من كان يتخيل أن تجد فرق كرة قدم تونسية عريقة ذات شعبية كبيرة وتاريخ حافل بالألقاب محليا وقاريا مثل النجم الرياضي الساحلي والنادي الرياضي الصفاقسي والنادي الإفريقي صعوبة في إيجاد مترشحين لرئاستها، وأن تحاصرها الديون والغرامات المالية والعقوبات الإدارية؟ نتحدث هنا عن فرق محترفة تتموقع في صدارة ترتيب البطولة التونسية منذ عشرات السنين، فما بالك بفرق أخرى أقل شعبية وإمكانيات مادية. وعلى الرغم من تراجع النتائج وجودة اللعب يهبّ جمهور الجمعيات إلى نجدتها، وسط ظرفية اقتصادية عامة متأزمة، بكلّ الوسائل المتاحة من تنظيم لحملات جمع التبرعات واقتناء الاشتراكات واشتراء منتجات المتجر الرسمي، الخ. لكنّ كلّ هذه الجهود لم تعدْ كافية لانتشال كرة القدم التونسية من أزمتها التي بدأتْ مع تبنّي السلطات لسياسة الاحتراف منذ التسعينيات من دون بناء قاعدة اقتصادية صلبة لهذا الانتقال. تونس ليست معزولة عن العالم وعمّا يحدث حولها من استيلاء للرأسمالية على الرياضة الأكثر شعبية في العالم وسلعنتها والمضاربة فيها، لكنّ أزمة كرة القدم فيها مضاعفة. لدينا فرق تعدّ قانونيا جمعيات غير ربحية لكنها مجبرة على الإنفاق كشركات كبرى في ظل غياب نموذج اقتصادي متلائم مع الأوضاع المستجدة. بسبب هذا الوضع غير السويّ، تجد الجمعيات نفسها في سعي محموم للحصول على تمويلات إضافية -زيادة عن مداخيلها الذاتية وأشكال الدعم العمومي- لمجابهة النفقات المتزايدة، لتجد نفسها رهينة أصحاب الأعمال الذين أصبحوا يحتكرون تقريبا مناصب الرؤساء في أغلب فرق كرة القدم التونسية المحترفة. وكلما زادت سلطة أصحاب المال في القيادة، كلما تقلص دور الجمهور في إدارة جمعيته بشكل ديمقراطي ومراقبة أداء المسيرين.
“الاحتراف” في خدمة “الاحتكار”
طوال فترة حكم بورقيبة، كانت أندية العاصمة تونس والمدن الكبرى (سوسة وصفاقس) تسيطر تماما على البطولة الوطنية. إذ لم يخرج اللقب من سبعة أندية تمثّل هذه المدن إلا في مناسبتين اثنتين طيلة ثلاثة عقود. لكنّ الكرة حافظت على حدّ أدنى من التشويق والتنافس بين الجمعيات (في الأقسام العليا) والتقارب في ميزانياتها وإمكانياتها. خلال تلك الفترة، كانت فرق كرة القدم تخضع للقانون عدد 154 لسنة 1959 المتعلق بالجمعيات، وبذلك كانت –ومازالت نظريا على الأقل- هياكل غير ربحية تموّل أنشطتها اعتمادا على التمويل العمومي وانخراطات المشتركين وتبرّعات المشجّعين وعائدات الإشهار والرعاية، ويمنع عليها توزيع أي أرباح وفوائض على أعضائها.
مع تغيّر رأس النظام في تونس في نوفمبر 1987 وتبنيه تدريجيا لخيارات اقتصادية أكثر فأكثر نيوليبرالية، ستدخل كرة القدم التونسية منذ أواسط التسعينيات مرحلة جديدة.
البداية كانت مع القانون عدد 104 لسنة 1994 المؤرخ في 3 أوت 1994 والمتعلّق بتنظيم وتطوير التربية البدنية والأنشطة الرياضية، والذي وإن لم يذكر بصريح العبارة كلمة “احتراف”، فإنّ الفصل 24 منه أدخل مصطلحا جديدا في عالم الرياضة التونسية: “تمارس الأنشطة الرياضية في إطار الهواية واللاهواية”. في نفس السنةـ سيتغير اسم الهيكل المسؤول عن فرق كرة القدم التونسية ليصبح “الرابطة الوطنية لكرة القدم غير الهاوية” بالنسبة للقسمين الأول والثاني، و”الرابطة الوطنية لكرة القدم للهواة” للأقسام الأدنى. بعدها بأشهر صدر القانون عدد 11 لسنة 1995 المؤرخ في 6 فيفري والمتعلّق بالهياكل الرياضية. ويُعدّ هذا القانون أول نصّ يتعلّق بالجمعيات الرياضية دون سواها من بقية أصناف الجمعيات. وقد نصّ على أن يكون تسيير الجمعية الرياضيّة تحت إشراف هيئة مديرة يتمّ انتخاب رئيسها ونائبه من قبل الجلسة العامة، ويقومان باختيار بقية أعضاء الهيئة، وأن يقوم تمويلها “أساسا من مداخيلها الذاتية المتأتية من نشاطاتها المرتبطة بصفة مباشرة أو غير مباشرة بموضوعها ومن مساهمات الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية أو المؤسسات الخاصة ومن الإشهار والاستشهار ومن الهبات ومن مساهمات أعضائها واشتراكاتهم”، وأن تخصّص وجوبا 20% على الأقل من مداخيلها المتأتية من الدولة والجماعات والمؤسسات العمومية لتكوين الرياضيين الشبان التابعين لها.
تعددت المنطلقات والنوايا والمبررات من وراء السير في نظام الاحتراف. فبالإضافة إلى خياراته النيوليبرالية، راهن نظام بن علي أيضا على الاحتراف لإحداث قفزة نوعيّة في كرة القدم بشكل يؤدّي إلى تحقيق نجاحات على المستوى القاري والدولي تُسوّق لاحقا كإنجازات للسلطة ودلائل على “نظرتها الاستشرافية” وريادتها “عربيا وإفريقيا”. كما ركّز الخطاب الرسمي حينها على أنّ الاحتراف سيمكّن من جلب مداخيل إضافية للجمعيات الأقل ثراء وتقنين تدفّق الأموال على الجمعيات الكبرى مما يقلص الهوة بين الفرق، ويقلّل اعتماد الجمعيات الرياضية على التمويل العمومي.
تحسّن الظروف الماديّة للاعبين في القسمين الأول والثاني وتفرّغ أغلبهم للعب كرة القدم بشكل كامل، وارتفاع أجور المدرّبين والتحسّن النسبيّ للبنية التحتية الرياضية كان له آثار إيجابية مثل تنامي حضور الأندية التونسية في المسابقات القارّية والإقليمية وفوزها بعدّة ألقاب، وتطوّر مستوى المنتخب الوطني الذي استطاع الحصول على كأس إفريقيا للأمم في 2004 وترشح عدة مرات متتالية إلى نهائيات كأس العالم، واحتراف عدة لاعبين تونسيين في بطولات أوروبية. وربما هذا ما شجع سلطة الإشراف على اعتماد صفة الاحتراف بشكل رسمي في 2005. لكن هذه الإنجازات كانت الشجرة التي تخفي الغابة.
لم تتقلّص الفروقات بين فرق الطليعة ووسط الترتيب وأسفله، بل صارت هوة سحيقة. انحصر التنافس على البطولة بين “الأربعة الكبار”، وحتى مسابقة الكأس التي كانت متنفسا وأملا للفرق “المتوسطة” و”الصغرى” تضاءلت مفاجآتها. أصبحت الميزانيات لا تقارن بين الفرق الرئيسية في الولايات الأكثر ازدهارا وفرق بقية الولايات خصوصًا الداخلية منها. واحتدم التنافس بين “الأربعة الكبار” على المواهب المحلية ثم تطور ليصبح هوسا بانتداب اللاعبين الأجانب، فأصبح الوسطاء و”قراصنة” اللاعبين عنصرا رئيسيا في المشهد الكروي. هذا الارتفاع الهائل في مصاريف اللعب في البطولة “غير الهاوية” قتل التنافس والتنوع. فرقٌ عريقة وجدت نفسها خارج القسم الأول وصارت تكافح بما استطاعت من قوة حتى لا يأفل نجمها تماما. فرق تتبع منشآت عمومية وتنشط بفضل تمويلاتها تدحرجت سريعا نحو الأقسام الدنيا ولم تستطِع العودة أبدا إلى قسم “النخبة”: نادي سكك الحديد الصفاقسي “الرالوي”، نادي سكك الحديد التونسي “الشيمينو”، النادي الأولمبي للنقل، الخ. هذا التدهور في الأوضاع المادية جعل أغلب الفرق تعجز عن استبقاء لاعبيها المتميزين الذين تصطادهم سريعا فرق طليعة البطولة المحترفة. كما أنّ التركيز بشكل مفرط على فرق كرة القدم المحترفة أدّى إلى حجب الشمس عن الرياضات الأخرى وفرق كرة القدم للهواة.
باختصار، اقتصر “الاحتراف” على زيادة سريعة في أجور اللاعبين والطواقم الفنية، في حين بقيت فرق كرة القدم جمعيات غير ربحية تعوّل على الموارد الخارجية، عمومية كانت أو خاصة، لاستمرار نشاطها، ولا تمتلك ملاعب ومنشآت رياضية خاصة بها. حتى المداخيل تتأثر بشكل كبير بحجم الفريق ونتائجه محليا وقاريا مما يخلق فوارق شاسعة في الموارد.
عائدات النقل التلفزي التي توزع بالتساوي بين فرق كلّ رابطة محدودة ومتذبذبة. أما مداخيل مسابقات الرهان الرياضي “البروموسبور” فلا توجد معطيات رسمية وشفافة حول مصيرها. تحوّلت “شركة النهوض الرياضي” العمومية 50% من مقابيض الرهانات الرياضية إلى “الصندوق الوطني للنهوض بالرياضة” الذي يقوم بدوره بتوزيع هذه العائدات على الجمعيات الرياضية. هذه الآلية التي انطلق العمل بها في ثمانينيات القرن الفائت تدرّ مداخيل هائلة بلغت حسب تصريح إذاعي لمديرها العامّ حوالي 680 مليون دينار ما بين سنتي 2011 و2021. لكنّ مداخيل “البروموسبور”، التي تحتكر قانونيا الرهان الرياضي في تونس، تراجعتْ بحدّة في السنوات الأخيرة بسبب المنافسة الشديدة من منصّات ومحلّات الرهان الرياضيّ الإلكتروني غير المرخصة وغير المراقبة، وتباطؤ البروموسبور في تطوير منتوجاتها ومنصّاتها.
كما أنّ مخصصات جامعة كرة القدم والدعم العمومي المقدم من قبل وزارة الرياضة والسلطات الجهوية والمحلية مرتبطة بحجم الفريق ونتائجه في كلّ موسم مما يجعل الأمر أشبه بحلقة مفرغة. أمّا الموارد المتأتية من الكونفدرالية الإفريقية لكرة القدم والجامعة الدولية لكرة القدم فهي تتعلّق بمشاركة الفرق التونسية في المسابقات القاريّة وعدد لاعبيها المدعوين إلى المنتخبات الوطنية. ونفس المعايير تقريبا تحكم عقود الاستشهار والرعاية، فمن المنطقي أن يذهب أهمّها إلى فرق النخبة الأكثر بروزا.
تأثيرات تفاوت الإمكانيات المادية بين الجمعيات الرياضية ستصبح واقعا قبيحا خلال العشرية التي سبقت ثورة 2011 وكابوسا في العشرية التي تلتها. وإذا ما كان عهد “الهواية” قد شهد هيمنة فرق المدن الكبرى، قبل أن ينحصر التنافس بين “الأربعة الكبار” خلال فترة “اللاهواية”، فإنّ عصر الاحتراف الكامل، أي منذ 2005 إلى اليوم، له عنوان واحد: الترجي الرياضي التونسي. هذا الأخير تحصّل على 13 بطولة خلال المواسم ال19 الأخيرة في كرة القدم، ولا تختلف الأمور كثيرا في الرياضات الجماعية الأخرى: 12 لقبا في كرة اليد و11 لقبا في كرة الطائرة (رجال). احتكار الفريق للنصيب الأوفر من الألقاب المحلية وتمثيلية تونس في المنافسات الإقليمية والقارية الكبرى كان له عظيم الأثر في تعميق الفارق مع الثلاثة الكبار والهوة مع بقية الجمعيات، ودرّ عليه مداخيل مختلفة مكّنته من ضمان حيّز مالي يعزز هيمنته من موسم إلى آخر. هذه السيطرة ليست بمعزل عن دور رئيس الترجي منذ 2007، حمدي المدب، الذي يترأس إحدى أكبر المجموعات الاقتصادية في تونس، والذي يضخّ سنويا أموالا طائلة في خزينة الجمعية مما كان له أثر كبير على نتائج فروعها وشعبيته الشخصية. هذا الدور الكبير الذي لعبه في تشكيل ملامح كرة القدم التونسية خلال العقدين الأخيرين سيؤثر بشكل واضح على صورة رئيس الجمعية في مخيال مشجعي كرة القدم وانتظاراتهم منه.
راهن بن علي راهن على الاحتراف لتحقيق إنجازات كرويّة تخدم دعايته
رؤساء ومسيّرو الجمعيات: من قيادات الحركة الوطنية إلى أثرياء جدد
خلال فترة التأسيس -أي زمن الاستعمار الفرنسي- كان أغلب المؤسسين والرؤساء الذين تولوا المسؤولية من المثقفين والأعيان وكبار التجار، وكان عدد كبير منهم منخرطًا في النضال ضد الاستعمار، فكانت كرة القدم بالنسبة لهم إحدى ساحات التحرّر الوطني. مع استقلال البلاد وبسط سلطة “الحزب الدستوري” عليها وإرساء نظام يتحكّم في كل تفاصيل المجتمع، أصبح تسيير الجمعيات الرياضية -بالأخص فرق كرة القدم الأكثر شعبية- يخضع لمعايير الولاء للسلطة التي تتدخل بشكل صريح وفجّ في اختيار أسماء المسيّرين. فكان “العرف” الجاري طوال فترة حكم بورقيبة وحتى من بعدها هو التوافق بين “كبار” الجمعية على اسم أو عدة أسماء ثم عرضها على السلطات لنيل مباركتها قبل أن تتم تزكية المرضي عنه خلال جلسة عامة للمنخرطين أو بدونها. وأحيانا تفرض السلطة أسماء من دون تشاور مع “كبار” الجمعية. وفي كل الحالات يكون رئيس الجمعية مواليا للسلطة، هذا إن لم يكن قياديا في هياكل الحزب الحاكم المركزية والجهوية. والملاحظ أنّ القسم الأكبر من رؤساء فرق كرة القدم في عهد الحبيب بورقيبة كانوا من الموظفين العموميين أو من ممارسي المهن الحرة كالأطباء والصيادلة والمحامين. منذ أواسط ثمانينيات القرن الفائت تراجع حضور الموظفين العموميين والمسؤولين الحزبيين في رئاسة الجمعيات وهيئاتها المديرة لصالح رؤساء من ممارسي المهن الحرة ورياضيين سابقين وأصحاب أعمال. وبعيد انقلاب الجنرال بن علي على بورقيبة في 1987 وتوليه السلطة، شهدت فرق كرة القدم متغيرات تتعلق أولا بالقوانين، وثانيا بمواصفات رؤساء الجمعيات. في 6 فيفري 1995 صدر أول قانون أساسي مخصص للهياكل الرياضية والذي نصّ على ضرورة أن يكون تسيير الجمعية الرياضة تحت إشراف هيئة مديرة يتمّ انتخاب رئيسها ونائبه من قبل الجلسة العامة (عموم المنخرطين) على أن يقوما من ثم باختيار بقية أعضاء الهيئة. لم تحترم السلطة السياسية النصوص التي صادقت عليها وواصلت تدخلها في اختيار رؤساء الجمعيات بشكل مباشر أو غير مباشر، وفق معايير الولاء والمصالح المشتركة والزبونية. مثلا ما بين 1987 و1989 تولى الهادي الجيلاني، صهر بلحسن الطرابلسي شقيق زوجة الرئيس بن علي، رئاسة الترجي الرياضي التونسي قبل أن يسلّم المشعل لسليم شيبوب، زوج ابنة الرئيس بن علي، ليدير الجمعية ما بين 1989 و2004. كما أنّ تبني وزارة الرياضة وجامعة كرة القدم لنظام “اللاهواية” ثم “الاحتراف” بسط السجاد الأحمر أمام سيطرة أصحاب الأعمال على رئاسة الأغلبية الساحقة من فرق كرة القدم في الأقسام العليا. هذه السيطرة هي نتيجة منطقية لتزايد نفقات الفرق “المحترفة”، فمن الصعب على موظف عمومي أو طبيب أو محامٍ أن يضخ ملايين الدينارات في خزينة الجمعية من ماله الخاص أو بفضل شبكة علاقاته.
بعد ثورة 2011 أصدرت السلطات الانتقالية المرسوم عدد 66 لسنة 2011 المتعلق بالهياكل الرياضية. واعتبر هذا المرسوم آنذاك خطوة نحو دمقرطة إدارة الجمعيات الرياضية إذ فرض عليها عقد جلساتها العامة الانتخابية وأن “تسير الجمعية الرياضية هيئة مديرة تنتخبها الجلسة العامة عن طريق الاقتراع.” تحررت جمعيات كرة القدم -مثل بقية الجمعيات- من القبضة الثقيلة للسلطة السياسية وإن لم تفلت منها كليا بسبب حاجتها إلى الدعم العمومي. لكن عمليا لم تتغير الأمور كثيرا، فقد ظلت بحاجة مستمرة إلى رؤساء من أصحاب المال والنفوذ. بل تفاقم الأمر أكثر مع قدوم فئة من الأثرياء الجدد الذين تحوم شبهات حول مصادر ثرواتهم. ولعلّ سليم الرياحي الرئيس الأسبق للنادي الإفريقي (2012 – 2017) هو الوجه الأبرز لفترة ما بعد الثورة. ضخّ الرجل، الذي كان أيضا رئيسا لحزب سياسي نبت فجأة واختفى بنفس الطريقة، مليارات في خزينة النادي العريق ووقع عقودا ضخمة مع لاعبين محليين وأجانب ثم انسحب من الفريق تاركًا إيّاه يتخبّط في أزمة ديون لم يتعافَ منها إلى اليوم. كما جرّ بقية الفرق الكبرى إلى سباق إنفاق غير عقلاني حتى تجاوزت ميزانيات بعض الأندية الـ 20 مليون دينار وحتى أكثر من ذلك بكثير (ميزانية الترجي الرياضي التونسي تقدر حاليا بحوالي 50 مليون دينار).
شعبية فرق كرة القدم وانفتاح المجال السياسي، وحتى نسمات “الحرية” و”العدالة” التي هبّت لفترة قصيرة على الرابطة المحترفة الأولى بصعود فرق من الوسط والجنوب الغربيين، شكلت عوامل مغرية لكثير من أصحاب الأعمال وحتى قيادات حزبية وأمنية أرادوا أن يراكموا رأسمال شعبي من خلال ترؤّسهم فرق كرة قدم. رأسمال يمكن لاحقا تحويله إلى مكاسب سياسية ومالية وحتى اكتساب “حصانة” شعبية. كثير من فرق كرة القدم المحترفة، خصوصًا “الصغيرة” منها، تضررت من هاته الفئة من المغامرين والمضاربين والمستثمرين الذين يخلقون حالة انتعاشة قصيرة النفس داخل الجمعية ويرفعون سقف أحلام مشجعيها قبل أن ينسحبوا لسبب أو آخر ويتركوا الفريق محاصرا بالديون والشكاوى فتبدأ رحلة عبور الصحراء.
ومع ارتفاع سقف انتظارات الجماهير ومطالبها مقابل ضعف مردودية “رأس المال الرمزي” لرئاسة جمعية كرة قدم، صار أصحاب الأعمال يتوجّسون من هذا المنصب ويتفادونه ويكتفون بتقديم دعم مالي والتدخل عن بعد. وهكذا صارت أغلب جمعيات كرة القدم حتى أكثرها بروزا (باستثناء الترجي الرياضي التونسي)، تجد صعوبة في إقناع أصحاب أعمال –وغيرهم- بالترشح لرئاستها، فتزايد اللجوء إلى الهيئات التسييرية المؤقتة وغير المنتخبة في ظل هذا العزوف.
“الإنجاز الديمقراطي” للسوسيوس هو افتكاك تمثيل داخل “لجنة الدعم”
جمهور خارج “اللعبة”
كرة القدم هي قبل كل شيء ومع كل شيء عرض مستمرّ لا يكتسب قيمته إلا من الجمهور. الجمهور هم “أولاد الجمعية” وروحها وعلة وجودها. “صنعها الفقراء وسرقها الأثرياء”، يقول “تيفو” رفعه جمهور النادي الإفريقي في إحدى المباريات. قد لا يكون النصف الأول من الجملة صائبا كليا، لكن ما هو مؤكد أنّ كرة القدم هي في أغلب دول العالم اللعبة الأقرب إلى قلوب الفقراء، وأنها تُسرق منهم كل يوم أكثر مع هيمنة “البزنس” وسيطرة الأكاديميات ومراكز التكوين وتشفير المسابقات والترفيع في أسعار التذاكر والاشتراكات، الخ. تونس ليست خارج هذا السياق العالمي، وتجربة “الاحتراف” المشوهة القائمة منذ قرابة ثلاثة عقود سلبت الجمهور الكثير من المتعة والسلطة.
وفي السياق التونسي هناك “خاصيات” أخرى ساهمت في إقصاء جمهور كرة القدم: سعي السلطة السياسية ما بين 1956 و2011 إلى التحكم الكامل في المجتمع وكل تعبيراته بالطرق الناعمة والخشنة على حد سواء، ثم سعي السلطات الأمنية بعد الثورة إلى السيطرة على الملاعب و”تعقيمها”. منذ ستينيات القرن الفائت توجست السلطة السياسية من “الخطر” الذي قد تشكله جماهير كرة القدم وسعت بمعية مسيري الجمعيات الرياضية إلى “تأطير” المشجعين وربطهم بهياكل مراقبة مثل لجان وخلايا الأحباء. وحتى خلال فترة الانتقال الديمقراطي (2011 – 2021) واصلت السلطات السياسية سعيها إلى التحكم في هذا “الخطر” عبر غلق الملاعب في وجه المشجّعين وعسكرتها والتحكم في توقيت المباريات وفي مسالك بيع التذاكر، بما يزيد من الاحتقان داخل الملاعب.
قانونيا، الجمهور له السلطة الأكبر داخل الجمعية. فحاملو الانخراطات يحقّ لهم حضور الجلسات العامة العادية والانتخابية وعرض مقترحات والتصويت على القرارات وانتخاب الهيئات المديرة. لكنّ الحاجة إلى الرئيس الأقدر على ضخّ الأموال تحوّل الانتخاب في جلّ الأحيان إلى عمليّة تزكية بلا رهان. كما أنّ “الأحباء” ليسوا سواسية، فلجان الدعم التي تضمّ رؤساء ومسؤولين سابقين في الجمعية والمشجعون الذين يتبرعون سنويا بمبالغ كبيرة لديهم سلطة معنوية أكبر وعادة ما تكون آراؤهم واختياراتهم حاسمة سواء تعلق الأمر بتزكية القائمات المترشحة لإدارة النادي أو اتخاذ القرارات التسييرية المهمة. فسلطة القرار داخل الجمعيات مرتبطة بالمال.
يسعى قسم من المشجعين الواعين بالحاجة الملحة لزيادة موارد الجمعيات الرياضية وضمان استقلاليتها المالية، والرافضين لفكرة تحويلها إلى شركة تجارية ربحية مملوكة لشخص أو مجموعة اقتصادية، والمؤمنين بضرورة أن يكون المشجعون هم الملاك الحقيقيين للجمعية، إلى اقتراح حلول بديلة واستلهام تجارب من دول أخرى. ومن بين هذه الحلول فكرة “السوسيوس” (Socios) أو المشجعين المساهمين في رأسمال النادي / الشركة الذين تخول لهم مساهماتهم حق المشاركة في اتخاذ القرارات والبرامج والتدخل في السياسة المالية، لكن من دون أن يتحولوا إلى مستثمرين أو ينالوا حصصا من الأرباح. وهي تجربة معمول بها في عدة دول لاتينية وأوروبية، ويعد قطبا الليغا الإسبانية برشلونة وريال مدريد من أبرز الأندية التي تقوم على هذا النموذج في العالم. بدأت التجربة في تونس في 2008 مع “سوسيوس” النادي الرياضي الصفاقسي، الذين أعلنوا عن برنامج طموح لزيادة موارد النادي وتدعيم سلطة مشجعيه في نفس الوقت. لكن الأحلام الكبيرة اصطدمت بعوائق أكبر أبرزها الإطار التشريعي المنظم للجمعيات الرياضية والذي لا يسمح للفرق بالتحوّل إلى شركات أو تكوين وامتلاك شركات، وكذلك عدم قبول “كبار” مسيري الفريق وداعميه الماليين بمقترح يقلّص سلطتهم المعنوية والفعلية بشكل كبير. في آخر الأمر ارتضى القائمون على مشروع “السوسيوس” حلا وسطا يتمثل في العمل على زيادة الموارد المالية للجمعية لكن تحت إشراف هيئتها المديرة. وهكذا تحولت شبكة “سوسيوس سي. اس. اس” إلى إحدى الهياكل الداخلية القارة للجمعية. ولم تتمكن هذه التجربة، بعد أكثر من عقد ونصف، من تحرير النادي من سلطة أصحاب الأعمال، إذ تبقى مداخيل المساهمات (في حدود 90 ألف دينار شهريّا) والمشاريع الاستثماريّة التي قامت بها، عاجزة لوحدها على تلبية حجم المصاريف المطلوبة بالمقارنة مع ضعف المداخيل القارّة. فكان “الإنجاز الديمقراطي” للسوسيوس، هو افتكاك تمثيل داخل “لجنة الدعم” إلى جانب بقيّة الممولين. ورغم انتشار الفكرة لدى جماهير بقية النوادي الكبرى في السنوات الأخيرة بأشكال مختلفة، إلاّ أنّها ظلّت غير قادرة على إدخال تغيير حقيقي في موازين القوى. فبقي الدعم المادّي للجماهير ظرفيّا، لتسديد خطايا وتفادي حصول الأسوأ، ومن دون أن تصاحبه دمقرطة للقرار داخل النوادي.
المتتبع لتاريخ كرة القدم التونسية يعرف جيدا مدى تأثرها بالوضع السياسي وخيارات السلطة الحاكمة. ولئن هبت بعض نسمات ثورة 2011 على ملاعب كرة القدم وحررت الجمعيات -نسبيا- من القبضة السلطوية المباشرة والخانقة، فإنها لم تتمكن من تخليصها من قبضة رأس المال والرؤساء “المنقذين”. ومع إنهاء مسار الانتقال الديمقراطي في 25 جويلية 2021 وهيمنة رئاسة الجمهورية على دواليب الحكم والمشهد السياسي، فإنّ القبضة السلطوية بدأت تلتف من جديد حول الجمعيات الرياضية. ويبدو أنّ الإطاحة برئيس الجامعة التونسية لكرة القدم وديع الجريء المسجون بسبب “شبهات فساد وسوء استغلال سلطة”، ليست إلا فصلا تمهيديا في انتظار المصادقة على مشروع القانون الجديد المنظم للهياكل الرياضية. هذا المشروع الذي روّجت له وزارة الرياضة منذ أواخر سنة 2022 وأدخلت عليه عدة تعديلات قبل اقتراحه على الحكومة، في انتظار مصادقة مجلس الوزراء عليه وعرضه على البرلمان. ولعل أخطر نقطتين في مسودة القانون حسب ما خرج إلى الإعلام، تتمثلان أولا في تضخم سلطة وزير الرياضة من خلال منحه حق تسليط عقوبات مباشرة على الهياكل الرياضية بما في ذلك تجميد النشاط، وثانيا في اقتراح إنشاء شركات رياضية تمتلك الهياكل الرياضية 34% من رأسمالها وسلطة القرار فيها، لكن من دون توضيح مصير ال66% المتبقية. هل ستكون هذه الشركات حلا يمكن من تنمية المداخيل الذاتية للجمعيات وضمان استقلاليتها، أم مدخلا لسيطرة المستثمرين على فرق كرة القدم كملاّك فعليين ودائمين وليس كرؤساء مؤقتين؟ ولئن أكد مسؤولون في وزارة الرياضة أنّ مشروع القانون في صيغته الأولى قد عرض على الهياكل الرياضية وكان محل نقاش معها، فإنه لا صدى حقيقي لهذه النقاشات. فهل هذا مؤشر على مباركة مشروع القانون أم هو خوف من التصادم مع الوزارة والسلطة؟
لقراءة وتحميل العدد 30 بصيغة PDF
لقراءة وتحميل الملف بصيغة PDF