة مطالبة بتعديل سعر صرف الدولار، وزيادة سعر صفيحة البنزين بناء على تطوّر الأوضاع “إذ أنّ صفيحة البنزين هي سلعة استهلاكية مثل البازيللا والأرز. فلماذا لا يمكننا رفع سعرها؟ وإذا أرادت الدولة أن تدعم سعر صفيحة البنزين فلتخفّض ضريبتها التي تراوح بين 7 إلى 8 آلاف ليرة على كل صفيحة، وهو ما يعود على الخزينة بنحو 900 مليون دولار سنوياً من المحطات وحدها”.
ويكشف براكس لـ”المفكرة” أنّ أصحاب المحطّات التقوا رئيس الحكومة حسان دياب الذي وعدهم بإيجاد حل للأزمة “ونحن سننتظر هذا الحل وسنكون إيجابيين، وإذا لم يجدوا حلاً لأزمتنا سنتجه إلى العصيان وسنبيع على جدول أسعارنا نحن، وقد جهّزناه مع آلية تطبيقه وفقاً لتكلفة دفع محطات الوقود نسبة الـ 15% بالدولار التي ندفعها لشركات استيراد النفط والمكملة لتغطية مصرف لبنان 85% من كلفة الإستيراد بالدولار على السعر الرسمي. وعندما نصل إلى هذا الوضع ولم يعجب الدولة فلتحجز على 4 آلاف محطة وقود في البلاد يشتغل فيها آلاف العمال اللبنانيين والأجانب، وترتبط بها نحو مئة شركة توزيع وأصحاب صهاريج وشركات إستيراد”.
50% من اللبنانيين سيعيشون تحت خط الفقر
جواباً على سؤال حول إمكانيات مصرف لبنان وقدرته على دعم هذه القطاعات، يرى الصحافي محمد زبيب أنّ “الواضح من المؤشرات المتاحة محدودية قدرات مصرف لبنان على تأمين العملات الأجنبية لدعم الإستيراد والقيام كذلك بواجباته الأخرى”. ويتوقّف زبيب عند مسألة مهمة وهي أنّ “كل الحسابات والأرقام المعلنة من قبل مصرف لبنان يجري التشكيك بها من قبل جهات مختلفة ومنها وكالات التصنيف الدولية وصندوق النقد، ومن بينها حجم مقدّرات مصرف لبنان المالية”. وفق زبيب، لا يمكن التأكد من صحة إعلان مصرف لبنان عن أنّ حجم موجوداته يبلغ 31 مليار دولار، قبل الكشف عن كل حسابات مصرف لبنان “حيث هناك تقديرات مختلفة عن أرقامه تقول إن احتياطه من العملات الأجنبية القابلة للإستخدام يقلّ عن 10 مليارات دولار”. هذا الرقم ينطلق من أنّ الحديث عن موجودات مصرف لبنان يشمل توظيفاته في الخارج “وبالتالي أولاً قد يكون هناك تضخيم للأرقام، ولا يمكن أنّ نعرف الحقيقة إلا عندما يعلن مصرف لبنان عن ميزان الربح والخسارة”. والإعلان عن ميزان الربح والخسارة “لم يحصل منذ التسعينيّات خلافاً لما يلزمه به قانون النقد والتسليف الذي ينص بشكل واضح أنه على مصرف لبنان أن يعلن كل عام في الجريدة الرسمية عن هذا الميزان، وعن كل عملياته ويجب أن يبّلغ وزارة المالية وينشر الأرقام والإحصاءات، وهذا لم ولا يحصل”.
ويرى زبيب أنّ هذه الموجودات هي “توظيفات في الخارج لآجال قصيرة وطويلة، وهناك جزء منها هي الودائع الإلزامية للمصارف في مصرف لبنان ووظيفتها ضمان قدرتها على سداد الودائع وفق توقعاتها للطلب عليها (على هذه الودائع)، أي أنها ليست ودائع حرة أودعتها المصارف لتجني عليها فوائد وليست اكتتابات في سندات الدين أو شهادات الإيداع التي يصدرها مصرف لبنان، بل هي ودائع إلزامية تمثل احتياطات للمصارف في مواجهة طلب المودعين”.
بهذا المعنى، يرى زبيب أنّه في حال أراد مصرف لبنان تغطية الحاجات الملحة الأساسية المستوردة، “نجد أن المبلغ المتوفر لديه لا يكفي لسنة حتى، وربما لأقل من سنة وهذه معضلة كبيرة”. ويلفت زبيب الإنتباه إلى أن استعمال موجودات مصرف لبنان لا يقتصر على مهمة دعم الإستيراد في القطاعات الأساسية “كون إحدى وظائفه هي تأمين موجودات بالعملة الأجنبية ليتدخّل ويمنع ارتفاع سعر الصرف”. وعليه، عندما بدأت تستفحل الأزمة من دون أيّة إجراءات بنيوية تضمن حماية المجتمع، كان الإجراء الأول الذي عمد إليه مصرف لبنان هو “وقف تدخّلاته في سوق القطع أو الحدّ منها، وبالتالي أفلت سعر الصرف الفعلي ليبلغ أكثر من 2500 ليرة لبنانية في بعض المراحل”.
وعليه، يتعيّن على مصرف لبنان تأمين مبالغ لاستخدامات عدة: إعطاء قروض للمصارف حتى تلبّي طلبات الزبائن، والتدخّل في سعر السوق في حال انهيار “لعبة التثبيت الوهمي الجارية حالياً”، كما “عليه أن يؤمّن دفع الفوائد على ديونه وديون الدولة بالدولار المتوجّبة كفوائد والبالغة مليارين ونصف مليار دولار، إضافة إلى استحقاقات بملياري دولار كأصل لسندات اليوروبوند هذه السنة، وشهادات الإيداع العائدة لمصرف لبنان كسندات الدين التي تصدرها الحكومة”. ويقدّر زبيب بأنّ “الفوائد السنوية التي تُدفع على ديون مصرف لبنان لوحده تلامس 6 مليارات دولار بالسنة، كما تستحق شهادات إيداع أدنى بقليل من مليار دولار على مصرف لبنان” وهذا يعني أنّ الموجودات المقدّرة بنحو 10 إلى 11 مليار “ستطير فعلياَ في حال أوفى مصرف لبنان التزاماته كونه لا يملك الدولارات الكافية ولذا سيكون هناك مفاضلات تضع أطرافاً بوجه بعضها البعض”.
وبناء على ذلك سنجد “أصحاب الودائع الصغيرة في مواجهة أصحاب الودائع الكبيرة، وعلى جبهة الإستيراد من نعطي؟ من يتمتع بعلاقات جيدة مع المصارف ويُحصّل أرباحاً كبيرة؟ أو نلبي الضغوط التي تمارسها قطاعات أساسية في الصناعة والزراعة التي ستُضرب ويتوقف عملها في حال لم تستورد المواد الخام والآلات الصناعية والزراعية”. وأمام لعبة المفاضلة، يجب على سياسات الدولة، وفق زبيب “أن تعكس مصلحة المجتمع، وليس فئة معيّنة تتمتّع بالقوّة والنفوذ، إذ أنّ كل الإجراءات وكل الممارسات التي تحصل اليوم تبيّن لنا أننا لا زلنا نخضع لمصالح فئات معينة تشكل نسبة ضئيلة جداً من المجتمع، وتتمكّن من النجاة كل الوقت، فيما تُحمّل بقية المجتمع الكلفة، وهذا يرتب مخاطر عالية صحية وزراعية وصناعية عالية”.
ويسأل زبيب إن كنّا مع الوقت “سنتمكّن من استيراد الفيول ليس فقط لشركة الكهرباء، بل حتى للمولّدات التي تعوّض التقنين المتزايد. فماذا عن نظام النقل المرتكز على السيارات الخاصة وهل سنعاني من نقص بالبنزين؟ هناك أسئلة كبيرة ولا إجابات عليها حتى الآن”. ويتوقع زبيب تبعاً لذلك أن “يتسبّب الإنكماش الاقتصادي بتعثّر الكثير من الشركات والمؤسسات وطرد مزيد من الموظفين، فضلاً عن تخفيض الأجور وزيادة نسبة الفقر”.
- نشر هذا المقال في العدد | 64 | نيسان 2020، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
قبح النظام في مرآة المصارف
[1] لا نجد أي إشارة إلى سعر رسمي لليرة في قانون النقد والتسليف ويعزى ذلك إلى النظام الليبرالي الذي يترك للسوق أن تحدد قيمة العملة. وعليه، يقصد من الحديث اليوم عن السعر الرسمي السعر الذي حدده مصرف لبنان حصراً.